التجريد والتعاطف نظرتان فلسفيتان إلى العمارة

168

يسود اللغط في بيئتنا المعمارية المحلية حول مفهوم الفلسفة في العمارة , حتى أن بعضنا للأسف لم يسمع بها, ولكن المفاجىء قد يكون أنها لطالما كانت ولازالت عنصراً أساسياً في الخلطة المعمارية _ إذا صح القول. إضافةً إلى ذلك نجد الكثيرين ممن يخلطون بينها وبين الفكرة المعمارية, ولتوضيح أرضية الدراسة التي نحن على وشك الخوض بها سنعرف باختصارٍ شديد:

الفكرة المعمارية: هي الفعل الابداعي والحل الخلاق للمشكلة المعمارية لأجل تحقيق هدفٍ معين يفرضه برنامج التصميم . وقد تكون الفكرة بسيطة ًأو معقدة, مفاجئةً أو متوقعة, اقتصاديةً أو مكلفة, مميزةً أو عادية. وتحكمها في العملية التصميمية جميع العوامل التي يتطلبها البرنامج التصميمي من موقع وطبوغرافيا – عوامل بيئية مناخية –عوامل دينية و ثقافية –شروط ديموغرافية – جوار عمراني –شروط وظيفية –محددات انشائية –عوامل اقتصادية –ميزانية مالية – متطلبات جمالية …

أما الفلسفة المعمارية: فهي الفكر المحرك, طريقة نظرتنا إلى العالم وفهمنا للكون الذي نحاول العيش فيه وإعماره, وقد تسبق النتاج المعماري وتتسبب في قولبته, وقد يولدها هذا النتاج ويخط مبادئها. ولا يشترط فيها أي شرط يتدخل بالبرنامج التصميمي .

ولطالما شكلت الفلسفة مع الفن والعلم ثالوثاً لا ينفصل تتبدل رؤوسه دائماً, فقد يكون الرأس هو العلم ليفتح الطريق أمام الفن والفلسفة, وأحياناً يأتي الفن عند الرأس ليقدم القوانين للعلم والفلسفة, وأحياناً تكون الفلسفة من يقود الطريق أمام الفن والعلم وهذا ما سنوضحه عبر الاستعراض التاريخي, وسيكون ما سيلي مستمداً مما كتبه ريتشارد بادوفان في كتابه “التناسب: علم فلسفة عمارة”؛ حيث شرح الكاتب ما سماه فلسفة التجريد وفلسفة التعاطف كأساس لفهم موقفنا تجاه العلم بشكلٍ عام ونجاه العمارة بشكلٍ خاص.

ولهذا اختار بدايةً البدء من العلم لتوضيح الأرضية الفلسفية العامة, حيث يبدو من المناسب البدء بالتساؤل الذي كان موضع نقاشٍ بين الرياضيين والفلاسفة منذ أيام فيثاغورث ( 530 قبل الميلاد ), وهو فيما إذا كانت الرياضيات متأصلةً في الطبيعة ومستمدةً منها بواسطة المنطق البشري , أم أنها من إنشاء الذهن البشري الذي فرضها على الطبيعة لكي يقيسها.

يقول هيرمان ويل Hermann weyl)) في كتابه “التناسق”(Symmetry): “هناك شيءٌ في الطبيعة من التناسق المخفي الذي يعكس نفسه في عقولنا تحت صورة القوانين الرياضية البسيطة, وهذا هو سبب كون الأحداث في الطبيعة متوقعة من خلال تركيبةٍ من المراقبة والتحليل الرياضي .”

