البنى التحتية قواعد البيانات للتصميم المعماري..رأي شخصي

6

أسهب Jordan J. Lloy، وهو معماريٌّ حصل حديثاً على درجة الماجستير، في مقالته Architecture beyond buildings في تحليله الشخصي لماهية العمارة ووجوديتها.

وافتتح مقالته في وصفه مجتمع النمل قبل أن يبدأ بالخوض في مجتمع البشر، بأن علماء الحشرات قد درسوا سلوك الحشرات ومجتمعاتها لقرونٍ عدة في محاولةٍ لفهمهم. وقد حقق العلماء إنجازاً في فهم سلوكيات الحيوانات في القرن العشرين عندما ركزوا في بحوثهم على دراسة كيفية تأقلم فصيلةٍ معينة مع النظام البيئي حولها ككل.

ولنأخذ النمل على سبيل المثال؛ فمعشر النمل لا يزرع ويحصد محاصيله فحسب، وبل ويستفيدون من بقايا وحطام ومخلفات الفصائل الأخرى في صناعاتهم الخاصة. صانعين بذلك أدويتهم العلاجية الخاصة ومبيدات الجراثيم أيضاً. فهم بالإضافة إلى بناء بيئةٍ يعيشون فيها من المواد التي يكررونها بأنفسهم، يقومون في نفس الوقت بالحفاظ على التربة وتغذية البيئة التي يسكنونها.

إذاً، ماذا لو استطعنا نحن البشر أن نصمم بيئتنا الخاصة بكفاءةٍ تتفاعل مع عالمنا الطبيعي؟ وهذا هو النقاش الذي سيشكل التحدي الأكبر لعالم التصميم خلال السنوات الخمسين القادمة. فلو استطعنا فصل العمارة عن فكرة “القطعة الفنية..أو المادة فقط” لوصلنا بعد خمسين سنةٍ إلى مرحلةٍ لا نجد فيها من يبحث عن مبنىً إبداعيّ، بل سيكون التركيز المستقبلي في العمارة على مدى التوائم مع البيئة والأرض والإستفادة قدر الإمكان من مصادر الطاقة المحدودة والحفاظ عليها. فلا يجب أن نطرح قضية التصميم كما عبّر عنها Bruce Mau بأنها “عالم التصميم”، بل يجب أن تكون “تصميم العالم”.

فمع كل التقدم العملي والصناعي والإقتصادي وحتى التكنولوجي ما زال المعماري أمام مهمةٍ واحدة؛ وهي البناء. وعلى الرغم من أن المصممين يعيشون مع الشعب في مجتمعٍ واحد، ويرضخون لأنظمةٍ سياسيةٍ وعلميةٍ واحدة، لا زالت الأهداف المعمارية تخضع للظروف الإقتصادية.

ولكن حان الوقت لنفهم بأن مهمتهم أعظم وأهم مما يتم تحقيقه الآن. فواجبات المعماري تعتمد على ربط التصميم بالأهداف، ربط الجمال بالمنفعة، ربط النتيجة النهائية للمبنى بطلبات العميل إرادته. والأهم من هذا كله، ربط المبنى بجواره، وعدم التركيز على بقعةٍ واحدةٍ وتجاهل ما قد يسببه البناء من ضررٍ للمجتمع. وهذا يقودنا للهدف الثاني، وهو بناء بنيةٍ تحتيةٍ سليمةٍ تناسب الأهداف المذكورة.

ولتبرير هذا التفكير المنحاز علينا أن نعلم بأن المسألة ليست مسألة خرقٍ للقواعد فقط، بل مسألة لعبةٍ مختلفةٍ تماماً حان الوقت لنلعبها، ولنطبق نظرية داروين على الأعمال ونشدد على أن البقاء للأصلح. وهنا يؤكد Jordan بأن البقاء لمن يستطيع مواكبة تغيرات العالم السريعة حولنا ويتأقلم معها. فمن أراد مشاركتنا في المسابقة الإقتصادية لمساحة 4*400 متر فمع تمنياتنا بالتوفيق، أما من أراد أن يشارك بالماراثون – وعلى اعتبار أن مشاكل العالم لا يمكن حلها بسرعة – فاليتابع القراءة.

