الحفاظ الوقائي كمنهجية لحماية التراث العمراني لمدينة الموصل القديمة

85

على الصعيد العالمي وبعد نجاح عدد من تجارب تبنّي مناهج الحفاظ الوقائي لأغراض حماية وصيانة التراث العمراني كتجربة مؤسسة Monumentenwacht Vlaanderen في بلجيكا وهولندا و La consrvazione programmata لمقاطعة لومبارديا في إيطاليا، تحاول العديد من البلدان اتخاذ إجراءات مشابهة لحماية تراثها العمراني المحلي.

في مدينة الموصل القديمة وخلال العقود الثلاثة الماضية فإن العديد من المباني التراثية والتاريخية اندثر وباضطراد يعزى أحد أسبابه إلى القصور والنقص في منهجيات المراقبة والسيطرة الخاصة بأغراض حماية هذه المنشآت الاستثنائية غير القابلة للاسترداد.

يتضمن حقل الحفاظ العمراني عدداً من منهجيات وآليات العمل المختلفة ومنها أسلوب الحفاظ الوقائي الذي يعد أحد الحقول الحديثة نسبياً.

يصف الحفاظ الوقائي أعمال البحث والتدخلات التي تهدف إلى تخفيف معدل التداعي وتقليل الخطر الذي يتعرض له المنشأ بمرور الوقت، فهو يسعى إلى تحديد وتقليص المخاطر المحتملة للعناصر العمرانية من خلال السيطرة المفصلة والشاملة للمجاورات وللبيئة المحيطة، ويحاول التخفيف والسيطرة على عملية حدوث الضرر والتهرؤ من خلال البحث وتوظيف الأساليب التي تعمل على تعزيز سلامة العناصر والمباني المعمارية وتفاعلها مع المجتمع، فهو ضد سياسة الترميم -Restoration- (إن صح القول) من ناحية اتخاذ المنشأ التاريخي أو التراثي كنصب ميت غير قابل للتفاعل مع السياق المحيط.

إن دراسة وتحديد العوامل الرئيسية التي تساهم أو تؤدي إلى زيادة مستوى ضرر الأبنية والعناصر التراثية لمباني مدينة الموصل القديمة وكيفية السيطرة على تقليل أثرها ضرورة ملحة لأعمال الحفاظ الناجعة، ومن خلال دراسة تحليلية مقارنة بين بعض التجارب العالمية الناجحة في مجال الحفاظ الوقائي مع واقع حال مناهج الحفاظ على تراث مدينة الموصل يمكن الوصول إلى نتائج فعالة وتقديم خطوط دلالية وتوصيات يمكن توظيفها لإعداد إستراتيجية حفاظ وقائي لتراث المدينة العمراني.

في الصيانة الوقائية قد تتقاطع الأهداف والغايات والنتائج المختلفة وقد تشترك مع بعضها البعض، وعليه فإن تحقق أحدها في جانب معين من جوانب الحفاظ يوفر أو يساعد تلقائياً جوانب أخرى من جهة ثانية. لهذا، يمكن تقديم حلول لعقبات وصعوبات متعددة من خلال تنفيذ أحد المتطلبات بشكلٍ محدد وتقديمه كأولوية تتطلب سرعة التنفيذ، على سبيل المثال، فإن إجراء الجرد الشامل للتراث العمراني في مدينة الموصل القديمة يعمل على سد الثغرة المتعلقة بالمعلومات اللازمة للتسجيل، ولتكوين قاعدة المعلومات، وللسيطرة وإدارة المخاطر وغيرها، كما يمكن اعتبارها مهمة لتدريب كادر الموظفين والمشاركين وفرصة للمساحين الشباب لتعزيز مستوى خبرتهم العملية.

ومن أجل تحقيق منهاج للحفاظ الوقائي بصورة فعالة لتراث الموصل العمراني يجب أخذ عدة أمور بنظر الاعتبار وهي:

الإدارة والسيطرة على البيئة الداخلية والخارجية ومتغيراتها:

إذ أنه من المنطقي وأكثر عملية في ظروف تدهور المبنى التاريخي أو التراثي أن يكون الهدف الرئيسي هو إجراء التعديلات عليه، تلك التي تتلاءم مع الظروف البيئية. عادةً، في حالات قليلة يمكن السيطرة وإدارة الظروف البيئية للغلاف والأسطح الخارجية، بينما من الممكن من خلال التخطيط المبرمج مراقبة البيئة الداخلية ضمن المباني المصممة والنظامية.