وهذا ما يقود بادوفان إلى الاستنتاج أن “الرياضيات ليست مجرد أداة معرفة بل هي جسم : ليست طريقةً بل هدف “. ولكن عكس هذه الفكرة منطقي أيضاً فقد تكون الرياضيات عبارةً عن رموزٍ وإشارات قام الإنسان بابتكارها لترميز معرفته عن العالم من حوله؛ وبكلمات بادوفان: “وعلى النقيض تماماً, يمكن اعتبار الرياضيات إنشاءً اصطناعياً بحتاً ونظام إشارات تقليدية وقوانين للتلاعب بها. وهكذا يتم رفض جميع التأكيدات حول الطبيعة المطلقة للكون سواء كانت رياضية أم لا, يتم رفضها على أنها ” ميتافيزيقية “. فلا توجد معرفةٌ ممكنة إلا من خلال الحس, ولكن هذه المعرفة, هي في أحسن الأحوال, غير أكيدة”. فهو يرى أن حتمية الرياضيات تأتي من كونها من صنع الإنسان, أما عدم حتمية الطبيعة فتأتي من حقيقة أنها ليست من صنعه. فلكي نعرف شيئاً يجب علينا صنعه بأنفسنا, فالحقيقة تعني حرفياً ( Fact ) أي مصنوعة ( Factum ). فإذا كانت الطبيعة كظاهرة تبدو عندما نحقق بها وكأنها تؤكد تماماً قوانين الرياضيات , فإن هذا يعود إلى أن تحقيقنا يأتي من النظر إلى الكون من خلال نظاراتٍ من صنعنا نحن. وهذا بكلمات السيد آرثر إيدغيتون الذي وضع عام 1919 الفحوص التي أكدت نظرية النسبية لأينشتاين : ” لقد وضع الذهن بقدرته الانتقائية عمليات الطبيعة في إطار القانون أو النموذج الذي اختاره هو , وباكتشاف نظام القانون هذا يمكن اعتبار أن الذهن يعيد الاكتساب من الطبيعة ما وضعه هو في الطبيعة” .

ولقد أطلق مؤرخو الفلسفة على وجهتي النظر المتناقضتين هاتين أسماء عديدة مثل ” الواقعية ” (Realism ) و ” العقلانية” Rationalism) ) من جهة , و (Nominalism ) و” التجريبية ” Empiricism)) أو “الايجابية” ( Positivism) من جهةٍ ثانية. لكن مشكلة هذه الاصطلاحات من وجهة نظر بادوفان تكمن كونها قد تم ربطها بفتراتٍ تاريخية معينة أو أنها اتخذت معانٍ مختلفة بحسب القرن الذي تمت الإشارة إليها فيه. وبما أن اهتمامنا هو العمارة وليس الفلسفة, فقد اعتمد بادوفان على تضمين إشاراتٍ فنية_ تاريخية لذلك قد اقترح المصطلحان “التعاطف Empathy” و”التجريد Abstraction” اللذان استخدمهما وليام ورينغير William Worringer)) في عام 1909.

لذلك نجد أن ريتشارد بادوفان قد وصف “بالتعاطف” الميل للتمسك بكوننا جزءاً من الطبيعة, فنحن نمتلك علاقةً طبيعية بها وقابليةً ابتدائية لنعرفها ونفهمها. ويسمي لوكوربوزيه هذه الـعلاقة بـ ” أثرٍ غير قابل للتعريف للمطلق الذي يكمن في أعماق كونيتنا” . كما وصف “بالتجريد” الإنشاءات الاصطناعية التي نواجه بها الطبيعة لكي نفهمها بطريقة ما ونحكمها.

حيث يقودنا المفهوم الأول إلى الفن “الطبيعي – الانطباعي” _ وفي حالة العمارة إلى تمثيلٍ استعاري للأشكال الطبيعية, مثلاً من خلال محاكاة نسب الجسم الإنساني . أما الثاني فيقودنا إلى الفن ” التجريدي ” وفي العمارة , إلى العمارة التي لا يوجد فيها مرجعية للأشكال الطبيعية . فالعمارة مثلاً بالنسبة للكوربوزيه الذي يعتبر بالنسبة لبادوفان “بطلاً من أبطال التناسب” وينتمي تقريباً عالمياً إلى المدرسة التعاطفية: “هي التجلي الأول لخلق الإنسان لكونه الخاص خالقاً إياه في صورة الطبيعة خاضعاً للقانون الذي يحكم طبيعتنا وكوننا ……….. إنها تصميمية عليا توضّح لنا خلق الطبيعة. وتعطينا أمان شيء متوازن ومصنوع بحكمة, شيءٌ متطورٌ ومتنوع وموحد.” .