والآن، كيف ستغير فكرة الترابط مفاهيمنا السابقة؟ ونجد الإجابة عند Mihaly Csikzentmihaly: إن الفكرة التي ستغير لعبة المعلومات هي إدراكنا أن فهم علاقات الأحداث والمواد والمراحل ببعضها البعض أهم من فهمنا لكلٍ منها على حدى. فقد حققت العلوم الغربية إنجازاً بطرحها تساؤلاتٍ بهذه الأهمية وتركيزها على التحليل، ولكن حان الوقت للبدء بعملية الربط بجدية.

وهنا يُفصّل Jordan بالعوامل التي تستدعي تغيراتٍ كالتي ذكرها؛ فبدايةً نجد أن زخم معلوماتٍ هائلٍ يجتاح المجتمعات المتطورة، ولكنها تفتقر لتطبيق هذه المعلومات. وهنا تُبرز فكرة الترابط نفسها، وتصبح مفيدةً للمصممين. وإنّ ربط الأفكار بالأبحاث الرائدة في المشاريع المعمارية سيخلق تكاملاً في العمل، ويخلق إمكانياتٍ متعددة ومجالات إبتكارٍ نجد أن قلةً منها هو ما تم اغتنامه حتى الآن.

والعامل الآخر هو وجود علماءٍ جدد، فالأسلاك والمواقع الإلكترونية مثل TED.com تربط مجتمع العلماء بالمصممين، وهذا وحده ما يمكنه خلق مجالٍ لتطبيق العلوم بطريقةٍ مفهومةٍ واضحة. ولكن تبدو فكرة مشاركة الأفكار أكثر ملائمةً لمجتمعاتٍ أوسع وأضخم مما نلمسه الآن، لتزيدنا وفرةً وثراءً بالأفكار والمفاهيم. وحسب تعبير بعض المؤلفين من Chris Anderson و Yochai Benkler بأن “الوفرة” هي عملتنا المستقبلية. وحسب تعبير Paul Stamets فتطبيق مبادئٍ كهذه هي ما ستكسبك مجداً وشهرة أمام عملائك والعالم أجمع.

ثم نجد Jordan يعبر عن مدى استنكاره لتناول مفهومين مترابطين كالعمارة والبنى التحتية وكأنهما كائنان منفصلان عن بعضهما. قائلاً: فكر بها للحظة، هل يمكن لأحدنا أن يقتنع بأن عمود الكهرباء البسيط الذي نراه في الشارع هو أهم إنجاز صناعيًّ ناجح في القرن العشرين؟! فهو منشأٌ ببساطةٍ، ويعمل بكفءٍ ويضخ الحياة للمجتمعات المتحضرة، ولكنه لسببٍ ما بقي معروضاً أمام العامة وهو بطول 25 متراً.

وينوه Jordan بأن هناك بعض المشاريع المعمارية الرائعة التي اعتمدت على هذه المفاهيم وعلى فكرة الترابط؛ ولكن بخسها الزمان حقها. فقد تصوّر Cedric Price عام 1967 مفهوماً جديداً لأنماط التعليم العالي، مستخدماً ومدعماً الطاقة، وقد قام بنقل البنى التحتية لإعادة إحياء مشروعه في وطنه. كما قام بربط الأفكار والأهداف من عدة مجالات، وصمم بنىً تحتيةً تجمع الصناعة والعلم في منظورٍ واحد، ومع ذلك بقي مشروعه Potteries Thinkbelt أحد أعظم المشاريع المعمارية التي لم يقدرها أحدٌ قط.

ومع ذلك فنحن نجد الآن إهتماماً محدثاً بمسألة البنى التحتية. وتضع حكومة أوباما مبلغاً هائلاً وجهداً عظيماً لإعادة تطوير المواصلات في أميركا وبُنى الطاقة التحتية لتواجه بها احتياجات الغد. وإن أوجدوا للخريجين الجدد مجالاً لتصميم البنى التحتية بالذات؛ فتأكد بأن أهدافهم قد تحققت. لأن القدرة على إيجاد العلاقة الوطيدة بين العمارة وبناها التحتية تبدو وكأنها التجديف داخل موجةٍ معماريةٍ جديدة.

