تجديد واحد من أهم المعالم التاريخية في لندن

1

أخيراً آن الأوان لأشهر فندق من عصر النهضة في لندن أن ينال القسط الملائم له من التجديد والإصلاح بعد المحن والمصاعب الكثيرة التي مر بها على مدى حياته، والتي وصلت في الستينيات من القرن العشرين إلى اتخاذ القرار بهدمه كلياً.

فما كان يعتبر في يومٍ من الأيام وحشاً فكتورياً هائلاً تحت اسم فندق القديس بانكراس، قد أصبح الآن واحداً من أهم وأفخم معالم لندن المتربعة بين مجموعةٍ من الأبراج الحديثة المحيطة به.

أما عن الأمير الذي أعاد بقبلته الحياة لهذا الفندق فهو رجل الأعمال الشهير هاري هاندلسمان، الذي قدّم تمويلاً ضخماً لتجديد الفندق الذي بلغت تكلفته 200 مليون جنيه، وذلك عبر شركة العقارات الخاصة به وهي شركة منهاتن لوفتس، بالتعاون مع المعماري الخبير بالمباني الأثرية ريتشارد غرفيس، الذي كان مسؤولاً عن تجديد الفندق، إلى جانب شركة RHWL التي كانت مسؤولةً عن تجدد عددٍ من الشقق الخاصة المتوضعة على الطوابق العلوية، لتستلم شركة GA Design مهمة تجديد التصميم الداخلي لهذه التحفة الفنية الفخمة الأنيقة.

وفي التفاصيل، يمكن للمارة بقرب الفندق ملاحظة الجدار القرميدي منخفض الارتفاع الذي قام بدورٍ مذهل في حفظ فندق عصر النهضة هذا، مضيفاً المزيد من الجمالية والألق المعاصر على جسد الفندق، خاصةً مع تلك الدرجات الخارجية، التي يمكن لضيوف الفندق تناول قهوتهم الصباحية عليها والتأمل بالحرفة البنائية المذهلة للفندق المميز.

فمع اقترابك عزيزي الزائر من فندق القديس بانكراس لا يمكنك إلا أن تتخيل العربات العديدة التي تجرها الخيول، والتي أوصلت في يومٍ من أيام الفندق الخوالي رجال الأعمال ببذاتهم السوداء الأنيقة إلى محطة القديس بانكراس الحديدية.

وبمجرد اجتياز الأبواب الزجاجية يمكن لسعيدي الحظ وبكل بساطة لمس ذلك التناقض الواضح ما بين التجهيزات المعاصرة وتلك الأصلية في الفندق، حيث تكون هذه المنطقة هي المكان الوحيد الذي يظهر فيه هذا الصدام ما بين الطرازين.

أما عن العوارض الإنشائية المكشوفة في المبنى فقد تم طليها باللون الأزرق الفاتح، لتمثُل الشجيرات الخضراء بكل أنفةٍ فوق الأسطح المطلية بكثرة وأمام خلفيةٍ حجريةٍ رائعة من الطراز الفكتوري الأصيل.

وعلى الرغم من تأكيد فريق العمل على إقحام تفاصيل دقيقة تُشعر الناس وكأنهم في منازلهم -مع كل تلك الأرائك الجلدية الوثيرة وأواني الزهور المتفتحة- تحافظ المساحة على طابعها الصارم، إذ تبدو أقرب إلى غرفة اجتماعات منها إلى ردهة فندقٍ مضياف.

ولكن السؤال هنا؛ هل هذا الأمر هو نتيجة لعبق الصورة الفاخرة التي ابتكرها المعماري الأصلي للفندق جورج غيلبرت سكوت، أم أن عملية التجديد التي طالت الفندق في القرن الواحد والعشرين هي المسؤول عن هذه الأجواء؟

إذ لا يمكننا تجاهل تلك التفاصيل التي أبقت عليها عمليات التجديد، كالأحرف الكبيرة المعلقة فوق مدخل المطعم الخشبي كهفي الأجواء المطل على منصات محطة القديس بانكراس، والتي تشير إلى مكتب الحجز، حيث وباجتيازنا للقنطرة الحجرية نصل إلى منطقة البار المميزة، التي تم تزيينها بحوالي 173 زهرة خشبية تم نحتها يدوياً.

