حمص: مات الملك…عاش الملك!

79

كنت ممن أسرع لأرى ما نتج عن الصراع الدامي في منطقة حمص القديمة بعد ما تم إعلانها “منطقةً آمنة”، ولكن من عاش في حمص يعلم أن الصراع كان ممتداً أوسع من حمص القديمة، ليشمل حمص كاملة.

فصراع الشوارع الدامي، امتد في حمص حتى خارج أسوارها القديمة ليغطي ما يقرب ثلثي مساحتها، في حين بقي الثلث الباقي دون هذا الصراع.

مع ذلك فإن حقيقة تلك المناطق التي دعيت بآمنة؛ كانت آمنة “نسبياً” من الصراع في شوارعها ولكن سمائها كانت مليئة بقذائف الهاون الهاوية بين قاطنيها، وشوارعها تلوعت بنار السيارات المفخخة، وعليه لم يكن في حمص أي مكان آمن.

شاهدت حجم الدمار الذي بالرغم من مجاورتنا له يوماً بعد يوم لم أكن ولا أحد غيري يتخيل صورته الحقيقية حتى مشينا داخله. منذ بدايته ونحن نتحاور في مجالسنا حول شكل عملية بناء المدينة؛ وكيف يجب أن تكون دون المساس بذكريات الناس ومدخراتهم، حتى وإن لم يبق لها أثرٌ إلا في أذهانهم. وفي موقعنا المعمارية عملنا على التواصل بأهم المفكرين أمثال الفيلسوف البريطاني روجر سكروتن مطلقين مبادرة للمفكرين والمعماريين من أجل إيجاد حل لإعادة اعمار المدينة ومثيلاتها في هذا البلد العريق.

ومع كل الجدل والحوارات الدائرة رأيت الحل بعيداً عما يبحث غيري فيه؛ فالجميع اليوم يتحدث حائراً عن كيفية إصلاح كمٍ هائلٍ من الخراب تحت ضغط الحجم المخيف لآلام النازحين والمهجرين.

كل من عاش في سوريا يعلم أن المواطن السوري يجمع المال طوال عمره لاهثاً ليمتلك في النهاية منزلاً لائقاً؛ فالمنزل من أهم مقاييس القبول والرفض عند الزواج، وهو عامل مهم جداً في الاستقرار النفسي لدى السوريين.

ويعلم قاطنو المدينة قبل غيرهم الحجم الكبير لمناطق السكن العشوائي والتي أصبحت من ضمن النسيج الطيبعي للمدينة، حتى أن مساحة هذه المناطق وصلت لما يقارب ثلث المناطق المأهولة،دون أن يكون هناك سببٌ مقنع من الحكومة لعدم تنظيم العمران في هذه المدينة.

رؤيتي مبينة على قراءة للتاريخ وتلمّس لحاجة الناس للاستقرار وإيجاد مكان آمن للسكن، فالتاريخ يذكرنا بالمدن التي هجرها أهلها بسبب الحروب أو الكوارث، ليبنوا مدن جديدة قد تكون ملاصقة للقديمة، وحلهم هذا مبني على أنّ كلفة معالجة القديم المهترئ هي دائماً أعلى من بناء الجديد؛ والذي غالباُ ما يكون أكثر ملائمة، خاصة بعد دمار مدنهم، فهم تغيروا وتغيرت احتياجاتهم مما يدفعهم لوضع ضوابط جديدة لنمط حياة جديدة.

فعلى سبيل المثال، تدمر المدينة الأثرية التابعة إدارياً لمحافظة حمص هي مدينة أثرية قديمة معروفة تاريخياً، وهي التي كانت حاضرةً في زمانها؛ أما اليوم فهي مدينة يأمها السياح من أقصاع الأرض بعد أن هجرها أهلها من بعد ما طالها الدمار والخراب، وقد بنوا مدينةً ملاصقة لها ليقطونوا فيها مجدداً.

