كاتدرائية البذور كانت رسالة بريطانيا للصين في معرض شنغهاي

9

شك كل من رأى المخططات والصور الإظهارية لتصميم الجناح البريطاني في معرض شنغهاي بقدرة شركة Heatherwick Studio على أن تنفذه، أو على الأقل أن يبدو على الأرض الواقع مشابهاً لما هو في الصور الإظهارية. ولكنه كان من أفضل الأجنحة بالنسبة لزوار المعرض بعد إتمامه.

وكان مكتب (Foreign & Commonwealth Office (FCO البريطاني قد أوكل بمهمة تصميم الجناح البريطاني إلى شركة Heatherwick Studio بإدارة المعماري Thomas Heatherwick المعروف عالمياً. وكان عرض Thomas Heatherwick قد فاز في منافسةٍ لتصميم أفضل جناحٍ متفوقاً على تصاميم قدمتها زها حديد و John McAslan + Partners و Marks Barfield Architects و Avery Associates و DRAW Architects بمساعدة dcmstudios.

وقد حقق تصميم Heatherwick Studio للجناح البريطاني ثلاثة أهدافٍ كانت FCO قد توقعتها من التصميم أملاً في أن يكون الجناح واحداً من خمسة أفضل أعمالٍ معماريةٍ في المعرض. وكان الهدف الأول في أن يتوائم شكل الجناح مع ما سُيعرض داخله، والهدف الثاني أن يضم حوله مساحاتٍ عامةٍ خاصةٍ به لأهمية شكله من الخارج كما هي من الداخل، وبالتالي إتاحة الفرصة لزواره برؤيته في مكانٍ مريحٍ دون تزاحمٍ مع زوار بقية الأجنحة. والهدف الثالث في أن يتفرد الجناح ويتميز بشكله بين المئات من الأجنحة والمعارض في شنغهاي.

وقد وجدت شركة Heatherwick Studio في تصميمها مقاربةً تُغني المعاني التي يهدف معرض شنغهاي في بثها من خلال هذا الحدث العظيم والأكبر في العالم حتى الآن. إذ يهدف المعرض لتبني فكرة مدينةٍ أفضل في عالمٍ أفضل، وبهذا تجنبت الطابع التجاري الذي نجده في بقية الأجنحة التي ضمت تصاميمها شاشاتٍ وأجهزةٍ مرئيةٍ وأخرى مسموعة لتعرض من خلالها تراث وحضارة بلدانها.

وبالتعاون مع فريق عملٍ أكبر، استطاعت الشركة تطوير فكرة الجناح البريطاني بسبر أغوار العلاقة بين المدن والطبيعة. ويمكنها بذلك أن تثبت وجودها وتُذكر بأهميتها بأنها راعت أفكار المعرض وهي الدولة التي تُعتبر عاصمتها الوحيدة بين دول العالم بهذا الحجم وتضم أكبر المساحات الخضراء بين نظرائها. ففيها أول حديقةٍ عامةٍ على الإطلاق وأول مؤسسةٍ نباتيةٍ في العالم في Kew وهي الحدائق النباتية الملكية.

ومن هنا جائت فكرة الشركة المصممة متضمنةً هدف الحدائق الملكية بأن تجمع 25 % من بذور نباتات العالم قبل حلول عام 2020.

وقد أطلقوا على الجناح البريطاني اسم كاتدرائية البذور في المعرض لكونه يضم عدداً هائلاً من البذور التي ستبقى في الصين كذكرى لمشاركة بريطانيا في المعرض، وتهدف فكرة الجناح لإرساء عنصري التداخل والتجريب وذلك ببنائها هذه الكاتدرائية الإبداعية ولإحاطتها بـ 6,000 متر مربع من المناظر الطبيعية متعددة الطبقات كجزءٍ من الجناح نفسه.

وتقع كاتدرائية البذور في وسط الجناح وترتفع لعشرين متراً ومكونة من 60,000 قضيب إكريليكي شفاف من الألياف الضوئية. ويمتد كل قضيبٍ بطول 7,5 متر ويضم داخله نوعاً من البذور. وتبدو روعة التصميم عندما تضيئه أشعة الشمس خلال النهار، ويتوهج بأكمله ليلاً لوجود ضوءٍ داخل كل قضيب. والغريب حقاً في تصميمه هو حركة القضبان وتمايلها وتموجها مع الهواء خالقةً تأثيراً ديناميكياً حولها.

وكان استوديو Heatherwick قد اختبر تجربةً مماثلة في مشروعٍ أصغر عندما صمم نصب Sitooterie الضوئي المميز بلونه الأحمر المشرق والمشابه إلى حدٍ كبير الجناح البريطاني في المعرض. ويمكننا أن نعتبر أن كاتدرائية البذور هي النموذج المطور عن مشروع Sitooterie.

وداخل الحرم الصغير المظلم وسط الكاتدرائية تبدو نهايات القضبان المتموجة أشبه بمجرةٍ تحوم فيها كويكباتٌ صغيرةٌ تحمل داخلها البذور. وأغلب البذور من مصدرٍ صيني ومن مؤسسة النباتات الصينية China’s Kunming Institute of Botany تحديداً، العضوة في مشروع بنك بذور الألفية Millennium Seed Bank Project التابع لمؤسسة الحدائق النباتية الملكية ببريطانيا. وسيعبر الزوار خلال هذا المكان الهادئ التأملي المحاط بعشرات الآلاف من النقاط المضيئة التي تضم بذوراً.

