على أعتاب مئوية المعمار محمد مكية..”قيامة” مبنى: قيامة لتحفة معمارية د. خالد السلطاني

12

عندما كُلّف مكتب “محمد مكيه ومشاركوه”، في تصميم مصرف الرافدين فرع الكوفة (1968)، كان ذلك التكليف، (رغم تواضع منهاج المبنى المقترح، وصغر أبعاد موقعه: المبنى بطابق واحد، وأبعاد العرصة المشيد عليها المصرف لا تتجاوز 25×30 متراً)؛ فرصة مواتية لمعماريي المكتب، أن يتواصلوا مع خصوصية المكان، المكان، الذي يعيد إلى الذاكرة النجاح المعماري الإسلامي الأول، الذي تمثل بظهور مسجد الكوفة (17هـ /638 م) ودار الإمارة لاحقاً. (يتعين التذكير بأن مسجد البصرة، وإن كان أبكر زمنا من مسجد الكوفة ، إلا أن الأخير، كان إنجازاً معماريا مؤثراً، مقارنة بمسجد البصرة الذي اقتصر بناؤه على عمل “ظلة” تلبي غايات وظيفية بحتة ومباشرة). مثلما أتاح ذلك التكليف للمعماريين العاملين في مكتب محمد مكيه، مرة آخرى، التأكد من صدقية وجمالية، ما تم اجتراحه سابقا من عناصر وقيم في ذلك المسجد المدهش: مسجد الخلفاء ببغداد (1963)،الذي تحدثنا عن عمارته في حلقة سابقة من هذه الزاوية (المدى، 17/8/2013). أود قبل الحديث عن عمارة المبنى، ان أضفي سمة إيجابية على قرار المعمار وأُحيّي قبوله العمل خارج بغداد، وفي “الضواحي” تحديداً، بعيدا عن أجواء العاصمة و”بريقها”، الذي يخطف الأبصار، وإغواء شهرتها التي لا تقاوم! ولئن عد وجود المنتج المعماري الرصين، المصمم من قبل معماريين مشهود لهم بالكفاءة والمهنية العالية، حدثاً يغني نسيج البيئة المبنية، حتى ولو كان ذلك النسيج البنائي في العاصمة نفسها، فإن تأثيرات حضور تلك “العمارة” في بيئات الضواحي، سيكون أعمق موقعاً وأكثر تأثيراً. كما ان دوره هناك، لا يقتصر على تجديد النسيج البنائي المتواضع والمتهرئ لتلك التجمعات الحضرية، وإنما يضحى نموذج العمارة المتحققة هناك، “أيقونة بصرية” للمدينة التي يتواجد فيها، ويصبح مثالا واضحاً وصالحاً للاقتداء والتمثيل من قبل كثر من المعماريين المحليين وأقرانهم في البلدات المجاورة. اعتمد التكوين المقترح لمبنى المصرف، في الغالب الأعم، على التوزيع الحر و”المفتوح” لفضاءاته Open space. ثمة فضاءات مفتوحة، شغلت معظم مساحة المصرف، هي المخصصة لقاعة المراجعين، والأخرى للموظفين العاملين فيه. احتلت بعض الأحياز، ذات الوظائف الخاصة، مثل الغرفة الحصينة والفضاءات الخدمية جانبا من أقصى القسم الخلفي للمبنى، مشكّلة “شريطاً” فضائياً، امتد على طول المبنى؛ منهية بذلك حركة “الفضاء المنساب”، الذي هيمن حضوره في القرار التكويني. وكما أشير توا، فإن جميع فضاءات المبنى قد تم استيعابها بطابق واحد، ارتفاعه العالي نسبيا، حدد ارتفاع مبنى المصرف إياه. ينهض المبنى على “مصطبة”، أوجدها المعمار، يبتغي من ورائها عزل المبنى عن ضجيج الشارع الذي تطل عليه، ومنحه في الوقت عينه، نوعا من الأهمية التصميمية. استخدم الآجر (الطابوق المحلي) بلونه الأصفر الباهت المميز، كمادة أساسية في معالجة الواجهات. وقد منح القوام الإنشائي المعتمد على النظام الهيكلي، والمتشكل من