تحويل ثلاثة بيوت دمشقية لفندق يثير الجدل

51

للبيت الدمشقي سحره الخاص الذي يروق للكثيرين، والذي جعل دمشق القديمة في سوريا تصبح إحدى أهم مواقع التراث العالمي بشهادة منظمة اليونيسكو العالمية، ولكن ومع تهافت أصحاب رؤوس الأموال لبناء فنادق ومطاعم جديدة، يبدو الأمر مشكوكاً بصحته!

فمن يتجول بأحياء وأزقة باب توما وباب شرقي وساروجة قد يلحظ في الآونة الأخيرة عشرات بل المئات من البيوت الدمشقية التي فتحت أبوابها في وجه الاستثمارات الكبيرة وباتت مطاعماً ومقاهي تفوح منها رائحة النراجيل، بدلاً من أشجار النارنج والليمون التي كانت تعتبر عنصراً أساسياً في عمارة البيوت القديمة، وللأسف فإن هذه الظاهرة في طور التفشي، حيث تجري الشائعات بمنح أكثر من 150 ترخيصاً لبناء مشاريع خدمية في المنطقة.

ما الخطير في ذلك؟

في بعض الحالات يتمّ تدمير المباني القديمة لإفساح المجال أمام الصروح الحديثة، بينما يكتفي آخرون بترميم فناء البيوت التاريخية أو ما يعرف بأرض الديار، ولكن وفي خضم هذه الثورة التخريبية “العمرانية” تغيب عن الساحة الخبرات التقنية، ويحلّ الاسمنت الرخيص مكان الحجر والقرميد التي تشتهر به عمارة هذه البيوت منذ القدم، وتكتفي جهات الاستثمار بترقيع هذه العمارة المبتذلة ببعض العناصر الشرقية.

أما اليوم فقد قررت شبكة آغا خان، وهي المنظمة العالمية التي تروج للحفاظ على التراث الإسلامي في كافة أنحاء العالم منذ عام 1977 بدعمٍ وتمويل من الأمير آغا خان، أن نتتشل دمشق القديمة من هذه البؤرة، وكلها أمل أن تبرهن على وجود على نموذجٍ معاصر ولكن دون المساس بحرمة الطابع المعماري الأصيل لهذه المنطقة، وذلك من خلال تجديد ثلاثة منازل في المدينة القديمة من أواخر العهد العثماني وهي بيت نظام وبيت السباعي وبيت القوتلي.

ومن المقرر أن يعاد افتتاحها مجتمعةً لتصبح فندقاً فخماً، كما ورد عن لسان علي اسماعيل، المدير التنفيذي لخدمات آغا حان الثقافية في سوريا، الذي أوضح قائلاً بالنيابة عن شبكة آغا خان “نريد ضخ الحياة في هذه الصروح التاريخية الهامة إلى جانب المحافظة على سلامتها المعمارية.”

يعود تاريخ هذه البيوت التي كانت عبارة عن مساكن لعائلات التجار الأغنياء من أبناء دمشق إلى الفترة الواقعة بين منتصف القرن الثامن عشر وحتى أواخر القرن التاسع عشر، لتشغل فيما بعد القنصليات الأوروبية الأولى في دمشق.

إنها قصورٌ حقيقية تترامى ساحاتها هنا وهناك، وتعج غرفها بالزخارف والنقوش وتزين تفاصيلها أشجار الياسمين والنارنج التي باتت تُعتبر مظهراً تقليدياً في العمارة الدمشقية التقليدية، أما الكوة المفتوحة العالية أو “الليوان” قبالة “أرض الديار” فإنها تبقى مظللة طوال أيام الصيف الحارة، في حين تتلقى الغرف الداخلية والغرف العلوية أشعة الشمس خلال فصل الشتاء، مما يفسح المجال أمام الجدران الحجرية والقرميدية باختزان الحرارة.