أما في مواجهته يضع على طرف النقيض الناسك الدانمركي والمعماري دوم هانس فان درلان, الكاتب المعماري الوحيد الذي اقترح نظريةً تجريبية للتناسب بشكلٍ لا يضاهى, وهو يكتب قائلاً: “يعتمد فهمنا كلياً على إدراكنا الحسي, فلا توجد معرفةٌ ممكنة إلا ويجب أن تمر أولاً من خلال الحواس “.

ويؤكد ذلك نظام التناسب الذي اكتشفه وهو الرقم البلاستيكي , والذي لم يتم اشتقاقه من الطبيعة وتطبيقه على العمارة ولكن على العكس تجلى في العمارة وتم تطبيقه على الطبيعة ” . حيث يرفض بشكلٍ تام تصميم وتحديد لوكوزبوزيه الطبيعي: “لا يتم تحديد شكل المنزل ….. من خلال الطبيعة مثل عش الطائر … فحين يطرأ تفكير الإنسان كمبدأ تشكيلي يظهر حينها فوراً صدعٌ في عالمٍ متجانس من الأشكال الطبيعية .”

وبكلمات بادوفان:

“من وجهة نظر التعاطف أن تعلم شيئاً يعني أن ننتمي إليه : لذلك يمكننا معرفة وفهم الطبيعة لأننا منها : والرياضيات هي مفتاح هذا الفهم لأن الطبيعة هي بشكل أساسي رياضية. ولكن من وجهة نظر التجريد لنعلم شيئاً ما يجب علينا صنعه بنفسنا أي أننا لا يمكن أن نعرف الطبيعة لأننا لم نصنعها: ولكننا يمكن أن نفسرها من خلال الرياضيات لأن الرياضيات من صنعنا”.

تكمن النظرة العامة للفن الانطباعي في عكس الطبيعة ومنها مثل المرآة, و هو يلعب دوراً سلبياً تماماً في علاقته معها. أي أن الفن يتبع للطبيعة ويعكسها فقط. ولكن في كتابه الأخير ” الشكل في القوطية) ” Form in Gothic ) 1912 , أشار ورينغنير إلى عكس هذه الحقيقة فوصف التعاطف على أنه : ” اسمٌ جديد لوحدة الإنسان مع العالم , أي الخضوع التام بشكلٍ كامل للعالم من خلال الذهن والحواس , التي تبطل الازدواجية ( dualism ) الأصلية ….و…. بحيث يوازي التطور الفني بشكلٍ صارم هذا التطور الديني …. فيصبح الفن مثل عالم الآلهة الإغريقي , أي جعل الطبيعة مثالية .”

وقد قدم عالم النفس كارل جنغ نفس الملاحظة في فصل عن ” نوع المشكلة في علم الجمال ” في كتابه ” أنواع نفسية ” 1921 . فهو يربط التعاطف مع الانبساطية و الاهتمام بما هو خارج الذات extroversion) ) , والتجريد مع الانطواء الذاتي (introversion), ويشير أن التعاطف يفرض مسبقاً خلواً ابتدائياً للجسم . لكي يستطيع الفاعل ” الفنان ” ملأه بقدرته الحيوية وإرادته الخلاقة ” . وكما هي حال المخالطة الاجتماعية السهلة الخاصة بالانبساطيين , تتضمن الرؤية الكلاسيكية للطبيعة درجةً من التغاضي عن هوية الجسم ( الآخر ), إي تحوله إلى ما يريده الفاعل وما يتمناه أو ما يعتقد أنه ما يتوجب أن يصبح عليه. فالنظام والتناسق الذي يستوعبه الإنسان الكلاسيكي ( أو لوكوربوزيه ) في العالم الخارجي هو نفسه يفرضه فيه .

كما إن هذا الفرض – الذاتي يتم دون وعي على الأغلب, فالفنان يعتقد فعلاً أنه يقوم بمجرد تفسير طبيعة الجسم.غير دارٍ أنه من خلال تعريف نفسه مع الجسم, فإنه يدمج نفسه به . فهو بنفس الوقت يحوله في صورته الخاصة به ( بالفاعل ), وبالنظر إلى الجسم فإنه لا يلاحظ أنه يرى انعكاس نفسه .

