رون أراد يحلق بمبناه في سماء “المدينة البيضاء”

5

يلاحظ الدارس في تاريخ العمارة الإسرائيلية –إن صح التعبير- بأن اليهود القادمين من الخارج وهم تحت تأثير فكرة “شعبٍ بلا أرض آتٍ إلى أرضٍ بلا شعب” كما روجت الدعاية الصهيونية، قد وجدوا بأن العمارة الحديثة نموذجاً مثالياً لهم، كونها تحمل في طياتها أفكاراً اشتراكية وحديثة يمكن تطويعها لرسم هوية معمارية جديدة لشعب لم يكن له في الذاكرة الحديثة أي هوية خاصة به، وهذا ما يفسر الحماسة التي لاقتها العمارة الحديثة الجديدة كجزءٍ لا يتجزأ من مشروعٍ إيديولوجيٍّ ساهم الشيء الكثير في إنشاء الوطن الجديد.

وليس ببعيدٍ عن العمارة الحديثة، نستهل خبرنا بالحديث عن المعماري رون أراد، وتكمن المفارقة هنا بأن مصمم اليوم يحمل اسم الطيار الإسرائيلي الشهير الذي تم اختطافه على أيدي أبطال المقاومة اللبنانية في العام 1986، حيث أن “أراد” في النهاية وبغض النظر عن كونه معمارياً له سمعته الطيبة في اختصاصه… يشترك مع رون أراد الطيار بأنه إسرائيلي الجنسية أيضاً.

يأخذنا “أراد” اليوم بجولةٍ معه إلى تل أبيب، وبالتحديد إلى الجهة الشمالية من شارع Ha-Yarkon، واجهة مستوطنة تل أبيب البحرية، حيث يتميز هذا الجزء من المدينة بغناه المعماري على مر السنين، فقد بلغت هذه الثورة المعمارية ذروتها في فترة العشرينيات والثلاثينيات، عندما تدفق المهندسين المعماريين المهاجرين من أوروبا إلى فلسطين المحتلة مأخوذين بأصولهم المبعثرة، متسارعين الخطى نحو تنفيذ خططهم “محلياً”.

أما تل أبيب، والتي قامت منظمة اليونيسكو بتصنيفها كواحدةٍ من أهم مواقع التراث العالمي في عام 2003، فإنها تمر بفترةٍ معمارية غنية، تعتبر امتداداً للتأثير الألماني الهام، والذي يدعى “الأسلوب الدولي” أو الأسلوب المعماري، الذي تطور في مدرسة “باوهاوس” الألمانية في عشرينيات القرن العشرين.

في الثلاثينيات أخذ معماريون يهود من خريجي هذه المدرسة ومدارس معمارية أخرى في ألمانيا وفرنسا يبنون وفق هذا الأسلوب في مركز تل أبيب، حيث يبلغ اليوم عدد المباني التي تتبنى هذا الطراز 4000 مبنى تقريباً، وهي منتشرة في الحارات القريبة من شاطئ البحر ما بين شارع اللنبي جنوباً ونهر العوجا (اليركون) شمالاً، حيث أُطلق فيما بعد على هذه المنطقة اسم “المدينة البيضاء” نسبة إلى اللون الفاتح الذي يميز هذه المباني.

واليوم وفي قلب تل أبيب ومستفيداً من هذه الثورة المعمارية التي تجتاح البلاد وفي هذا الجزء بالتحديد، قام “أراد” في عام 2006 برفد “المدينة البيضاء” بمشروع سكني جديد أعاد تفسير مفهوم الشقق الفاخرة بصياغة أخرى، والذي يكشف إلى جانب التصميم الحاد والاستخدام البارع لمواد البناء، عن ترف وجودة وخصوصية استثنائية.

طبعاً واجه “أراد” بالمقابل في مراحل مبكرة من التصميم، تحديات تتعلق بالحفاظ والتعزيز من وجود الواجهة المقابلة للبحر في كل شقة، على الرغم من الحافة الغربية الضيقة للموقع، وبهدف تحقيق إطلالةٍ لا مثيل لها على البحر، حتى بالنسبة للطوابق السفلية، جاء القرار بأن لا تشترك أي شقة مع الاخرى بالواجهة الأمامية، أي الغربية، وبالتالي فإن كل شقة تتفرد بذاتها دوناً عن بقية الشقق، وتحظى بإطلالتها المميزة والخاصة بها على البحر.

استقى تنظيم المبنى مبادئه الإنشائية والتنظيمية من القاعدة الإنشائية التالية؛ حيث تقوم الكتل الثلاث المخروطية المتعاكسة والمتصلة من المنتصف بتشكيل كتلة المبنى الإجمالية، اثنتين منها مثبتة مع الأرض، بينما تقوم في الوقت نفسه بتدعيم الكتلة الثالثة البارزة، ويعزز من وجود هذه الكتل الثلاث والتي تدعى “بالمخاريط”، سلسلةٌ من الألواح المتماوجة إلى جانب الدرابزين المحيط، والتي تسلط الضوء على طبوغرافية المبنى، وتقوم بتدعيم الكتلة ما أمكن.

من جهة أخرى، يقوم هذا التنظيم وبسلاسة بالغة بربط كتلة المبنى مع الدعامات هائلة الحجم والبارزة عن القسم الأمامي من المبنى حوالي 7 أمتار في الهواء، ليرتفع الطابق الأول بشكلٍ ملحوظ فوق مستوى الشارع ومعلقاً فوق مدخل المبنى، مما يجعله يبدو أشبه بسقف كهف خفيض على طول حديقة كبيرة مقابلة للبحر.