الجسور والأعمدة الحاملة، المشغولة من الخرسانة المسلحة، منح فضاءات المصرف المصممة، إمكانية حضور الشفافية فيها بصورة جلية، لإدراك أفضل لعمل منظومة المصرف وتتبع إجراءاتها بشكل ميسر وواضح. ينزع المعمار إلى تبسيط “الفورم” المقترح لمبناه، مثلما نَزَعَ إلى توظيف “البساطة” ذاتها في توزيع أحيازه الداخلية. ثمة “سقيفة” خرسانية، تغطي، تقريباً، حدود الموقع الذي ينهض عليه المبنى. وهذه السقيفة التى ترتكز على جدران “ثلاثية الأبعاد”، تشكل بتضاريسها الداخلة والخارجة قشرة المبنى الخارجية، صائغة، في الوقت عينه، منظومة ترتيب سطوح واجهات المبنى المعبرة. إنها، أي السقيفة، بوظيفتها المباشرة والواضحة، المهيمنة على أقسام المبنى التي تحتها، والغالقة لفضاءات المصرف، تذكرنا بمصطلح “السقيفة المزخرفة” Decorated Shed، التي استخدمها “روبرت فنتوري”، في كتابه “درس من لاس فيغاس”، كناية عن التعبير عن كنه العمارة، وتتبع جوهر مسارها، ومساعيه في تفكيك ذلك المسار وإرجاعه إلى حالته البدئية والأصلية. نحن، إذاً، شهود لحالة تتوق ان يكون منجزها المعماري، معبراً عن مفهوم ومسار تلك العمارة الأولية، التي نشأت في هذا المكان، ودالاً على مسارها التاريخي، بربط تلك الحالة بالمكان وتقاليده البنائية. من هنا، كان ، إذاً، على معماريي المكتب، مع أستاذهم محمد مكيه، أن يولوا أهمية فائقة لتقاليد المكان المعمارية، مع السير قدماً في تنويع توظيفات تلك العناصر “المخترعة” في الخفاء، بضمنها ما يسميه “كنعان مكيه”: <الجدار، ثلاثي الأبعاد الذي بمقدوره ان يكون مبنىً!> ((Kanan Makiya, Post-Islamic Classicism, 1990, p. 100 . بالنسبة إلى تقاليد “المكان”، وإلى خصوصية “المكان”، وذائقة “المكان”، ليس هناك اكثر صواباً لتمثيل ذلك كله من حضور الهندسية: الهندسية الصافية والأساسية و..الصارمة أيضاً. وهذه الهندسية التي وسمت المنتج الكوفي المعماري منه والفني (لنتذكر خصائص الكتابة الكوفية، المعتمدة في جوهرها على الهندسية الأساسية)، كان لا بد من وجودها في التكوين، ليس فقط حلاً لمعضلة تصميمية، وإنما حضورها كان يستدعي “الغياب”؛ الغياب، الذي يومئ لتلك النجاحات التصميمية الباهرة، التي تحققت هنا، على الأرض “الكوفية”، وأمست، لاحقاً، عنواناً لمقاربة معمارية لافته (وأعني بها العمارة الإسلامية)، هي التي فرضت قيمها وأسلوبها التكويني على المشهد المعماري العالمي، رغم التجاهل والنسيان و”الغياب”، الذي طال عمارة الكوفة، بدون وجه حق، كونها عمارة مؤسسة لتلك المقاربة المعمارية المميزة! ما نلاحظه، وما يريدنا المعمار أن نلفت الأنظار إليه، هو تلك “الهندسة” الطاغية في التكوين، وحضورها الجليّ، إن كان أفقياً، عبر طريقة توزيع الأحياز في المخططات المصممة، أم عمودياً من خلال أساليب معالجة الواجهات، فضلا عما توحي به كتلة المبنى الأساسية ذاتها، من “فورم” هندسي متكامل. في جميع تلك الحالات، تغدو الهندسية أداة أثيرة لدى المعمار لبلوغ مبتغاه التصميمي. لا يتعين أن ننسى، أيضاً، طبيعة المادة الإنشائية المستخدمة في