بعد سبعين عاماً على رحيله… معماري حتى الصميم

8

قبل الغوص في خفايا كتاب والتر بينجامين والعمارة، لابد لنا من التعريف مسبقاً بهذه الشخصية الجدلية.. والتر بينجامين كان أول ألماني يترجم لمارسيل بروست، إلى جانب فرانز هيسل، وقبل ذلك ترجم اللوحات الباريسية لبودلير، ولم يكن مترجماً فقط، إذ وضع كتاباً عن مرحلة الباروك الألمانية وترك دراسة مهولة (غير منجزة) عن فرنسا القرن التاسع عشر، وإلا أنه لم يكن مؤرخاً أيضاً، فقد كان تفكيره شِعرِياً، لكنه لم يكن ناظماً ولا حتى فيلسوفاً.

يبدأ الكتاب بسردٍ لوقائع انتحار بينجامين قبل سبعين عاماً، وتحديداً في الخامس والعشرين من أيلول، فقد وجد في فندقٍ على الحدود الفرنسية الإسبانية وقد ابتلع حبات المورفين بكميةٍ يعلم أنها قاتلة، هارباً من وطنه النازي آنذاك في طريقه إلى الولايات المتحدة… لقد كانت نهايةً مأساوية بالفعل اختارها بينجامين بنفسه.

ولكن وبكل تأكيد لم يعلم بنجامين آنذاك أن أفكاره ستحيا عمراً أطول من عمره، فقد حمل هذا الأديب المثقف المؤرخ واللاهوتي في داخله معمارياً من الدرجة الأولى، وتشهد على ذلك ترجمته لكتاب Teorie e storiadell’architettura بقلم المعماري الإيطالي Manfredo Tafuri في عام 1968، وهي أولى خطابات بينجامين المعمارية التي سلطت الضوء على موهبته الكامنة في هذا المجال.

وتظهر في هذا الكتاب مجموعة من المقالات بقلم نخبة المؤرخين والمعماريين، الذي اكتشفوا في كتابات بينجامين شيئا غير مألوفٍ البتة، حيث أنها تتعدى كونها مجرد نظريات لتحمل بعداً أعمق يتجاوز بأشواط الحقب الزمنية التي ظهرت خلاله.

فقد طرح بينجامين عدة أسئلة أبرزها كيف يمكن للعمارة أن تحافظ على هويتها في خضم الإفتراءات التاريخية؟ ما هي العلاقة بين الهندسة المعمارية والتكنولوجيا؟ ما هي الآثار السياسية المترتبة على التكنولوجيا الرقمية؟ ما هو دور التصوير الفوتوغرافي في التصور المعماري؟ كيف يمكن أن تساعدنا العمارة بأن نجد مكاننا في العالم؟

ويتجلى أثر بينجامين الأكبر على العمارة في مقالٍ لتيري سميث بعنوان “دانيال بين الفلاسفة”، حيث يكشف هذا المقال قدرة كتابات بينجامين على إيجاد مخرجٍ لدانيال ليبزكيند عندما كان يكافح معارضي متحفه اليهودي.

هنا لابد لنا من الإشارة إلى قيام الفنان داني كارافان بتكريم بينجامين في نصب تذكاري تم تشييده في Portbou المدينة التي شهدت مصرعه على الحدود الفرنسية الإسبانية، حيث يقودك النصب من خلال بوابةٍ مصنوعة من الفولاذ إلى الأسفل عبر درج عميق يصل إلى البحر، ويمكن أن نقرأ هذا النصب بمثابة دعابة تذكرنا دوماً بمقاهي باريس وقناطرها التي شرع بينجامين يكتب عنها في مخطوطته “مشروع الممرات المقنطرة” ولكنه للأسف لم يتمكن من إنجازها.

بتصرف عن مقالةٍ نقدية بقلم الصحفي غي هورتن من موقع آرش ديلي الإخباري المعماري.

إقرأ ايضًا