وعلى الرغم من أن مكتب الحجز قد يظهر وكأنما فقد طابعه الفكتوري بهذا الشكل؛ إلا أن النوافذ المنحنية بكل دقة تقوم بدورها بتأطير الإطلالة على المحطة الحديدية المجاورة عوضاً عن إضافة المزيد من الأجواء المحمومة للمساحة الداخلية.

وإذا ما سلكتم أعزائي القراء المخرج الآخر من ردهة الفندق فستصلوا عندها إلى غرفةٍ وظيفيةٍ تم تزيينها بدقة وإضاءتها بالضوء الطبيعي، الذي يتغلغل عبر الحواجز الزجاجية المخرمشة.

حيث تم اعتماد هذا النوع من الزجاج حصراً ليؤدي وظيفته في صد الرياح الشمالية بارزاً عند القمة، بينما يقوم فريقٌ من البنائين بعملهم على أكمل وجه للانتهاء من إنشاء الحديقة النحتية، والتي سيتم بمجرد الانتهاء منها نزع الأسطح المخرمشة عن الزجاج.

وإذا ما توجهنا بأنظارنا إلى يمين هذه الحواجز يمكننا عندها ملاحظة تلك الكتلة الإضافية ظفرية الشكل، والتي تبدو واضحةً للعيان ببروزها عن الكتلة الأصلية، حيث تم تزيين هذا القسم بمنتهى الدقة والأناقة، وذلك بالاستعانة بسجاد برينتن الذي تم تصميمه خصيصاً لفندقنا هذا، كما تم تجهيز المكان بكل المرافق الحديثة التي يتوقع زوار مثل هذه المنشآت الفخمة إيجادها.

ولكن ومع كل هذه النواحي الإيجابية التي يتمتع بها هذا القسم، يحكى أنه لا يتحلى بتلك النوعية الدقيقة والغامضة التي تطغى على القسم القديم من المبنى، حيث تيقظ الممرات الملتوية والقناطر القوطية مشاعر الحنين لذلك العصر الماضي.

كما تزين الممر الرابط ما بين الكتلة المضافة بالقسم القديم لوحاتٌ كبيرة تعرض نساءً ورجالاً باللباس الفكتوري يحملون في أيديهم قطعاً تم إنقاذها من تحفة سكوت الفنية، وذلك في محاولةٍ لتمويه الجزء الرابط ما بين المبنيين.

وبالحديث عن الممرات نذكر هنا أنه قد تم تزيين تلك الرابطة ما بين الغرف القديمة البالغ عددها 250 بدرجاتٍ لونية تراوحت بين الأحمر المخملي واللون الصدئ الغني بالإضافة إلى ألوان الياقوت والمجوهرات، والتي طغت جميعها وبكل أناقة على الجدران الحجرية الناعمة. طبعاً لا تكتمل الأجواء إلا بتجهيزات الإنارة، والتي ارتأى فريق العمل الدمج فيها ما بين تلك القديمة الأصلية والمصنّعة على شاكلتها، لتأتي أخيراً التشطيبات الجديدة اللماعة وتندمج مع سمات الحياة الماضية للفندق القديم.

وكمثالٍ على هذه التزينات نذكر أسطوانات إطفاء الحريق القديمة والتي باتت غير صالحةً للاستخدام الآن، بالإضافة إلى المشعات الحرارية الفكتورية وأخيراً بيوت المصاعد المكتسية بالألواح الخشبية.

وإن تساءلتم عن أشهر سمةٍ في فندق القديس بانكراس العائد لعصر النهضة نخبركم هنا أنها تلك الأدراج المزخرفة التي لا يمكن لأي زائر تجاهلها، بألوانها الصارخة وتشكيلاتها العديدة، هذا بالإضافة طبعاً إلى سجاد برنتن القديم الذي تم وضعه عمداً على درجاتها لخفض الصوت الصادر عن أقدام زوار الفندق لدى صعودهم شواحط الدرج الثلاثة وصولاً للطابق العلوي. وبالبقاء في نفس السياق، نأتي إلى درابزين الدرج، حيث تم تلميعه قليلاً لتظهر عيوب الخشب مناقضةً لأناقته ومحافظةً في الوقت نفسه على نوعٍ من السلطة والقوة، في حين تتألق الجدران بحمرتها الأشبه بحمرة الدم بتلك التزيينات ذهبية اللون، والتي تتصادم بقوةٍ مع السقف المقبب زمردي اللون.

