“تراسات بيروت”..تلخص أحداث الماضي والحاضر

24

إلى بيروت مرة أخرى، المدينة العالمية في قلب الشرق الأوسط، التي كانت ولا تزال مركزاً ثقافياً بارزاً وحلقة وصلٍ مفصلية بين أوروبا والشرق الأوسط بحكم موقع بيروت الجغرافي المميز، ولا ننسى هنا التاريخ العمراني المتنوع الذي نسجته حضاراتٌ عريقة، فمن الفينيقية والرومانية والعربية والمملوكية والعثمانية إلى الحكم الاستعماري، الأمر الذي كان له الأثر الأكبر في تشكيل مبانيها، تماماً كما تركت أحداث الماضي وحتى الحاضر بصمتها الواضحة على معالم بيروت.

فقد استقى تصميم “تراسات بيروت” شكله حرفياً من طبقات تاريخ المدينة الغني والمضطرب، والذي تكلل بالحدث المأساوي الذي هز بيروت والذي سيذكره الشعب اللبناني لأجيالٍ قادمة، فهو حدث اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري إلى جانب العديد من المسؤولين السياسيين، والذي وقع عندما انفجرت سيارته في مدخل فندق سانت جرجس، حيث ما تزال آثار الحادث واضحة حتى اليوم، كما يسترعي انتباهنا أيضاً مشهدٌ متاخمٌ للموقع، وهو عبارة عن حطام الحرب ومخلفات التفجيرات التي طغت على أحداث فترة السبعينيات.

ولكن وعلى الرغم من ندوب التاريخ الأليمة، يبقى الأمل بأن يصبح ذلك من الماضي، إذ تم الكشف مؤخراً عن رؤية واضحة لإعادة تأهيل المنطقة، ويجري حالياً العمل على تنفيذ المخطط الرئيسي الذي يهدف بدوره إلى إعادة الحياة مرة أخرى إلى هذا الجزء من بيروت، أما مشروع اليوم فيقع في الجزء المخصص لبناء المكاتب والمباني السكنية المرتفعة، والذي يرتبط بشكلٍ مباشر مع مرسى اليخوت الجديد.

إذ قام معماريو Herzog & de Meuron وبلمسةٍ سويسرية، بإلقاء تحية احترامٍ على شخص بيروت، ودفق التفاؤل على مستقبل المدينة المعاصرة، و يقوم المبنى السكني تحت عنوان “تراسات بيروت” من جهته على خمسة مبادئ أساسية، ألا وهي الطبقات والتراسات..الداخل والخارج..الغطاء النباتي والإضاءة..الإطلالة والخصوصية وأخيراً الهوية..

كانت النتيجة عبارة عن مبنىً مميز ذي طبقاتٍ عمودية، حيث تم ابتكار هذه الطبقات بفعل الأحجام المختلفة من الألواح، والتي استطاعت بدورها أن تؤمن شعوراً بالانفتاح والخصوصية في آنٍ واحد، إلى جانب تأمين مساحات معيشة مرنة بين الداخل والخارج، وذلك بالتركيز على أدق التفاصيل ومواد البناء للحصول على شكلٍ متناسق ولائق.

من جهةٍ أخرى، فقد تم دمج ملامح الهندسة البيئية إلى جانب إطارٍ متكامل من الغطاء النباتي في عمارة المكان، انطلاقاً من وعي القائمين أهمية استخدام الطاقة، والتي لها دورٌ أساسي في تحسين مستوى المعيشة فضلاً عن تحقيق الاستدامة للمبنى.

وبدايةً مع الأرضية الأبرز التي يتكل عليها تصميم المبنى وهي الطبقات والتراسات، حيث يبرز المبنى متعدد الطبقات بارتفاع 116 متراً، بينما يستقي الهيكل شكله الفريد من المساكن الفردية المتراجعة نحو الخلف أو إلى الأمام، سامحاً بذلك للتراسات بأن تتدلى ما بين الطوابق، بالتوازي مع عامل الضوء والظل وإلى جانب الأماكن المكشوفة والمغلقة، وبهذه الطريقة ظهرت لدينا مساحاتٍ فريدة من نوعها بإمكان السكان والزوار الاستمتاع بها على حدٍ سواء، فقد تم تصنيف الشقق الفردية على عدة مستويات وفي تشكيلاتٍ مختلفة، والتي اشتركت معاً في تشكيل حيٍ جديد.

بالانتقال إلى الركيزة الأخرى التي استند عليها المشروع، يمكننا القول بأن المناخ المعتدل في بيروت، هو بالتأكيد أحد أهم السمات التي تحظى بها المدينة، والذي يجعل من تجربة العيش في الهواء الطلق جزءاً لا يتجزأ من وجه بيروت العمراني، وليست مجرد إضافة لا طائل منها، فقد انعكس هذا الواقع إيجاباً على “تراسات بيروت”، وأصبح من المفاتيح الرئيسية للتصميم، حيث نلاحظ بأن المساحات الداخلية تندمج والمساحات الخارجية في الشقة الواحدة، وبهذا الشكل تصبح التراسات واقعاً يومياً.

من جهةٍ أخرى نلاحظ بأن تصميم الغطاء النباتي يتوافق بشكلٍ كبير والخطة الرئيسية، حيث يستمر مشهد المساحات الخضراء التي تربط ناطحات السحاب السكنية مع محيطها ولكن عمودياً في داخل وخارج المبنى، وأهم هذه المشاهد هو المدخل الرئيسي؛ المساحة المكشوفة العالية والتي تغمرها برك المياه والنباتات، إذ يشرف المدخل على المشاهد الساحرة لبحر بيروت في الشمال من جهة وعلى المساحات الخضراء في الشرق.