لقد اشتق ورينغنر مفهوم إخضاع الأشكال الطبيعية للإرادة الإنسان هذا, من مبدأ لويس ريغل في” النية الفنية” ” artistic volition ” أو ( Kunst wollen ): ” بما أننا نميز كدورٍ ثانوي فقط , ذلك الدور الذي يلعبه النموذج الطبيعي في العمل الفني , ونفترض أن النية الفنية المطلقة – التي تنصّب نفسها سيّد الأشياء الخارجية و تعتبرها مجرد أجسامٍ لتتم الاستفادة منها – على أنها العامل الأولي في العملية التي تولّد العمل الفني, فإنه من المنطق أننا لا يمكننا قبول التفسير الشائع لطراز المفهوم ……… ( أنه ) يتضمن, كعاملٍ حاسم وأولي, محاولة و مسعى تمثيل (render ) النموذج الطبيعي.” .

وهكذا يتضمن التعاطف إسقاطاً خارجياً يفرضه ويطبقه العقل الإنساني على الطبيعة, قبل أن يعني امتصاص الطبيعة إلى العقل, إنه ذاتي ( subjective ) قبل أن يكون موضوعياً (objective). يكتب ورينغنر: “تكمن قيمة الخط في شكلٍ ما بالنسبة لنا , في قيمة الحياة التي يحتفظ بها لنا. إنه يتمسك بجماله فقط من خلال إحساسنا الحيوي الخاص الذي نسقطه ( project ) عليها بطريقةٍ غامضة.” .

وبهذا يتبع مقولة ثيودور ليب الذي كتب : “إن شكل جسمٍ ما هو دائماً كونه – مشكلاً بواسطتي , أي بواسطة فاعليتي الداخلية . إنها حقيقةٌ أساسية لكل علم النفس . وبالتأكيد لكل الجماليات ( علم الجمال ) أن ” جسماً معطىً بشكلٍ حسي , ومفهومٌ بشكلٍ صحيح هو ليس واقعاً , شيءٌ ليس ولا يمكن أن يكون موجوداً . فهو بهذا موجودٌ بالنسبة لي – والأجسام كهذه هي وحدها التي تخضع للمساءلة – إنه ينفذ من خلال فاعليتي من خلال حياتي الداخلية .”

لذلك يتضح لبادوفان أن “التعاطف ليس تطبيع الإنسان (جعله من الطبيعة), بقدر ما هو تأنيس الطبيعة (جعلها أنسية)”.

كما يتطابق التناقض ( التضاد ) في التعاطف – أنه تأنيس للطبيعة أكثر من كونه محاكاة لها _ من خلال تناقض مشابه ضمن التجريد . حيث يبدأ التجريد , كما يشير جنغ, بوعينا لوجود الطبيعة القوي , وبنفس الوقت لانفصالها عنا . فهو يقترح مسبقاً قوةً عاملة وحية معينة على جزءٍ من الجسم , ومنها فهو يسعى ليفصل نفسه عن تأثير الجسم . وهكذا فإن الموقف التجريدي جابذ أي منطوي على نفسه.

ومن المهم ذكر أن ورينغنر يصف تأثير الجسم بعلاقةٍ مع “الخوف أو الرعب”. فإذا كان التعاطف هو إيمان واثقٌ من نفسه بقدرة الإنسان على قهر الطبيعة و إخضاعها . عندها يكون التجريد احتراماً مرهوباً للطبيعة على أنها قوةٌ غير معروفة وغير قابلةٍ للسيطرة . ومرةً أخرى فإن النظرة العامة – أن التجريد هو إنكار للطبيعة _ هي نظرة خاطئة . فالتجريد الحقيقي هو توسطٌ و تقطيرمن الطبيعة . أنه يبدأ بحسٍ قوي جداً بالخوف من العالم الطبيعي .