المبنى، وهي الطابوق، وما يمكن ان تمنحه تأثيرات شكله المنتظم على “المناخ” الهندسي، العابق به التكوين، وتكريس ذلك المزاج في العمل المعماري المتحقق. ويظل الإنجاز الأهم، بل الإضافة الكبرى، في عمارة مصرف الكوفة، هو مسعى المعمار في “تغيير” مفهوم الجدار الذي بحوزته، ليكون <ثلاثي الأبعاد>. جدير بالذكر ، ان هذا المسعى بدأه المعمار من قبل، وتحديداً، أثناء اشتغاله على عمارة مسجد الخلفاء ببغداد (1963). فمن هناك، من “الخلفاء”، تبدى الجدار، الذي ظل يعتبر، دوماً، سطحاً ثنائي الأبعاد، كتلة بثلاثية الأبعاد، عن طريق “الحفر” فيه وتطويع شكل سطحه وظيفياً، ليغدو حجما يصنع حيزاً خاصاً به. في مصرف الكوفة، ثمة تأويلات مبهرة لذلك المفهوم، الذي “اخترع” يوما ما في الخلفاء. (رغم أننا، نعي تماما، بأن ثمة تجارب عالمية اشتغلت على هذه الثيمة التصميمية. وبهذه المناسبة، ترد إلى الذاكرة، أعمال “لويس كان”، وتحديدا أعماله المصممة في نهاية الخمسينات، مثل الكنيسة الموحدة الأولى في رويجستر بنيويورك ، ودارة ماغريت اشيريك في فيلاديلفيا، بنسيلفانيا ، وطبعا القنصلية الأمريكية في لاوندا، أنغولا ). يتوق المعمار إلى ان يجعل من واجهتي مبنى المصرف (الشرقية: اليسرى، والغربية: اليمنى)، مكاناً ملائماً لتأويلاته التكوينية. إذ يحرص على ان يكون تعامله مع تينك الواجهتين نتيجة صيغة قرار موحد، يبدو في عمومه متشابهاً، يتمثل في تكرار “وحدة تصميمية” اعتمدها لجداره. وهذه الوحدة، هي في الحقيقة، قطعة جدار آجري، على شكل حرف U اللاتيني، (بعرض يصل إلى مترين ونصف) يفصلها عن مجاوراتها جدار آجري أيضا، يحيط به من الجانبين شقان/ نافذتان غائرتان نحو الداخل، عرض كل منهما، نصف متر، وهو العرض الذي يماثل عرض الحائط أيضاً. ومن أجل إظهار “كتلة” الجدار المختلقة، لجأ المعمار إلى عمل عقود مدببة، تنحسر أشكالها المنظورة بصورة تدريجية نحو العمق، لتصل إلى منتصفه، حيث يوجد “شق” لنافذه أخرى، تمتد نحو الأسفل، تقسم الوحدة التصميمية إلى جزءين، في القسم الأوطأ منها. في الواجهة اليسرى (الغربية)، حرك المعمار الوحدة التصميمية بحركة تناوبية نحو الخارج وإلى الداخل، كاشفاً عن صفتها الكتلوية بصورة واضحة. لقد كان قرار المعمار الجريء والمبدع في آن معاً، إكساب سطوح واجهاته إحساساً بالكتلة، إضافة مميزة لمفهوم الجدار. وبهذا القرار، فإن مبنى المصرف بالكوفة، على تواضع حجمه وصغر أحيازه، يبدو وكأنه رمز لاجتهاد تصميمي، سعى وراء تكثيف وتلاقي قيم معمارية، اشتغلت عليها عمارة المكان عبر فترات زمنية طويلة، ظلت إبداعاتها تتقاطع وتتواشج في ما بينها، مستمدة كينونتها من علاقتها الجدلية: طمساً وتوثيقاً، متجاوزه، بقراءة مبدعة وتناصية، وهم الشكل الواحد، والمعنى الواحد، مانحة إيانا، نحن مشاهدي منجزها التصميمي، متعة بصرية لا تضاهي، يزيدها جمالاً وبهاءً، الإحالات والتشابكات التي سعى المعمار لتذكيرنا بها، في عمل خلاق، وقدرة عالية على امتصاص ذائقة المكان، بعيداً عن مغريات الشكل الواحد وسطوته! لكن هذه التحفة المعمارية الرائعة، والمنجز التصميمي الفريد، قد تمت إزالته!. لقد هُدم في 1991 (كما أعلمني أصدقائي الكوفيون)، بدعوى انه يعيق توسيع شارع في المدينة! وبهذا الهدم، (بهذا الخراب المفجع)، فقدت عمارة الكوفة، وعمارة العراق، وعمارة الإقليم واحداً من اجمل نماذجها التصميمية. علماً ان المبنى المُزال يكتسي أهمية مضافة، كونه من المباني القليلة ..