بالعودة إلى تفاصيل المشروع، اختارت شبكة آغا خان أن تنطلق حملتها في عام 2008 مسلحةً بما يقارب 20 مليون دولار أمريكي، حيث باتت هذه المعارض والمقاهي “معارضاً” تعرض العمارة الدمشقية القديمة وذلك في غرف الاستقبال في الطوابق الأرضية من البيوت من طابقين.

وخلافاً لبعض اللمسات التخريبية التي تستخدم الاسمنت، فإن فندق شبكة الآغا خان يتميز باستخدام مواد البناء التقليدية التي قام بإبداعها الحرفيين المهرة، وعلى الرغم من كل هذه اللفتات التي تدعو إلى الاطمئنان، لا يزال المشروع يثير مخاوف بعض السكان المحليين والمؤرخين الذين لا يستطيعون أن يروا هذه المنازل خارج إطارها القديم بهيئة “متحفٍ رسمي”!

وحتى لو تمت إستعادة المباني بشكلٍ جديّ، يتساءل البعض من الذي سيقوم بمناصرة هذا الصرح الجديد، كما جاء على لسان أحد مهندسي العمارة المخضرمين الذي طلب عدم الكشف عن هويته “من الذي سيذهب إلى هذه المعارض والمقاهي..بالتأكيد ليس المواطن السوري من الطبقة المتوسطة.”

حيث تشتعل في المدينة القديمة وتيرة النقاش حول معدل الاستثمار في السنوات الأخيرة، حتى جاء مشروع شبكة الآغا خان ليحد من هذه المناقشات الشعبية، وعنه يخبرنا المعماري نعيم زبيطة قائلاً “إن فكرة الاستثمار في فندقٍ أو مطعم بدأت بهدف تأمين المال لتمويل إعادة تجديد المبنى، ولكن هذا لا ينبغي أن يكون هدفاً بحد ذاته يتلخص بمجرد الاستثمار، نحن نريد أن نشجع المزيد من الناس لأن يعيشوا في المدينة القديمة، ولكن ذلك ليس سهلاً أبداً فقد أصبح الأمر مكلفاً جداً.”

هاهي سوريا تشرّع أبوابها كما اعتادت منذ عهود في وجه السياحة الغربية، بالاستعانة بالثروة المعمارية السكنية التاريخية، والتي تتوزع بين العاصمة دمشق وثاني أكبر الدولة حلب في الشمال، ولكن للأسف جميعها بحاجة لإعادة تأهيل وترميم!

فبالرجوع إلى الثلاثينيات من هذا القرن، بدأت العائلات الثرية بهجر المنازل العربية القديمة مفتونةً بالشقق الحديثة المفتوحة في الضواحي الجديدة، وبقيت بيوتٌ عريقة مثل بيت نظام والسباعي والقوتلي خاويةً على عروشها، ليصبح بعضها مخازن أو مدارس.

ولكن وبالتزامن مع انفتاح الاقتصاد السوري الاشتراكي في فترة التسعينيات، أصبحت المدينة القديمة هدفاً للتنمية، ومع أن المنطقة الآن تُعتبر وجهةً سياحية شعبية، فإن الهندسة المعمارية التاريخية لا تزال مهددة، حيث قام الصندوق العالمي للآثار بوضع دمشق القديمة على قائمة مراقبة المواقع التراثية “المهددة بالإهمال والهدم أو حتى الكوارث” في عام 2002 ومرة أخرى في عام 2008.

وكلنا أملٌ بأن يحدث مشروع شبكة الآغا خان فرقاً ويبرهن للأوساط المشككة وجود بديلٍ جيد، وفي هذا الصدد يعلّق علي اسماعيل مرةً أخرى قائلاً “نأمل أن يكشف المشروع عن نموذجٍ للمستثمرين والحكومة، من التوثيق إلى التصميم وانتهاءً بالترميم، وفي حال نجحوا في ذلك، سيكون هذا المشروع بمثابة مؤشرٍ هام على توسعة آفاق الاقتصاد في سورية، من خلال السياحة التراثية والحفاظ على ماضيها.”

إقرأ ايضًا