وهكذا يستنتج بادوفان أن كلاً من التعاطف والتجريد هما, على عكس فهمنا الساذج لهما, حيث يتوضح أن الفن الانطباعي للتعاطف يدين أكثر بكثير للإنسان, وأن الفن التجريدي يدين أكثر بكثير للطبيعة مما قادنا الى افتراضه مؤسسو ” الانطباعية” و” التجريد “. ففي داخل كل تعاطفي هناك تجريدي يصارع ليخرج والعكس صحيح. وتكمن هذه التضادات ( المتناقضات ) في جذر المشكلة ليس فقط الخاصة بالفن وإنما بمعرفتنا بالعالم.

لقد شغلت الفلسفة في أيام الإغريق الأولى. وأظهرت نفسها في القرون 17-18 بالتضاديين العقلانيين أمثال ديكارت وليبنز والتجريبيين أمثال لوك وبريكلي وهيوم. وكما هو حال التعاطف, فإن العقلانية تقارب الطبيعة كما لو أنها ” نابذة ” (centrifugal ) من الداخل إلى الخارج ابتداءاً من الذهن المنطقي ( cogito ergo sum ). ولكن التجريبية, كما هو حال التجريد, “جابذة” ( centripetal ). تبدأ بتجربة الأشياء من خلال الحواس وتنتهي بإستنتاج أننا لا نستطيع بشكلٍ نهائي أن نحصل على معرفةٍ مؤكدة للطبيعة, ولكن تقتصر فقط على حواسنا والأشياء التي نصنعها بأنفسنا.

وكتطبيقٍ معماري لوجهتي النظر الفلسفتين هاتين نجد أن بادوفان قد قدم لوكوربوزيه على أنه (المعماري الكلاسيكي ) الذي يمثل التعاطف, ودوم هانس فان در لان على أنه ( الحديث الفطري ) ( primitive modern) الذي يمثل التجريد.

فبالنسبة للكوربوزيه فإن الطبيعة – بحسب رؤيته الإنسانية – هي مثالية متناسقة وكونٌ مرتب رياضياً . وإذا كان هذا الكون متجانساً مع الإنسان , فذلك لأن الانسان قد فرغه مسبقاً من كل شيء يهدد رؤيته الخاصة. يكتب لوكوربوزيه في كتابه ( نحو عمارة جديدة ) : ” العمارة هي أول تجلي لخلق الإنسان لكونه الخاص …….” . وإذا كان الإنسان قد خلق كونه ” بصورة الطبيعة ” فذلك فقط لأن لوكوربوزيه لم يشك قط أن قوانين الطبيعة هي قوانين ” طبيعتنا ” .

في كتابه ” نحو عمارة جديدة ” وهي مجموعة مقالات متنوعة مكتوبة بأمزجة مختلفة تبدو فيه تناقضاته أقرب إلى السطح. يعرّف المنزل في مرحلةٍ ما “بآلةٍ للعيش” يحوي “الحمّام, الشمس, المياه الحارة والباردة، والدفء عند الحاجة، حفظ الطعام، النظافة, الجمال بمعنى النسب الجيدة ” وفي مرحلةٍ أخرى, يطالب أن الجدران يجب ” أن تعلو نحو الجنة بطريقة تحركني …. هذه هي العمارة ” .

ويبدو الصراع واضحاً في كتابه “العمران” Urbanism) 1924): “إن الإنسان الذي تم خلقه بواسطة الكون هو خلاصة هذا الكون فيما يتعلق به هو شخصياً, فهو يتابع بحسب قوانينه ويؤمن أنه يستطيع قراءتهم, فقد وضعهم هو وصنع منهم مخططاً متماسكاً وجسماً عقلانياً من المعرفة يستطيع بحسبها أن يعمل ويكيف وينتج… تقدم الطبيعة نفسها لنا كفوضى ….. إن المنظر الفعلي الذي نراه بأجزائه المتغيرة وأبعاده المبهمة هو عبارة عن ارتباك. فلا يوجد هناك شيء يشبه الأجسام و الأشياء التي نحيط بها أنفسنا والتي صنعناها ….. ولكن الروح التي تحرك الطبيعة هي روح نظام: قد تعلمناها , فنحن نميز بأنفسنا بين ما نراه وتعلمناه أو عرفناه . لذلك فنحن نرفض المظهر ونربط أنفسنا بالمادة “.

