البصرة.. شناشيلها وعشوائياتها

137

لم تحظ محافظة البصرة، اقصى جنوب العراق باهتمام لافت من الناحية المعمارية سواء في السنوات او العقود السابقة او في الوقت الحاضر، رغم انها المدنية العراقية الوحيدة المطلة على الخليج العربي و هي الميناء الوحيد لصادرات النفط العراقية و التجارة مع خليط واسع من الدول في ثلاث قارات هي اوروبا وآسيا و افريقيا، كما ان البصرة هي احد اهم المنافذ البرية الاساسية مع منظومة دول الخليج العربي من خلال دولة الكويت وهذه المنظومة عرفت تطوراً واسعاً على المستوى العمراني و المعماري ما يفرض تحديات اقتصادية و ثقافية ومعمارية استثنائية على البصرة الفيحاء، كما انه يثير انتقادات مقنعة حول عقد من الزمان اي منذ العام 2003 حيث لم تظهر في البصرة اية بوادر نهضة معمارية حقيقية و مدروسة.

ولجهة الحقائق العلمية، لم تشهد البصرة رغم انها من بين المدن النفطية في المنطقة اي تطور مهم في مشهدها الحضري اسوةً بنظيراتها المدن النفطية الاخرى في منطقة الخليج لأسباب معروفة للعراقيين و غير العراقيين ما جعلها من اكثر المدن تأخراً على المستويين المعماري و العمراني وكان الاعتقاد السائد ان عدم استقرار هذه المحافظة سياسياً و امنياً طيلة العقود الثلاثة الماضية شكل السبب المباشر لهذا التأخر غير ان بعض المعطيات على الارض حاضراً برهنت على ان قيام مشروع نهضة معمارية في البصرة غير وارد رغم ارتفاع انتاجها من النفط وموارده بدليل ان تقريراً صادراً عن الحكومة المحلية يشير الى ان ظاهرة العشوئيات قد تنامت بشكل خطير في هذه المدينة ما اسهم بصورة كبيرة في تشويه ما موجود من مشهد حضري يعتز به، كما ان انتشار العشوائيات يمثل انتكاسة معمارية بكل ما تعنيه الكلمة من دلالات في مقدمتها ان اية نهضة معمارية طموحة في البصرة سيتطلب منها ازالة مساحات واسعة و متفرقة من هذه العشوائيات وهذا يشكل عبئاً مادياً على العملية برمتها وسيحتاج الى المزيد من الوقت، كما ان العمل باتجاه نهضة معمارية في المدينة سيواجه الكثير من المخاوف من ان تعود هذه العشوائيات من جديد لأنه لا ضمانات لعدم عودتها في ظل ظروف عدم الاستقرار السياسي و الامني و الاجتماعي و الاقتصادي في العراق بشكل عام و البصرة بصورة خاصة.

وفي الواقع، عكس انتشار العشوائيات السكنية و غير السكنية، الغياب المفرط للمشاريع الاقتصادية الفعالة والتي يمكنها استيعاب اعداد كبيرة من الفئات المحرومة من اهالي البصرة، كما عبرت هذه العشوائيات عن تنامي الاتجاهات داخل الادارة و التي لا تعير اية اهمية للجوانب العمرانية و المعمارية في هذه المحافظة غير مبالية بتشوه معالم البصرة و سمعتها كمنطقة غنية بالنفط و التجارة و الزراعة.

ويبرهن انتشار العشوائيات بشكل صريح ودامغ على ان حركة الاستثمارات في البصرة متعثرة او مشتتة او متخبطة وهذا ما يفسر صعوبة تنفيذ نهضة معمارية رصينة وطموحة لأن النهوض بعمران وعمارة البصرة يتطلبان رؤوس اموال كبيرة .. ولأن البصرة مدينة غنية بحقول النفط يمكن للأستثمارات النفطية في المدينة ان تقنع وتوصل الى اجتذاب الاستثمارات الخاصة بالعمران وتنفيذ التصاميم المعمارية العملاقة، فوجود البترول يطمئن اولئك الذين يرغبون بتفعيل استثماراتهم في مجال النهضة العمرانية والمعمارية المتعددة والواسعة المرافق.

وعلى المستوى الثقافي، فقد عرف عن البصرة بأنها مدينة متفتحة و منفتحة ومتفاعلة ثقافياً مع المحيط العربي و الاقليمي اكثر من غيرها من المحافظات العراقية، بل ان البصرة من بين المدن العراقية في الجنوب التي تتميز بطابعها الثقافي الخاص و المؤثر والتي جعلها محط انظار كل الانشطة الثقافية و الفكرية و الادبية في العراق ما يملي على الحكومة المحلية في هذه المحافظة العراقية العريقة في تاريخها ان تضع ستراتيجيات معمارية تليق بالبصرة الثقافية و التجارية و النفطية لأن هذا التنوع يجب ان يترجم الى مستويات ابداعية من التنوع المعماري والذي يمكن ان يمنحها فرصة لكي تتحول البصرة الى منطقة استقطاب اقليمي على المستوى الثقافي و الاجتماعي لكونها تتميز بروح الانفتاح و التعايش مع الغرباء.

و يعني ذلك ان التصاميم المعمارية الخاصة بالبصرة لايمكن وضعها في قالب واحد وبالتالي تنوع هذه التصاميم ضروري لكي يتم التعاطي مع خصائص المدينة المتعددة كونها ميناء نفطياً و تجارياً للبضائع و السلع، كما ان مشهد السفن الراسية في مينائها يمنح الابداع المعماري استلهام مشاهد حضرية قد تكون فريدة وملفتة و لها رسائل انسانية وحضارية و سياحية موجهة الى القادمين من شتى انحاء العالم الى مدينة الفيحاء.

