تيتانيك الصحراء

17

تيتانيك الصحراء

عمارة الأرقام القياسية

مع أعلان الإمارات اليوم عن مشروعها الجديد “مول العالم _ أكبر مول في العالم” أجد أنه قد حان الوقت لوقفة مع الذات وإعادةٍ للحسابات:

أكبر جزيرة إصطناعية في العالم، أطول ناطحة سحاب، أغلى مسابقة لركوب الخيل والقائمة تطول وتطول.

كلماتٌ كتلك من الأكبر والأطول والأغلى أصبحت في الإمارات اليوم كلماتٍ مألوفة للغاية؛ حتى أنها أصبحت بديلاً عما كان يوصف بالأكثر تأثيراً والأكثر مناسبة.

فلطالما كان التقييم المعماري يدور حول فعالية وموازنة ومناسبة المهمة المناط إنجازها. ولكننا عندما ننظر إلى أبنيةٍ مثل جامع الشيخ زايد في أبو ظبي أو برج خليفة في دبي وغيرها الكثير يجب أن نسأل أنفسنا ما الخطأ الذي حصل حتى نالت تلك الأبنية أي تقدير؟ على أيّ مستوىً نجحت تللك الابنية؟

ولنأخذ جامع زايد مثالاً؛ فمن النظر الأولى يمكن للمرء أن يلاحظ كم المال والجهد المبذولين والضائعين للأسف في ذاك المكان. والسبب بسيط؛ فهو من جهةٍ يتناقض مع وظيفته الخاصة والرئيسية وهي تأمين مكان للعبادة، مكانٌ للتأمل. ولكنه على العكس يقدم تضليلاً صارخاً؛ فلبّ ما يجب أن يكون عليه المسجد، أو أي مكان عبادة، هو أن يقدم فراغاً باعثاً على السلام، ولكن بدلاً من ذلك فإن أفضل كلمة لوصف ما يقدمه هذا الجامع هي “صالة إحتفالات”.

والحجج كثيرة؛ أبسطها أن الدعائم الثخينة والثقيلة تأكل الفراغ المبالغ في حجمه قاطعةً الصفوف؛ بالرغم من أن من أهم ما يجب أن يوفره تصميم الجامع الإسلامي هو تقليل إنقطاعات صفوف المصلين لأقصى حدٍّ ممكن.

أما الكتلة الخارجية للمبنى فهي عبارة عن نسخة مشوهة لضريح تاج محل، ولكن من بعد عودته من رحلته في الغابة المسحورة مغطىً بكافة أنواع الزهور والنباتات.

وحتى قطع الأثاث في الداخل تقوم على أساس الكلفة والحجم مستعرضةً كل ما يتناقض مع الخيارات الجمالية والحكم الجمالي “المناسب” في حجمها وشكلها وألوانها.

لا يوجد أثرٌ للتناغم الذي عرّفه ألبرتي بين الجزء والكل ولا أثرٌ لتوصيات فيتروفيوس لإنجاز عمارة ناجحة.

هذا ما طغى حتى ليسلب تماماً حضور بعض قطع الأثاث الفنية الموجودة داخل جامع زايد؛ كالمنبر الخشبي المصدف من دمشق، والذي من المعلوم كم يتطلب صنعه جهداً وحرفة، كذلك السجادة الإيرانية التي كان لا بد أن تكون “الأكبر في العالم”.

هذه المعالجة وتلك المفاهيم ليست عبارة عن حادثةٍ واحدة بل هي أصبحت طريقة عيشٍ وتفكير. وهذا ليس خطأ سكان المنطقة وحدهم وحسب؛ وإنما هو أيضاً خطأ المعماريين العالميين المسؤولون المباشرون عن العمارة في الخليج.

هل هم مقتنعون حقاً بما يقدمونه؟ أو أن مطالبهم قد تحولت أيضاً لتُختزل في مطلبٍ واحد هو “الأكثر أجرةً”؟

عمارة الأرقام القياسية هذه أصبحت اليوم هي العمارة الحقيقية. وربما قد أصبحت الكمية هي بديل النوعية الجديد. وبالطبع لا أعني بالنوعية نوعية البناء؛ وإنما نوعية العمارة لأن لا احد يمكنه المجادلة في النوعية العالية للمواد المستخدمة ولا في تقنيات الإنشاء. لكن هذا الإعتبار لا ينطبق للأسف على نوعية الفكر وارء المنتج المبني، وفي الحقيقية إن فكرة التعامل مع الإنجازات المعمارية على أنها منتجات وسط نمط حياةٍ باغٍ في الإستهلاك هو في حد ذاته عيب.

من وجهة نظري؛ أرى أن كل ما في الخليج ينمو على السطح دون أي جذور، إبتداءً من لفائف العشب المفرودة فوق وجه الصحراء، إلى الأبنية البرجية المتعالية وسط الفراغ الشاسع، مروراً بالطعام المستورد من حول العالم.

عندما مررت على التلفاز بأكبرعرضٍ للألعاب النارية ليلة رأس السنة لم أستطع ألا أفكر في ما كان يوماً “أكبر سفينةٍ في العالم”: التيتانيك؛ بترفها العظيم تشق عباب المحيط الأطلسي وهي تعرض للعالم ألعابها النارية وأغنياؤها يقفون فوقها وفقراؤها في الأسفل قابعون.

هذه المرة دعونا ندعو الله أن تيتانيك الصحراء ستكون أكثر حذراً حين سيظهر لها جبل الجليد.

مروة الصابوني

نشرت هذه المقالة أول مرة في مجلة معهد المعماريين الملكيين البريطانيين RIBA

إقرأ ايضًا