يبدو هذا المقطع مليئاً بالتناقضات بالنسبة لبادوفان ومن هنا تتأتى عظمته , حيث يسمح لوكوربوزيه لجانبي الطبيعة ( طبيعتنا ) أن يظهرا جنباً إلى جنب , فمن جهة صنع الإنسان الطبيعة وتحرك بحسب قوانينها, ومن جهةٍ أخرى , هو من وضع هذه القوانين. ” تبدو الطبيعة لنا على أنها فوضى ولكن الطبيعة تتحرك وفق روح النظام “. ويتم حل التضارب حين يحله أفلاطون: من خلال التمييز بين المظاهر والمعرفة. فعالم المظاهر ليس أكثر من انعكاسات مرتبكة للنظام الكامن للطبيعة, و يتجلى عالم المواد الحقيقي (substance) والمبادئ الذهنية في الهندسة. وهذه يمكن استمدادها من الظاهرة من خلال المراقبة الجيدة والتفكير. بينما تمثل العمارة لفان در لان تجريداً مفروضاً على الطبيعة: ” إطارٌ مطبق على الاستمرارية الطبيعية لكي نجعلها قابلة للقياس ومفهومة. ولكن هذا لا يعني أنه ليس لدى العمارة أي علاقةٍ مع الطبيعة, بل على العكس, فبالنسبة له كما للتجريبيين البريطانيين في القرن الثامن عشر, يتمثل صدامنا الابتدائي مع الطبيعة من خلال المناظر, نقطة انطلاقٍ كامل عملية تشكيل الفكر”. “فنحن نشتق معرفتنا أولاً من الأشياء المادية, عن طريق الحواس ومن هذه الصور الحسية يجرد الذهن أفكاره. وحين نمتلك تلك الأفكار نستطيع أن نربطهم بعلاقةٍ مع بعضها البعض عن طريق التفكير.” .

لا يعتبر فان در لان – على عكس ( هيوم ) – أن الصورة التجريدية الذهنية للطبيعة ليست نسخةً ضعيفة للانطباع الحسي الأصلي, ولكنها أكثر قوةً وأكثر حتمية. ولكن دون الانطباع الأولي ستكون وكأنها مزيفة وبلا جذر: لهذا الحد يوافق هيوم ويختلف مع أفلاطون, فبالنسبة لأولئك الذين يفهمون العالم عن طريق الحواس هو أدنى جوهرياً وأقل حقيقية: “الشيء الذي يصبح ويمر بعيداً , ولكن لا يمتلك أبداً أي وجود حقيقي” .

لذلك فالرقم البلاستيكي لا ينتمي لعالم أفلاطون الخاص بالرياضيات البحتة, ولكنه يؤسس جسراً بين التجريدي وعالم الظاهرة المتماسك:”يمتلك فراغ الطبيعة ثلاثة جوانب تتركنا في حالة خسارةٍ للحقيقة المحضة التي نشير بها إلى الفراغ الطبيعي مستخدمين مصطلحاتٍ سلبية مثل “غير قابل للقياس”, “غير مرئي” و”غير محدود”, تشير أنه ينقصنا شيء. فنحن لا نشعر بكليتنا في عناصرنا ضمنه. لذلك ليست العمارة شيئاً سوى ما تجب إضافته إلى الفراغ الطبيعي لجعله قابلاً للسكن ومرئياً وقابلاً للقياس” .

وبهذا فإنه يميز بين الانطباع الأولي الذي نتلقاه من العالم الخارجي من خلال الحواس, والتعبير الذي نطرحه باتجاه العالم بشكل الأعمال الفنية. فالعمل الفني يختلف تماماً بالمظهر عن انطباع الطبيعة الذي تم استحياء هذا العمل منه. إن أكثر جوانب هذا التجريد وضوحاً هي الهندسة ذات الأضلاع المستقيمة للأعمال الفنية الإنسانية. وفي حالة فان در لان, المستطيلات الخطية (rectilinerarity ) الصارمة في أعماله. إنها تستعيد الأشكال التي يحكم عليها سقراط في (Philebus ) أفلاطون على أنها تلك التي تعطي الصفاء المطلق وذلك السرور الحقيقي: “أعني بـ “جمال الأشياء” … خطاً مستقيماً , منحني , ومستوي وأشكال صلبة , و التي يمكن صنع مخاريط ومساطر ومربعات منهم ……. أعني أنها,على عكس الأشياء الأخرى , ليست جميلة نسبياً : فطبيعتها أن تكون جميلة بأي حال , كما هي ……. ” .

