مبنى قانوني/غير قانوني

3

في أوائل السبعينيات وضعت خطة عمرانية رئيسة لتطوير حي Bayenthal في مدينة كولون الألمانية، ولكن للأسف لم تطبق تلك الخطة قط، وبات ذاك الحي بقعةً عمرانية مهملة خالية من الحياة، ويعزا ذلك إلى المحاولات اليائسة للضغط على المشكلة العمرانية القائمة؛ ألا وهي الهجرة من المدينة، حيث خرجت مجموعة من الأسر الشابة في مطلع الستينيات من المدن الوسطى إلى الضواحي والقرى المحيطة لتحقيق أحلامهم “أحلام الطبقة الوسطى”.

في المقابل شكلت هذه الأحلام كابوساً لكل مدينة، فشرع المسؤولون بالبحث عن حلولٍ قد تبدو غريبة بعض الشيء، ولكن تهدف لمنع المزيد من العائلات من الانتقال إلى الريف، بل على العكس جلب الريف إلى المدينة، فقد شهدت المدن الألمانية وبالأخص حي Bayenthal في مدينة كولون نهضة عمرانية كبيرة، حيث تمت توسعة الشوارع، وتم بناء منازل منفصلة تشبه منازل الضواحي ولكن في المدن هذه المرة، وبذلك انتقل الريف إلى داخل المدن، ولم يعد لتلك العائلات الشابة حجة للهجرة من المدينة بعد الآن.

وكنتيجة مهدت هذه الإجراءات إلى تطبيق خطة السبعينيات العمرانية لتطوير الحي، حيث يعتبر مشروع “ليغال/إليغال” أي “قانوني/غير قانوني” من تصميم المعماري السويسري مانويل هيرتز أولى ثمار هذه الخطة، إذ يستند هيرتز في عمارة هذا المبنى السكني -الممتد على موقعٍ يبلغ عرضه 5,50 متراً وعمقه 25 متراً- على خطة التطوير التي وضعتها البلدية وبعض قوانين البناء التي حددتها بعض الأبنية التاريخية المجاورة، وكأن القانون يحدد الشكل!

وكأن هيرتز أراد أن يقول شيئاً من خلال اسم المبنى، الذي يبدو أحياناً شفاف كما القانون، حيث نلاحظ على سبيل المثال بأن كتلة المبنى المتاعمدة ترتد عن المبنى القديم حوالي متر مستجيبةً بذلك إلى الحدود التي وضعتها البلدية، أما في الجزء الخلفي من الموقع، لم يُسمح لهيرتز بالبناء على نحوٍ كامل وفقاً لخطة التطوير، لذا ارتأى أن يجعل الكتلة متحدرة بعض الشيء تزينها التراسات عند كل طابق، وبذلك صيغت كتلة المبنى بأكملها وفقاً للقانون، فهي إذاً “قانونية”.

ننتقل إلى الكتلة الثانية “الجريئة” إن صح التعبير، فيخطر ببالنا سؤال، كم عدد القوانين التي يمكن تجاهلها في مكانٍ تسيطر عليه القوانين مسبقاً من كل جانب؟

بكلماتٍ أخرى، لا يسمح لكتلة المبنى بأكملها بالتواجد على الإطلاق، حيث تتجاوز تلك الكتلة المساحة القصوى المسموح بها في خطة السبعينيات، لذا فهي “غير قانونية”، فكل سطحٍ من أسطح الكتلة يلقي بالظل على الأبنية المجاورة، وهو ما تحظره بشكلٍ قاطع قوانين البناء في ألمانيا.

من الملفت للانتباه هنا افتقار المبنى إلى الإجراءات المتعلقة بالسلامة والحرائق، حيث تتقاطع كتلة المبنى مع مبنى البلدية لتبرز بذلك فوق النصب التاريخي عند البوابة وصولاً إلى الشارع، وعلى نقيض الأبنية التقليدية، لا يحد المبنى جدارٌ خارجي متعامد، فقد قام هيرتز بطمس الحدود بين الجدار والسقف والأرضية رغبةً منه في دمج كافة عناصر المبنى المعمارية مع بعضها البعض، مما يعني عدم احترام المبنى لقانون البناء الألماني وتشريعاته، فهو إذاً “غير قانوني”.

انطلاقاً من هذه الظروف استغرق الأمر عامين من المفاوضات مع إدارة التخطيط المحلي للحصول على الموافقة، فلم يكن خافياً على أحد انتهاك البناء لقواعد معينة، لذا فإن لقب “قانوني/غير قانوني” لم يأت وليد الصدفة، فبدلاً من الإتيان بخطة مدمرة تقوم بالتخلص من القواعد، حاول هيرتز كما يفعل المحامون عادةً الاستفادة من الثغرات الموجودة في القانون.

إقرأ ايضًا