أما إلى الأعلى فيضم المبنى ما مجموعه 11 شقة تم تصميمها كلٌ على حدى، حيث يعلو الجميع تراسٌ على السطح وبركة سباحة فضلاً عن المناظر الكاسحة باتجاه البحر عبر سماء تل أبيب، فقد تم توزيع عناصر كل شقة في كتلة مقوسة وبيضوية الشكل، الأمر الذي يعزز من صفة الخصوصية والحماية، ويُعزا ذلك للتصميم الفريد حيث لا تشترك شقة مع الأخرى بأي جدارٍ كما ذكرنا آنفاً، باستثناء الممر المغطى في الهواء الطلق، فإنه يربط ما بين الشقق وتقوم بتكملته حديقة صغيرة مقوسة الشكل.

كما وقد اعتمد “أراد” تقنيةً معمارية تقضي الاستفادة من تقنيات البناء المبتكرة أثناء عملية البناء، ويظهر ذلك جلياً بالنظر إلى القالب الإسمنتي المقوس والمرن والذي يمكن استخدامه أكثر من مرة، مما فسح المجال لخلق كتلة موحدة، وقد تمّت معالجة هذه الواجهة الإسمنتية بألوان أحادية مصحوبة بدرابزين أنيق، الأمر الذي يأخذنا بالذاكرة نحو أسلوب ” باوهاوس” المعماري الذي تحدثنا عنه سلفاً.

تبدو معالم “الأسلوب الدولي” التي طغت على عمارة تل أبيب “المدينة البيضاء” واضحةً كل الوضوح في هذا المشروع، وذلك بالنظر إلى عامل الحجم الذي يطغى على الوزن، إلى جانب التوازن المتناسق الذي يتفوق هنا على التماثل، وأخيراً الابتعاد الكلي عن الزخرفة الزائفة غير الضرورية، أما “أراد” فقد ركز من جهته على تحقيق الخصوصية والفردية طوال الوقت بالإضافة إلى ما سبق.

إذ أراد أن يظهر المشروع كنقيضٍ لقواعد التخطيط التقليدية، حيث تقودنا ردهة الدرج في المباني السكنية المرتفعة عادةً إلى شقق متماثلة ومنفصلة تطوقها الأبواب والجدران، إذ جاء مخطط البناء متفرداً عن البقية بوحي من قواعد البناء الشرق أوسطية والتي تركز على حلّ الحدود بين المساحات الداخلية والخارجية.

وبذلك فإن برج 154 Ha-Yarkon Street قد قام بشن ثورة على التنظيمات الانتقالية التقليدية في المبنى، والتي لطالما افتقرت إلى الحيوية والنشاط، وأضاف نفساً أخضر على التصميم من خلال حدائقه المعلقة، حتى بتنا نرى كتل المبنى المخروطية الثلاث تتفاعل فيما بينها بفعل هذه الحدائق، التي استطاعت أن تسد الثغرات بين كل شقتين من الشقق بيضوية الشكل، وتقوم في الوقت نفسه بتأمين خلفية مشرقة لمساحة التوزيع، وكنتيجةٍ لذلك باتت تجربة الدخول إلى الشقة الواحدة تشبه تجربة الدخول إلى المنازل المنفصلة عن طريق حديقة أمامية خاصة.

كما وقد لعبت الحديقة الأرضية دوراً مشابهاً لدور الحديقة عند سطح المبنى، فبوقوعها على مستوى الشارع، تخدم هذه الحديقة كسقف للمنتجع إلى جانب كونها واجهة المبنى من ناحية ارتباطه والسياق العمراني، حيث تقبع على أكثر من 250 م2 وتحظى بالمقابل بالكثير من الخصوصية والخضرة طبعاً، فضلاً عن الإطلالة قبالة البحر.

لم يعتمد “أراد” على خبرته وحدها، فقد قام بتوظيف ثلاثة فرق من المهندسين المعماريين لدراسة جدوى كتلة المبنى الفريدة، والتي تعتبر سابقةً معمارية، فلم نسمع من قبل عن كتلة مخروطية ترتفع حتى 7 أمتار في الهواء، كما وقد شكل ظفر المبنى البارز حتى 20 م تحدياً من نوع خاص، إذ أراد فريق العمل أن تتداخل هذه الكتلة قدر الإمكان في ترتيب الشقق الداخلي، ولذلك تمت الاستعاضة عن الدعائم القطرية والأعمدة قفصية الشكل بكابلات مبتكرة تم إقحامها في الإسمنت عبر كافة أجزاء المبنى.

من جهة أخرى تم تثبيت كتلة عميقة في الطابق الثاني بإحكام، بينما تم تثبيت كتلة عميقة أيضاً ولكنها هنا على شكل عارضة جانبية عند السقف، حيث أدى الأمر إلى تشكيل الحدود العلوية والسفلية لكتلة المبنى المضغوطة، في حين ساهم بتوزيع هذا الضغط، الناتج عن الحمولة، وجود الكتل الإسمنتية الأحادية، والتي شكلت بدورها خلفية كل شقة من شقق 154 Ha-Yarkon Street، وأخيراً لقد استطاع هذين النظامين تخفيف الحمل عن الكتلة بشكلٍ فعال للغاية، بالاستعانة بتثبيت المركز والمخروط الشرقي.

لقد ظهر تأثر “أراد” بقواعد مدرسة ” باوهاوس” طوال الوقت… في استخدام الإسمنت… في الأشكال الأحادية… وبالطبع في تركيزه على مسحة البياض التي طغت على تل أبيب على مر عهود طوال.

هل الأبيض هو مجرد خدعة ألوان… أم أنه إيماءة زائفة وحسب؟ فلطالما اعتدنا أن يلبس البشر التقوى بياضاً… ولكن الحجر، وفي تل أبيب؟

ترجمة وتحرير هبة سميح رجوب

إقرأ ايضًا