ثم في مرحلةٍ أخرى: يدرك أن العقل ليس مجرد متلقي سلبي لأي شيء يحدث من خلال الحواس, من العالم الخارجي ولكنه ينتقي بفاعلية المعلومات من ذاك العالم. أي أنها عملية ثنائية بين الجسم والذهن. كما بالنسبة لميس فان در روي: ” الحقيقة هي فهرس أبجدي (concordance ) للشيء والذهن ” . فالبنسبة لفان در لان ليس الذهن كما عند لوك ” صفحةٌ بيضاء خالية من أي شخصية ” تنتظر أن تتم الكتابة عليها من قبل العالم , ومن ناحيةٍ أخرى, لا يستطيع أن يعلم أي شيء فيما عدا ما يتم ادراكه من العالم . ففي هذه العملية يلعب الفن دوراً خاصاً , إنه يعمل كوسيطٍ في عمل تجريد الانطباع الحسي الأولي إلى جسم صافٍ من الفكر .

ويداخل فان در لان العالم الخارجي كعمليةٍ تبادلية ضرورية مثل التنفس. لكن السؤال ما الذي يأتي أولاً الشهيق أم الزفير؟ المشكلة بالنسبة لتضاد ورينغنر بين التعاطف والتجريد: ” إن التعاطف يبدأ بطرحٍ إلى الخارج نحو الطبيعة , والتجريد بسحبٍ إلى الداخل من الطبيعة . وعلى نفس النسق , يمكن تطبيق هذا المبدأ بين العقلانية الفلسفية و التجريبية : فبالنسبة للعقلانيين يمكن للمنطق دون مساعدة اكتشاف مما تتألف الطبيعة , بينما للتجريبين يجب إن تكون المرحلة الأولى انطباعاً من خلال الحواس . بالنسبة لفان در لان – مثل الحياة – يجب أن تبدأ بسحب للداخل ثم إعطاء للخارج : ” يبدأ التنفس عند الولادة بشهيق وينتهي عند الموت بزفير: لذا أيضاً عندما نضع شيئاً يجب أن نفهم تأثير الأشكال على عقولنا كحركة إعطاء حياة ابتدائية ” . ومثل تجريبيّ القرن 18 , يعتقد أن المرحلة الأولى في الفن والعلم يجب أن تكون أخذ المعلومات ,( انطباع): ” في المرحلة الأولى يعمل عقلنا بإدراك الأشياء الطبيعية , ثم يأتي أيضاً المنبه من الأشياء التي نصنعها بأنفسنا , ولكن تبقى أشكال الطبيعة دائماً نقطة البداية الموضوعية لصنعنا :هنا يتصل الفن ويكمل الخلق الطبيعي .” .

وبعكس إسقاط التعاطف المباشر للنفس على الجسم الطبيعي. تتضمن وجهة نظر فان در لان المجردة لإسقاط الإدراك الذهني لذاك الجسم على العمل الفني, والتي يمكن بدورها أن تزيد التجريد والفهم. بمعنى آخر, يصبح العمل الفني- سواءً كان رسماً أو منزلاً أو مقلاة –نفسه مصدر المعرفة, أي شيئاً مثل تجربة علمية. فليس الفن والعلم نشاطين منفصلين ولكنهما ضرورتين حياديتين. “تبدأ الحركة الصاعدة و النازلة بين الذهن ومنتجاته, بالمنتجات و ليس بالذهن. وهذا سبب أنه يجب على صنعنا أن يبدأ دوماً بواسطة التجربة و الخطأ…لذلك يحب أن نتعلم كيف نصنع من الأشياء التي نصنعها .”