فقد استطاع هذا التناغم ما بين عمارة المكان والمشاهد الطبيعية المؤقتة أن يضخ الحياة في الردهة الفسيحة حول المركز الرئيسي للمبنى، والذي يستمر حتى الشرفات والتراسات عبر كامل المبنى، الأمر الذي انعكس إيجاباً على العلاقة ما بين المشاهد الطبيعية والمساحات الداخلية، حتى نكاد لا نلاحظ الانتقال بين المساحات الطبيعية العامة المفتوحة وبين المساحات السكنية الخاصة الخضراء.

يأخذنا هذا المشهد نحو بحر بيروت المجاور، الذي كان له الأثر الأكبر على المشروع، بينما استطاعت النباتات التي تخيم على تراسات المبنى أن تخلق حواجز تظليلية، كما وتعتبر هذه الحواجز عاملاً أساسياً في تأمين فاصلٍ من الخصوصية بين تراسات الشقق الفردية، فضلاً عن قيامها بتأطير المشاهد الساحرة للمبنى، إلى جانب خلق مناخ مصغر من خلال تعديل المناخ الحالي وبالتالي تزويد عمارة المكان بنفسٍ حي.

بينما تعمل الأجزاء المتدلية الواسعة على تأمين التظليل وبالتالي خفض نسبة تعرض المبنى لأشعة الشمس بشكلٍ كبير، أما الثقوب فإنها تقوم بتعديل التعرض للضوء والشمس أيضاً، في حين يسهم شكل هذه الثقوب وظلالها في تشكيل نقوشٍ دقيقة، تضفي على برج بيروت الاستثنائي طابعاً خاصاً يميزه عن المباني المحيطة.

وعلاوةً على ذلك، فقد تم اختيار سماكة جدران المبنى لتتناسب ودرجات الحرارة على طول اليوم، حيث تقوم بتخزين الحرارة الناتجة عن ضوء الشمس ومن ثم تقوم بطرحها والاستفادة منها في الأيام الباردة، الأمر الذي من شأنه وضع المبنى في مصاف المباني المستدامة.

ويتوقع أن تحصل “تراسات بيروت” على اهتمام نسبة كبيرة من عشاق العمل المعماري المتميز، إذ اعتمد معماريو Herzog & de Meuron استراتيجيةً فريدة من خمسة طوابق مركبة تم تكديسها على نحوٍ مختلف في كل مرة، ونلاحظ أيضاً بأن بلاطات كل طابقٍ من هذه الطوابق تبرز حول محيطها الإجمالي حوالي 60 سم، مما يسهل بناء وصيانة الواجهات الزجاجية الواسعة، كما ويمكننا أن نلخص هنا عناصر الكتلة بجزءٍ مركزي وشبكة عمودية منتظمة تمتد حتى 14,7 م ، بينما يحظى كل ربع من البرج بردهةٍ خاصةٍ به ومصاعد خدمية لكل شقتين، باستثناء الربع العلوي فإنه يحظى بردهتين وتشترك الشقق فيه بمصعدٍ خدميٍ واحد بالإضافة إلى مخارج الحريق.

تم دمج الشقق من مختلف القياسات والأنواع من طابقٍ وطابقين مع بركٍ للسباحة التي نراها موزعة عبر كامل المبنى لتلبية كافة احتياجات السكان وإضفاء طابع خاص بكل شقة، وتتألف الشقق بشكلٍ عام من ثلاثة مناطق؛ وهي غرفة الاستقبال ومساحات المعيشة الخاصة والمنطقة الخدمية، حيث نلاحظ بأن غرفة الاستقبال مفتوحة على ردهة، وتقود في الوقت نفسه إلى غرفة معيشة كبيرة ومساحة أخرى فسيحة للتسلية وغرفة طعام، وأخيراً التراس الفسيح ذي الإطلالة الرحبة.

في حين تضم المساحة الخاصة غرفة معيشة للعائلة وغرفاً للنوم، والتي تتميز بوجود حمامٍ خاص وخزائن، أما المنطقة الخدمية فتتألف من مطبخٍ وغرفة للغسيل وغرفة للتخزين بجوار غرفة نوم وحمام الخدم، ويسترعي انتباهنا هنا بأن كافة المساحات الرئيسية مثل غرف المعيشة وغرف النوم تحظى بارتفاعٍ يبلغ 3,4 م.

وبعد كل هذا، ولأنها في عاصمة الأناقة والكياسة بكل جدارة، تؤمن “تراسات بيروت” لقاطينها مرافق للاستجمام عند طابق الدخول، والتي تضم فيما تضم منتجعاً وبركةً للسباحة وحماماً بخارياً وغرفاً للمساج، وطبعاً مرافق للتسوق على طول الشارع.

أخيراً وفي حال رغبت بعد ثلاثة سنوات؛ وهو موعد الانتهاء من أعمال البناء في المشروع، بزيارة “تراسات بيروت”، ستجد عزيزي الزائر بأن مواقف السيارات الخاصة بالزوار تنفصل عن تلك المخصصة للسكان، إذ يمكنك أن تدخل بسيارتك من جهة الشمال، بينما يدخل السكان عبر البوابة الرئيسية إلى الجنوب، وعند الدخول سوف يجرد القادمون من أمتعتهم ومن ثم يتم تمريرها على الأجزاء المنحدرة التي تحيط بالطريق الرئيسية الدائرية، لتصل مباشرةً إلى الطوابق السفلية، أما وعند مغادرة المبنى فيتم طرح الأمتعة مقابل الردهة الرئيسية ليتم إخراجها عبر البوابة.

لقد استطاعت بيروت كعادتها أن تتجاوز الأزمات..وتخلق المعجزات من رحم الأحزان..وتراساتها القادمة خير وليد..

إقرأ ايضًا