وأغرب ما في تصميم القضبان المصنوعة من الأنسجة الضوئية هي شدة حساسيتها واستجابتها لظروف الإضاءة الخارجية، وبذلك فحتى تأثير الضوء غير المرئي الناتج عن حركة الغيوم في السماء فوق كاتدرائية البذور يؤثر على درجة إنارة القضبان ولو بقدرٍ ضئيل. وقد كانت نية شركة التصميم أن تخلق أجواءً من الأبهة والعظمة حول هذه المجموعة الخيالية من كل بذور نباتات العالم ليعيش الزائر لحظةً من التأمل والتفكر في مكانٍ هادئٍ صامتٍ يلوح الوقار بين جنباته.

ويمكن وصف مادة تكوين كاتدرائية البذور بدقةٍ بتحديد موادها، فهي عبارةٌ عن قضبانٍ من الفولاذ والخشب المركب تتداخل معها خيوطٌ من الألياف الضوئية بما يعادل 20 ملم مربع في القسم الواحد تمر من خلال فتحاتٍ مصنوعةٍ من الألمونيوم. ولو تخيلنا التقاء القضبان كلها عند المركز ثم تبتعد في عدة اتجاهاتٍ لتشكل بنية الكاتدرائية؛ فإن قص كل قضيبٍ بقدر مترٍ واحدٍ في قلب الكاتدرائية شكّل الفراغ الذي نعتبره حرم الكاتدرائية، أو المكان الذي يمكن للزوار الوقوف فيه. وتم انجاز التصميم بإدخال بياناته في نظامٍ محوسبٍ ثلاثي الأبعاد ساعد على تخيل صورته النهائية قبل البدء بإنجازه.

ودقة التصميم كانت خليقةً بأن استطاعت الألياف الضوئية إلقاء هالةٍ نورانيةٍ حول الكاتدرائية، وما يزيدها جمالاً هو تلك الحركة الإكريليكية التي تتماوج مع الهواء ليشعر المرء برؤيته يرقص مع نسمات الهواء وكأنه يمزج في بنيته بين الأرض والسماء.

ونجد أن كاتدرائية البذور لم تكن الجناح بأكمله إذ أحاطت بها المناظر الطبيعية التي اعتنت الشركة المصممة بهندستها وتنسيقها كجزءٍ من النسيج العام للجناح. وبهذا تم فرشها بالعشب لتكون من أجمل المساحات التي يمكن للزوار أن يرتاحوا فيها وأكثرها تميزاً. ونجد في هندسة هذه المساحة الكثير من التقنيات التي تجعلها أكثر راحةً رغم بساطتها، كسقفها بالمظلات مثلاً وتوفير ظروف التهوية الطبيعية فيها وإحاطة الكاتدرائية بالكثير من المداخل والمخارج إليها.

ويحيط بالتصميم ثلاثة تصاميم أخرى متعلقة بجمال المناظر الطبيعية المقرر إحاطة الكاتدرائية بها، وقد صممتها شركة Troika من لندن وأطلقت عليها أسماء: المدينة الخضراء Green City والمدينة المفتوحة Open City والمدينة المفعمة بالحياة Living City.

كما يضم محيط الجناح عدة أماكن مخصصة لعقد أحداثٍ ثقافيةٍ أو تجاريةٍ تُشرف عليها شركة Foreign and Commonwealth Office ويمكن لمنظماتٍ أخرى أن تستأجرها لنفس الأسباب خلال فترة المعرض.

وقد كان التصميم الفريد المتميز نتيجةً لتظافر جهود مصممين ومعماريين ومهندسي حدائق عدة مثل شركة إدارة البناء Mace وشركة Adams Kara Taylor الهندسية وشركة Atelier Ten للخدمات الهندسية بالإضافة لمساعدة خبراءٍ ومهندسين ومقاولين صينيين.

وقد اعتمدوا جميعاً على تقليل نقل المواد قدر الإمكان للجناح البريطاني بأن تم استخدام 75% من المواد من محيط 300 كم من شنغهاي. وتضع الحكومة البريطانية في نيتها أن يتم استخدام مواد قابلة للتكرير وإعادة الاستخدام عند نهاية المعرض في جناحها.

ويؤمن مكتب UK Foreign & Commonwealth Office بأن جناحهم سيكون أحد ألمع نجوم شنغهاي أكسبو لثقتهم بشعبية أعمال شركة Heatherwick Studio في الشرق، ولأن فكرة كاتدرائية البذور لابد وأن تلقى الترحيب في الأوساط العامة خاصةً وأنها سُميت Pu Gong Ying في المعرض أي ما يترجم “هندباء الشعب الصيني” لشكلها الذي يشبه النبتة.

ومن الجدير في بالذكر ختاماً أن نعلم بأن مآل البذور بعد المعرض هو أن تتوزع على مئات المدارس في الصين وبريطانيا لتبقى ذكرى لمشاركة بريطانيا في المعرض.

إقرأ ايضًا