” الفكرة التي يبدأ من قبلها فعلنا و صنعنا ” بنظرة رومانسية أكثر من كلاسيكية تجاه العالم :” ننزع اليوم خاطئين, للتركيز على ما يدعى بالتعبير الذي يتم بواسطته إسقاط مشاعر الصانع الفردية الى الخارج, من خلال وسيط الجسم المصنوع ….وعلى أي حال, يمثل هذا المبدأ نقيض رأي جميع الحضارات الكبرى التي طالما تاقت باتجاه التعبير الموضعي الذي ينبع من العمل نفسه.” وتمتاز الرومانسية (التي لا تزال بنظر فان در لان تسيطرعلى الحضارة الغربية) على جميع النواقص التقنية التي تكشف اليد الفردية للفنان, بتفسيرها و تفضيلها على أنها دليل عبقرية الفنان الفردية. وهذا ما يشبه نظرة جون رسكين الرومانسية (أنه يجب الاعتراف بأي درجةٍ كانت من عدم المهارة , بحيث يمتلك ذهن العامل مكاناً للتعبير فقط …و يعتبر طلب الكمال دوماً إشارةً لعدم فهم غايات الفن .. “

و لكن بالنسبة لفان در لان, لا يهدف الفنان الحقيقي للتعبيرعن ذهنه , بل للتعبير عن الجسم الذي يصنعه , كمثالٍ لنوعه. و كلما تطورت مهاراته, كلما كان العمل شاملاً وعاماً (universal) ونموذجياً , وكلما قلّ بقاء آثار الصانع الفردي . و في كلا الحالتين _ حالة لوكوربزيه و حالة فان در لان _ فإن النظام المكتشف في الطبيعة هو في الواقع إنشاء الإنسان , و النظام الرياضي في صنائعنا يبرره الاثنان بالتساوي . ويشدد لوكوربوزيه على وحدة الإنسان و الطبيعة , بينما يشدد فان در لان على ازدواجيتهما, و لكن – بحسب بادوفان – يمكن الاستدلال على الحاجة لنظام تناسب تماماً بنفس القدر , من خلال الاعتقاد بعدم قدرتنا على اكتشاف حتمية أي نظام في الطبيعة , كما من خلال الاعتقاد أن هذا النظام يوجد و يمكننا معرفته …… كل هذا هو سبب سعينا الدائم لإيجاد جسرٍ بين ما يدعوه أفلاطون “ما هو دائماً حقيقي و لا يصبح أبداً… وذاك الذي يصبح دائماً و لكنه ليس حقيقياً أبدًا.”

في النهاية, يجب إيجاد هدنة بين التعاطف والتجريد, من خلال الاقتناع أن الاثنان يحتويان بعضهما البعض. ( أي في كل منهما من العكس بمقدار ما في الآخر.) حيث يجب أن يقتنع لوكوربوزيه أنه قبل أن يعمل الإنسان بحسب قوانين الطبيعة, الذي صنعهم بنفسه: يجب أولاً أن يصنع مخططاً متماسكاً من فوضى الطبيعة الظاهرية. كما يجب على فان در لان أيضاً , ابتدءاً من حاجة الإنسان لعالمه الخاص الاصطناعي المحدود ضمن حدود عالم الطبيعة , أن يستنتج أن هذا العالم الصغير المصنوع إنسانياً , هو استنتاج ضروري لعملية طبيعية مماثلة. حيث يكتب في ( الفراغ المعماري ): ” إنه كما لو أن الطبيعة انتظرت عمل أيدينا ليكتمل” . وفي محاضرة قبل عشر سنوات: “إذا قارنت بيتاً بجسم الإنسان أو بشجرة أو كون مع كل نجومه وكواكبه , يمكنني فقط القول أن المنزل مثل عمل طفل , ولكن عندما اعتبر أن أعمالنا الفنية, من وجهة نظرٍ أخرى , تظهر كمجد الخلق , من هنا حدث شيء ما ضمن الخلق يقود كامل الخلق باتجاهه.” .

إقرأ ايضًا