تعتبر عملية تقويم الظروف والعوامل البيئية المرحلة الأولية لعملية التعديل البيئي للمبنى، والتي تشمل مسوحات القياس والرصد وتحليل المصادر البيئية. وبالتالي، فإن السيطرة على هذه المصادر أمر حيوي لتجنب العوامل المؤثرة سلباً على المبنى التراثي كالرطوبة النسبية، وتقلب درجات الحرارة، وتجنب التكثيف، وتجنب تدفق الهواء القوي، وتجنب أشعة الشمس المباشرة على الأسطح، وإزالة الطفح الملحي وغيرها، والتي تعتبر الخطوات العامة لأفضل الممارسات في الحفاظ على التراث المعماري. هذه العوامل تتطلب التحقيق والتشخيص والمسح الدوري، والتي تمثّل الفعاليات المستمرة والمطلوبة للحصول على أهداف الحفاظ الوقائي بشكل ناجع.

1. الإدارة والسيطرة على تقدم الأخطار المتوقعة: وتتطلب تحضير مخطط المخاطر Risk plan: فيما يتعلق بإدارة عملية التسجيل، فإن إجراء الجرد الشامل لتراث مدينة الموصل القديمة يعتبر أمراً حيوياً لتوفير متطلبات عمليات التسجيل وتقديم التقارير اللازمة لتكوين قاعدة البيانات لإعداد وتكوين خطة الطوارئ أو خطة السيطرة على الأخطار، والتي تحدد جميع الإجراءات اللازمة لصيانة منشأ معين في الوقت المحدد، وذلك من أجل المراقبة والسيطرة على المخاطر والأضرار قبل ظهورها أو تفاقمها.

وبمرور الوقت فإن الحفاظ الوقائي الشامل لحماية التراث العمراني يتطلب علاجات فردية ومخصصة لكل حالة من الحالات. وبالتالي، يتم التوثيق: إدارتها وتقديمها إلى مستويات قابلة للسيطرة عليها، ومن ثم تخصيص الموارد البشرية والمالية لإتاحة فرص عمليات حفاظ أخرى.

2. إدارة أعمال التوثيق:

وتشمل كل من التسجيل التصنيف وتقديم التقارير: يجب توفير نظام حاسوبي تخصصي داعم لأعمال التسجيل وتوثيق الممتلكات التاريخية والتراثية، إلى جانب إعداد وتحسين نظم إدارة المعلومات وخصوصاً وسائل الإعلام الرقمية من أجل تأسيس كل من خطة الحفاظ الوقائية والعلاجية، واستخدام تكنولوجيا الاتصالات في تبادل الخبرات بين مختلف الهيئات المشاركة في عملية الحفاظ على التراث الموصلي. مثل هذه الجوانب تمكّن المشاركين والمخططين وأصحاب المصلحة من صنع القرار السليم في هذا المجال.

3. إدارة أعمال الفحوصات الدورية:

وتتضمن المعاينة والفحوصات والمسرحات الدورية: إن عملية المراقبة الدورية والتقييس المستمر لعناصر المبنى والمؤثرات الخارجية والبيئية هي الأداة الرئيسية المطلوبة للحماية والصيانة الفعالة. ومن أجل حماية أصالة المباني التراثية والتاريخية واستدامتها ينبغي إعادة تمثيل الممتلكات المعمارية التاريخية والتراثية المدرجة بصيغة من صيغ التمثيل الرقمي يتضمن كافة المواقع والمباني والتفاصيل الآثارية والتاريخية مع بيئتها الحقيقية وبصيغة نظامية تشتمل على جميع نتائج الفحوصات والمسرحات وملاحظات الاستكشافات الدورية والتغيرات المادية مع مرور الزمن.

4. إدارة المعلومات:

بعد مرحلة جمع قاعدة البيانات، يجب تطوير نظام إدارة معلومات التراث الموصلي من خلال التعاون بين مراكز البحوث والأقسام العلمية في جامعة الموصل كقسم الهندسة المعمارية وهندسة الحاسب الآلي وكلية الآثار وأقسام التاريخ والاجتماع وغيرها مع الجهات الحكومية المتخصصة وبإدارة متخصصين، وببرامج مدعومة علمياً على مستوى الدراسات الأولية والعليا وإجراء المسوحات وأعمال التوثيق والتوصيف؛ ومادياً كمساهمات ومنح.

من خلال تحليل مثل هذه المعلومات عن طريق الرسوم البيانية والإحصاءات يمكن الوصول إلى مستوى وزمن حدوث المخاطر والأضرار الجسيمة المتوقعة على المنشآت التاريخية والتراثية، وتحديد الأولوية التي هي بحاجة إلى إجراءات الصيانة والمعالجة الآنية أو المستعجلة.

