العمارة في لبنان… هل هي عمارةٌ “لبنانية”؟

16

عندما نتحدث عن بيروت تخطر ببالنا مفرداتٌ متبعثرة هنا وهناك… أناقة… بساطة… طبيعة… حرية… تعددية… ولكن عمارة!

قد يبدو الأمر غريباً عن بيروت قليلاً، فالبعض يعتقد أنها مدينةٌ مازالت تسترق لحظاتٍ للعيش، وتبعد عنها ملامح العمارة المبتكرة أشواطاً بعيدة، فهل في لبنان عمارة لبنانية يا ترى؟

لطالما كان تعليم العمارة في لبنان حكراً على أولاد الميسورين الذين عادوا إلى وطنهم الأم وفي جعبتهم نتاج حضاراتٍ مختلفة، أضفت على السياق العمراني البيروتي تنوعاً ملحوظاً.

وفي قراءتنا في عمارة بيروت نلاحظ جلياً التحول الليّن والهادئ، من البيت “البيروتي” ذي الأقـواس الثلاثة، إلى المباني الجديدة ذات الهيكل الانشائي المصنوع من الإسمنت المسلَّح والمتعدد الطوابق.

وبذلك أصبح من الصعب الكلام عن عمارة لبنانية، ربما كان من الأفضل استبدالها بمقولة “العمارة في لبنان”.

حيث تشهد “العمارة في لبنان” ثورةً عمرانية معمارية في الآونة الأخيرة بشكلٍ ملفتٍ للأنظار، ولكن للأسف لم نر في لبنان الحداثة في العمارة كما تصورها روَّادها… ديموقراطيةً… إنسانية بمقياسها وبأهدافها، بل إن ما رأيناه، هو هذا الطرز الدولي الذي تجسّد في مبانٍ طبقاتها تتعدد بإضطراد، وتزداد ارتفاعاً كل يوم… مبانٍ ملوِّثة… قامِعة… معدّة لسكن الزاحفين الجدد إلى المدينة، بحثاً عن حياة لائقة.

هنا يأتي مبنى Y القابع على طريقين في منطقة الأشرفية في قلب بيروت، ليروي لنا حكاية غياب “البيت البيروتي” البورجوازي، وسط الزحمة الخانقة للناس في المدينة، من تصميم المعماري لبناني الأصل بول كالوستيان، خريج هارفارد والعامل مع Herzog & de Meuron سابقاً، تلك الشركة السويسرية التي ارتبط اسمها بالعديد من المشاريع العالمية والعربية مثل مشروع تراسات بيروت الذي تحدثنا عنه سابقاً.

يتألف مشروعنا اليوم من مبنيين منفصلين، مبنى للمكاتب على الشارع الرئيسي حيث تمّ بناء العديد من المباني المكتبية والبنوك في فترة الثمانينيات، ومبنى سكني آخر يطل على شارع سرسق، ذلك الحي السكني المشهور بفيلاته القديمة وقصوره الأثرية.

من جهةٍ أخرى تتفاعل هذه المباني مع مركز sofil الواقع على الزاوية المقابلة للمشروع، حيث يكاد الطابق الأرضي أن يندمج وحديقة المبنى المجاور، مما أدى إلى خلق حديقةٍ خضراء متتابعة، أما مبنيي Y فيشتركان معاً باستراتيجية تصميمٍ واحدة تعتمد على معايير هندسية غير تقليدية.

إذ يتمحور كامل التصميم على أرضيةٍ مستديرة، ولكن في نفس الوقت يتمتع كل مبنىً من هذه المباني بطابعه الخاص الذي يميزه عن الآخر، فقد اعتمد كالوستيان على فكرة تكديس الطوابق فوق بعضها الآخر، وصبغ كل طابقٍ مكتبياً كان أم سكنياً بصبغةٍ مختلفة.

ولم تكن فكرة تكديس الطوابق وليدة حس فنيٍ عال فقط، ولكنها لحسن الحظ هذه المرة نتيجةٌ لنظام البناء المفروض على المباني في بيروت.

ونصل إلى واجهة المبنى، إذ نلاحظ بأنها زجاجية بالكامل الأمر الذي يسمح بدخول الضوء إلى الداخل طوال النهار، وطبعاً يؤمن إطلالة مميزة على شوارع بيروت التي تستحق المشاهدة، وكحلٍ لمشكلة الشمس والتظليل وما إلى ذلك، قام كالوستيان بابتكار كسوةٍ داخلية منفصلة مزودة بألواحٍ خشبية متحركة، لوقاية المبنى والشقق من أشعة الشمس.

من جهته ساهم هذا النظام المرن بإضفاء خواص متغيرة ومتجددة باستمرار على المبنى، بفعل شفافية وانعكاس الألواح الزجاجية المقوسة المحيطة به، التي استطاعت أن تخلق حلاً وسطاً بين الشفافية الكاملة والتعتيم المزعج.

ونظراً لتغير الحجم من طابقٍ لآخر، باتت الشقق السكنية أكثر تنوعاً من ناحية الحجم، على نقيض الشقق التقليدية ذات الحجم الواحد، حيث تتراوح ما بين 300 م2 و800 م2، مما يعزز من خاصية التجدد والابتكار التي ارتبطت بمبنى Y منذ البداية.

ويأتي هذا المشروع على خلفية مشروع “إعادة إعمار وسط بيروت”، مع نزعٍ متعمَّدٍ للصفة التاريخية عنه، سهَّلت الهدم وإزالة أماكن الذاكرة الجماعية فيه..من الساحات..إلى الأسواق التقليدية وعلاقتها التاريخية بالبحر وبالمرفأ القديم..إلى المباني التاريخية والمعالم العمرانية.

وهكذا ضاعت ساحة الدباس.

حوصرت ساحة رياض الصلح، لتصبح زاويةً صغيرةً ملحقةً بعقار كبير خلفها.

وغداً، سيغيب حضور تمثال رياض الصلح في المجال، عندما يقـوم خلفه برج جان نوفل المنتظر.

وبعد غدٍ، ستـطغى أبراج نورمان فوستر على جادة الشــهـداء، وتصبـح بحضورها وبارتفاعها الشاهق، النصب الوحيد في المكان، بديلةً عن نصب الشهداء.

وفي القريب، ستَبني إيفانا ترامب برجهـا الزجاجـي الملوّن، وقد خصّصته ليكون محطات فاخرة لتوقّفٍ سريعٍ ومرفِّه (بكسر الفاء)… للأغنياء العرب على أرض بيروت الحبيبة. لا نعلم هنا، هل نفرح لبلادنا العربية والنهضة المعمارية التي تشهدها أم نحزن عليها؟

ترجمة وتحرير هبة سميح رجوب

إقرأ ايضًا