فهنا تماماً يستعصي على الكلمات وصف الشعور الذي ينتاب المرء أثناء الوقوف في مثل هذه البيئة المهيبة العظيمة، حيث تكون الأبنية الدينية من الفنادق أجدر بإثارة مثل هذه المشاعر.

وبلاشك لا يمكننا التطرق لوصف الفندق دون ذكر بعض التفاصيل عن مطعم غيلبرت سكوت الذي يمكن للزوار الوصول إليه عن طريق النزول قليلاً عبر الممر المجدد؛ حيث سيتم افتتاح المطعم في الخامس من شهر أيار، ليتألق بلونه الأصفر المشع بعد أن تم تجديده بنقوشٍ معقدة غطت السقف وأعمدةٍ من الحجر الجصي تميزت بألوانها الحمراء والخضراء وتيجانها المطلية باللون الأزرق، ليستمتع رواد المطعم بإطلالةٍ خلابة على برج ساعة الفندق القوطي، والذي يمكن رؤيته بكل وضوح عبر النوافذ الطويلة الممتدة على الجانب اليميني من غرفة المطعم الذي يتسع لـ 116 زائر.

أما وعلى مقربةٍ من هنا فتقبع غرفة السيدات المخصصة للتدخين، والتي تعتبر الأولى من نوعها في البلاد بعد أن تم افتتاحها للإناث فقط عام 1898؛ فهناك تفصل الدعائم الغرانيتية الناعمة المكان إلى قسمين؛ الأول كبير ومهوي، في حين يؤدي الآخر إلى تراسٍ خاص يطل على الطريق وساحة الفندق.

وبالنظر للأعلى من هذه الشرفة يمكن للمرء التأمل والتفكر ببراعة وإبداع المعماري جورج غيلبرت سكوت؛ الذي استطاع بنظره الثاقب ابتكار عدداً هائلاً من الكورنيشات والتماثيل والأبراج وغيرها من الديكورات القوطية، التي باتت اليوم وللأسف الشديد بسبب معايير الصحة والأمان تقف فارغةً دون أية تماثيل، حيث اعتُبرت هذه التماثيل خطراً على المارة.

بالعودة إلى غرفة التدخين، يقبع أسفلها باراً احتضن في يومٍ من الأيام أول باب دوّار في إنكلترة، ليغدو الآن عبارة عن مساحةٍ اجتماعية معاصرة بعيدة كل البعد عن ماضيها القديم، وذلك بفضل أوراق الذهب العديدة المنتشرة هنا وهناك والأجراس المعدنية الكبيرة التي تزين الثريا الفخمة المعلقة في سقفه، حيث النقوش الغريبة والخشب الغامق تُضاء بنور الشمس الطبيعي الذي يتسلل عبر المناور والنوافذ الطويلة الرفيعة.

هذا ولم نأت بعد على ذكر الغرف والأجنحة، والتي تعد الجزء الأهم بالنسبة لزوار الفندق؛ حيث تترواح هذه الغرف بالحجم والأسلوب والتكلفة أيضاً؛ إذ تبدأ الأسعار من حوال 250 جنيه للغرف المزدوجة عالية الجودة، لتصل حتى 10 آلاف جنيه في الجناح الملكي.

كما تأتي هذه الغرف مزودةً تماماً بكافة تجهيزات المطبخ إلى جانب غرفة مكتب وطاولة مأدبة بالإضافة إلى منطقة معيشة وثلاث غرف نوم مزدوجة.

أخيراً أصدقائي القراء إن لم تكن هذه التكلفة بحوزتكم فيمكنكم الاستمتاع بإحدى الجولات التي يقدمها الفندق للزوار بقيمة 20 جنيه فقط!

إقرأ ايضًا