ثم بعد تفصيل Jordan في مسألة أهمية البنى التحتية، تناول عاملاً آخر مهم على كل مصممٍ أن يدرسه جيداً قبل انخراطه في كوكبة العمل المعماري؛ وهو التعاون الإجتماعي ومدى التواصل والتفاهم مع الجوار. وذلك لأن القضايا المعمارية ستلامس البشر الساكنين في المبنى المقصود وأولئك الذين يحيطون به، وهذا ما يجعله واجباً على كل مصمم ألا ينظر لمشروعٍ تحت إمرته وكأنه أمرٌ خاص.

ولنأخذ على سبيل المثال مسألة الطعام وكيف عالجتها الحكومة البريطانية؛ فهي لم تتركه كشأنٍ خاص بأفراد حكومتها، بل اهتمت بمعرفة وتعريف شعبها بمن صنع هذا الطعام ومن جاء به.

ثم يضرب مثالاً بمشروع Sheffield Food Network الذي يعتبره الكاتب هنا مشروعاً مثالياً، تهدف فكرته لتقديم قواعد بيانات سهلة الاستخدام بيد الشعب للحصول على مصادر الطعام المستدام في Sheffield. هذا جوهر ما يدعو إليه الكاتب؛ فالبنى التحتية هي بمثابة قواعد البيانات، وخدماتها تعادل روح التعاون الإجتماعي.

بعض الناس لا يجدون ترابطاً بين ما ذُكر والعمارة أليس كذلك؟ إن مشاريع كهذه هي مشاريع تصميم البنية التحتية أساساً، ولهذا علينا النظر إليها كمشاريع مثيرة للاهتمام، لأنها تقدمنا لما هو أهم وأعظم، وتجعلنا نعمل معاً من أجل هدفٍ أسمى.

كما أنها تتصاعد في أهميتها مع الوقت وتنخفض في المقابل ميزانيتها. فما حققه مثلاً المشروع آنف الذكر؛ أنه قد سلب أنظمة التوزيع السابقة تسلطها الاقتصادي، ووضع نظام الطعام داخل نظام الوفرة، ليشكلا معاً طريقة توزيعٍ جديدةٍ تناسب الناس.

إذاً، تعتمد الفكرة ببساطة على أن نقلب اعتمادنا على أنظمة توزيع الطعام المعقدة، ممهدين بذلك الطريق أمام مشاريع تهتم لأمر المجتمع ولأمر الفرد.

وفي النهاية يكمن مغزى الكلام في تطبيق هذه النظريات على بقية نواحي الحياة، فالطعام كان نقطة البداية، وعلينا تطبيق ذلك على أنظمة التصريف الصحي ومصادر الطاقة واستراتيجيات إصلاح الأراضي في كل أرجاء العالم.

فنبني لها البنى التحتية اللازمة والتي يمكنها التوسع مع متطلبات الأيام والصمود في وجه المناخ والتربة وبقية عوامل الزمن، بالإضافة لدراسة مدى ملائمتها للناس ومدى تلبيتها لاحتياجاتهم. إن مجرد التفكير بقدرة المشاريع على المساهمة بشيئٍ أعظم وأسمى من مجرد البناء؛ يجعلنا نتفائل بوجود ما سيخدم الإنسان حقاً، ويتسخر في خدمته معطياً المصممين فرصة الإبداع الحقيقية.

ويختتم Jordan مقالته معلقاً على من يعتقد بأن مهمة المعماري هي بناء الأبنية فقط، واصفاً إياه بقصير النظر. فإن شيئاً لم يحل بين دافنشي وبين إصراره على تصميم سورٍ حربي للـ Sforza. فقد علم أن من واجبه تسخير علمه وعبقريته لكل مجالات الحياة، ولحل جميع مشاكل العلم قدر إمكانه، متجاوزاً بذلك عالم الفن إلى فهمٍ إنسانيٍّ أعمق لماهية الإنسان. وهذا ما علينا أن نقتدي به.

إقرأ ايضًا