يتم إنشاء هذا التمثيل من قبل برمجيات الكمبيوتر الخاصة، يتضمن جميع الأنشطة الأولية للصيانة والمراقبة التي يجب الإشارة إليها ووصفها تفصيلياً باعتبارها جزءاً هاماً في إحياء وتطوير النسيج الحضري التراثي.

إن الجدولة الزمنية لتدخلات العمل على المنشآت التراثية هي المسألة الأهم في عملية الصيانة المخططة؛ عليه فإن هكذا منهاج ينبغي أن يتضمن الرسم التخطيطي الزمني Chronic Diagram عن الأنشطة التي يتعين القيام بها، لجمع المعلومات عن العمليات المنفذة والنتائج المحققة ومدى تقدم ومستوى عملية الحفاظ.

هذا النظام يجب أن يحتوي على كافة المعلومات حول المنشأ وخصائصه والمخططات والقياسات ومواد الإنشاء والإنهاء والصور وأعمال التوثيق السابقة والحالية ومستوى ونوع المخاطر، ومستوى الضرر ومستوى انحدار التهرؤ ونتائج الاستقصاءات والفحوصات الدورية السابقة، وتوصيف تدخلات العمل السابقة وغيرها.

وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي للمديريات ذات العلاقة تشجيع وتعزيز استخدام التقنيات الحالية لاستثمار الموارد التراثية من خلال الاستفادة من تقنيات الاختبارات والتحليلات غير المدمرةNon-destructive testing techniques ، وتكوين تمثيل ثلاثي ورباعي الأبعاد للتراث العمراني، وإنشاء المواقع الدائمة على شبكة الإنترنت لتبادل المعلومات لتسهيل عملية صنع القرار ورفع مستوى الوعي العام للمجتمع الموصلي المشارك.

5. إدارة عملية سن القوانين والتعديلات التشريعية:

تعتبر عملية سن القوانين والتشريعات الخاصة بالحفاظ على التراث العمراني عملية معقدة ومتطورة في البلدان المتقدمة لما لها من أثر واضح في الحيلولة دون المساس بالإرث الحضاري للمجتمعات. إن القانون العراقي للحفاظ يتضمن العديد من جوانب القصور وأهمها ما يتعلق بالتشريعات التي تعمل على ردع المخالفين أو تشجيع المساهمين، ويحتاج وقفة جدية ومراجعة في جوانب العقوبات والغرامات لتتلاءم مع الواقع الحالي وأيضاً في جانب المنح والقروض والعفو الضريبي لأغراض تشجيع المساهمين في عملية حماية وصيانة الأبنية التراثية.

6. إدارة الموارد البشرية، وسائل الاتصالات ورفع الوعي العام:

إن الحقل الأهم من جوانب الحفاظ الوقائي هو حقل إدارة عملية التدريب والتعليم بما يمتلك من تأثير على باقي الجوانب الأخرى. إن عملية تعليم وتدريب المشاركين المعنيين تلعب دوراً رئيسياً في نجاح التدابير المنفذة، وينبغي أن يعي الأشخاص المسئولون عن إدارة ورعاية التراث المعماري والعمراني وعياً جاداً بقضايا الصيانة الوقائية بصورة تفصيلية. وينبغي توفير منهاج ناجح لتحسين وتنفيذ الصيانة الوقائية من خلال البحوث العلمية والمهنية الملائمة والكافية، والتي تجمع بشكل تكاملي وتناغمي بين المنهجيات والتقنيات الحالية والحديثة المتطورة.

ومن خلال تدخلات العمل البسيطة من قبل القاطنين والمستخدمين والمنجزة على بيئتهم يمكن رفع مستوى الاهتمام وزيادة الوعي الجمعي نحو النسيج الحضري القائم، فضلاً عن تقدير أهمية وقيمة هذا النسيج والمساهمة في الحفاظ على أنشطتهم ومهنهم التراثية. إن منهجية الحفاظ الوقائي تبدأ من السكان، وبدون جهودهم و مساعدتهم الحقيقية فإن مثل هذه الرعاية والعناية الأولية تزول وتكون غير قابلة للتنفيذ.

د.عماد هاني العلاف دكتوراه هندسة معمارية في تكنولوجيا استثمار التراث العمراني قسم الهندسة المعمارية، كلية الهندسة، جامعة الموصل، العراق [email protected]

إقرأ ايضًا