ولحمص المدينة بالأصل مشاكل متعددة من أهمها وجود مصفاة النفط في الجهة الغربية منها، في حين أن اتجاه الرياح السائدة فيها هو الغرب؛ وبالتالي لطالما عانى السكان من التلوث والأمراض المتعلقة به، إلى جانب تلك الأمراض الجسدية تسري في حمص_ كما في باقي سوريا، أمراض الفساد الإداري المتفشي، والذي سمح لتجار العقارات ببناء سكن لا يحقق أدنى شروط الصحة والسلامة للسكان حارماً الكثيرمن أبنيتها المحشورة فوق بعضها في حمص القديمة وباقي أحيائها في كثيرٍ من الأحيان حتى من الهواء والشمس. لقد عمل هؤلاء التجار على المضاربة بالعقارات حتى أصبح مركز المدينة ندرة بين سكانها بأن سعر المنزل فيها وصل في بعض الأماكن لمليون دولار وأكثر.

مع الكثير الكثير من الدمار ومع تلّمس حاجة الناس النفسية، أرى الحل من وجهة نظري بأن يكون من خلال بناء مدينة جديدة تكون ملاصقة للقديمة في الجهة الغربية لمصفاة النفط، تكون مصممة عمرانياً لتكون هي مدينة حمص البديلة. يتم فيها بناء المراكز الحيوية والنشاطات الاجتماعية والسكن الذي سيستبدل ذاك المدمر، لتكون كأي مدينة حضرية مبنية في هذا القرن، وبذلك يكون على الحكومة بدل من أن تعطي تعويضاً مالياً لا تملكه مباشرة للناس تقوم بتمليكهم بيوتاً في المدينة الجديدة. أما أصحاب الملكيات الكبيرة فيكون لهم حصصٌ تقابل مقدار ملكيتهم.

بالطبع سيطبق هكذا حل فقط في المناطق المدمرة، أما المناطق التي مازالت مأهولة فتبقى على حالها، وهي بطبيعة الحال أقرب للمدينة المحدثة من جهة الشرق. ومما يسهل هكذا إقتراح هو ملكية الدولة أصلاً للمساحة اللازمة من هذه الأرض وهي التي طرحت لها مخططات التوسع الجديد من قبل، كما أنها أراضٍ غير صالحة للزراعة وغير مستثمرة دون أي عائد اقتصادي.

بالنسبة للمدينة القديمة المدمرة يمكن تحويل القسم القديم منها الى أسواق تراثية وفنادق، وجعل المساحة الأكبر منها حدائق عامة ومتاحف؛ الأمر الذي تفتقر إليه حمص كلياً، بحيث يكون لأهل حمص المنتقلين أسهم في الاستثمارات فيها.

مع التأكيد على المحافظة على ما تبقى وترميم ما تضرر من أبنيتها الدينية القديمة كمسجد خالد ابن الوليد وكنيسة أم الزنارعلى سبيل المثال لا الحصر.

بمعنى آخر، خلق حياة ثقافية وترفيهية وتعليمية بحيث تبقى شرايين الحياة نابضة في هذا القسم ولا يتحول لمدينة أشباح، ضمن رؤية تخطيطية حداثية تحافظ على القيمة التراثية للمباني القديمة، مع إزالة السكن والمحافظة على المعالم التراثية وإحيائها من خلال مؤسسات ملحقة ولاندسكيب عمراني أخضر.

هذا الحل لن يحل أزمة إسكان المهجرين الذين تحولوا بمعظمهم لمعدمين وحسب، وإنما سيوفر سكناً قياسياً بسرعة وكفاءة لحالةٍ أصبحت طارئة ولا تحتمل التأجيل، كما سيوفر الكثير من الجهد والمال، سيحل مشكلة التلوث جذرياً، والأهم سيؤمن الإستثمار اللازم ويخلق ما كانت تفتقر له حمص أصلاً لتكون مدينة حية بالأساس.

بالرغم من قساوة هذا المقترح وما يمكن أن يشكله من صدمة إلا أنه وبقليل من التروي والتفكير يصبح الحل المنطقي الوحيد كما في حالة أي موتٍ سريري لا تبقى عنده فائدة من إبقاء أجهزة الإنعاش متصلة سوى هدر المال والجهد. مواجهة الواقع بمرارته خير طريق لمداوته، ومحاولة نفخ الحياة في جسدٍ ميت بدلاً من إلتقاط الحياة بجواره عبثٌ لا طائل منه. لذلك أسأل أليس من الأعقل والأسلم أن نعلن موت حمص القديمة ونبحث عن ولادة حمص جديدة.

بقلم: غسان جانسيز

المؤسس والمدير لموقع المعمارية