ومع التوجه الحالي لانشاء ميناء الفاو الكبير، فأن امام النظرية المعمارية في البصرة خياران الاول، ان يتم تشييد الابنية الشاهقة بعمارتها المعاصرة في منطقة الموانىء لترسم ومن الوهلة الاولى انطباعاً مريحاً عن التطور الحديث للمدينة. اما الخيار الثاني، فهو ان تجري المحافظة على الطبيعة البسيطة و التراثية للبصرة في منطقة الموانىء على ان يتم تشييد العمران المعاصر و عمارة الحداثة في عمق البصرة بعيداً عن ميناء الفاو بالتحديد والذي في الغالب ستتميز مرافقه المختلفة بتصاميمها المعمارية العالمية ومن شأن ذلك ان يعبر عن عراقة البصرة وقدمها دون ان يعني ذلك غياب تطورها المعماري الذي سيتلمسه القادمون كلما اوغلوا الى اعماق المدينة .. ولكل خيار من الخيارين معانيه المؤثرة في المشهد الحضري العام للمدينة.

وفي شط العرب ملتقى نهري وادي الرافدين دجلة و الفرات، فأن التصاميم المعمارية التي يمكن ان يتصورها العقل المعماري في التعبير عن معاني هذا المشهد الطبيعي و الانساني لن تقف عند حدود من الجمال و التأثير الروحي و الوجداني ليس على العراقيين الذين يسكنون الفيحاء او العراقيين القادمين من مدن اخرى بل ان تأثير هذا الابداع المعماري المنظور سيصل الى كل انسان تطأ قدماه البصرة ويتطلع ان يرى ما فيها من اهوار في القرنة و الحويزة وغيرها إذ تفتقر الدول الاقليمية الى هذا الخزين والثراء الطبيعي الموجود عبر التاريخ في هذه المدينة وفي المحصلة المعمارية يمكن ان تكون البصرة منفردة في التصاميم التي سيتوصل اليها المعماريون العراقيون عن نظيراتها من المدن النفطية في الخليج العربي اضف الى ذلك كله ان الآلاف بل الملايين من اشجار النخيل التي تغطي مساحات معتبرة من محافظة البصرة يجب ان تكون حاضرة في روح ومعاني التصاميم المعمارية لمدينة من اهم مدن التمور في العالم.

اما بيوت البصرة التراثية بشناشيلها المعروفة والتي شيدها المعماريون وفق طرز فريدة من الجمال والروعة قبل ثلاثة قرون والتي تمتاز باشكالها الهندسية المتداخلة فهي تراث معماري يجب المحافظة عليه لأنه يمثل الطرف الاساسي الآخر من التنوع الابداعي المعماري اي ان البصرة يجب ان تكون في ثوبها المعماري القديم ليعرف الزائر انها مدينة ضالعة في القدم و لها دور مهم في التاريخ، كما ان البصرة يجب ان تحصل على نصيبها من الحداثة والنهضة المعمارية المعاصرة لأنها مدينة اقتصادية بأمتياز وقد قدر لها ان تكون مدينة عالمية لأنها ستشغل الاعلام الدولي في السنوات العشرة المقبلة فهي ستكون المصدر الاكبر للنفط في العالم.

امام كل هذه الآمال و الطموحات ببصرة متألقة معمارياً، يبدو واقع المشاريع في مدينة الفيحاء على النقيض تماماً، فهذه المشاريع لا تعير اي اهمية للجانب المعماري الذي يجب ان تكون عليه البصرة ولذلك تبدو هذه المشاريع على قلتها متسرعة و متواضعة معمارياً وهذا عمل يضر بأي ستراتيجيات معمارية في الوقت الراهن او في المستقبل لهذه المدينة العراقية الساحلية الوحيدة بمعنى ان هناك مشاريع سكنية و سياحية وتجارية و انشطة اقتصادية اخرى لكنها مشاريع بلا روح معمارية وتخلو من اي استقراء للفكر المعماري الذي يرى ما بعد المشاريع و ما بعد البناء، فالمهم للبصرة كمدينة عراقية ليست كبقية المدن تكون مشاريعها بدلالات وتجليات معمارية بامتياز.

ومن بين ابرز الملامح المحبطة لهذه المشاريع، غياب التنسيق بين وزارة الموارد المائية التي لها مشاريعها الخاصة بالنسبة لمنطقة شط العرب وهي مشاريع بطيئة الانجاز للغاية و بين مجلس المحافظة الذي لازال يتحدث في مرحلة اولويات البناء في البصرة ولم يتسن له الانتقال و التفكير بنوعية هذا البناء و شكله و معانيه وهي تمثل مشكلة بحد ذاتها اضف اليه ان عمل وزارة البلديات لازال متعثراً في اقامة شبكات الصرف الصحي ..

كل هذا الغياب على مستوى التنسيق وجودة المشاريع سيؤثر سلباً على التوجهات لنهضة معمارية في البصرة.

المثير للجدل ان الكلام عن اهمية البصرة لا يرقى الى حالة الانسجام بين هذه الاهمية التي يتحدث بها و يعرفها الجميع وبين المشاريع العمرانية والمعمارية التي تمت المباشرة بها او التي يراد تنفيذها في السنوات المقبلة ولذلك ومن النظرة الاولى معمارياً، يجب على اي نهضة معمارية في البصرة ان تأخذها الى مصاف المدن الاقليمية الكبيرة وان تكون منافساً حقيقياً لهذه المدن في ابنيتها المعمارية المعاصرة والا ستبقى البصرة موضع حسرة و انتقاد دائمين.

*معمارية و اكاديمية

إقرأ ايضًا