والأخيرة، التي نفذها المعمار مكيه في بلده – العراق، والذي يطمح الوسط المهني والثقافي الاحتفاء بمئويته في ربيع العام القادم. سيكون حدثاً مؤثراً ، مثلما ستكون فكرة مناسبة ومرحباً بها، ان “نعيد بناء” ذلك المبنى المميز مجدداَ، وأن نهديه، مرة أخرى، إلى بيئة الكوفة المبنية، هي التى حرص محمد مكيه على ان يكون مبناه احد رموز ومشاهد تلك المدينة ذات التاريخ الحافل بالأحداث المهمة. وستكون تلك اللحظة اللافتة، في حالة تحقيقها، إيماءة احترام وتقدير للمعمار، وللعمارة، وللمجتمع الذي صمم له محمد مكيه. وإذ أناشد المجلس البلدي بالكوفة، وإدارة مصرف الرافدين، وكل المهتمين من مؤسسات عامة ومجتمع مدني، العمل معا من أجل تنفيذ تلك الأمنية، الذي سيضحى تنفيذها بمنزلة رسالة موجهة، تنم عن وفاء العراقيين لمعمارييهم ولمدنهم، وتشير، أيضاً، إلى قدرتهم في تحقيق إرادتهم في وقت عصيب. وسأكون، ومن معي من زملاء مهنة، جاهزين لإبداء المشورة الفنية في إنجاز تلك المهمة النبيلة وتطبيقها على ارض الواقع. فـ “قيامة” عمارة هذا المبنى، وإعادته للحياة، هي من دون شك، قيامة لتحفة تصميمية لا تضارع في أهميتها التكوينية، وجمالها المعماري. ود. محمد مكيه معمار المبنى، مولود سنة 1914، ببغداد. وقد أصدر لفيف من المعماريين والمثقفين العراقيين، قبل فترة، بيانا تكريميا بمناسبة قرب حلول مئويته، ونشر على نطاق واسع في الميديا العربية. صمم عدة مبانٍ بالعرق وفي بلدان الخليج, وعدت تلك المباني شواهد مهمة في المدن التي نفذت بها تلك المشاريع. منها “مسجد الخلفاء” ببغداد (1963)، ومصرف الرافدين في كربلاء (1968) <الذي هو الآخر، أزيل بصورة تعسفيه في التسعينات>، ومكتبة الأوقاف في بغداد (1967)، وغرفة التجارة والصناعة في المنامة، البحرين (1975)، ومسجد الكويت الكبير (1976)، ومشروع جامع الدولة الكبير في بغداد (1982)، وغيرها من المشاريع المهمة الأخرى. مقيم في لندن. محمد صالح مكية الدكتور محمد صالح مكية من مواليد بغداد عام 1914م، إذ أكمل فيها دراسته الأولية ثم درس الهندسة المعمارية في جامعة ليفربول في بريطانيا، وقد نال درجة البكالوريوس عام 1941 وحصل على الدبلوم في التصميم المدني من الجامعة نفسها، أما الدكتوراه فقد حصل عليها عام 1946م من كلية كينغزجامعة كمبردج في بريطانيا، وكان موضوع أطروحته ((تأثير المناخ في تطور العمارة في منطقة البحر المتوسط)). وعاد إلى بغداد في العام ذاته وأنشأ «شركاء مكية للاستشارات المعمارية والتخطيط». وفي الخمسينات، وضع تصميمات لمبان سكنية وتجارية واتسعت معرفته بتراث الهندسة المعمارية العراقية. إضافة إلى ذلك، كان الدكتور مكية أحد المؤسسين الأصليين لقسم الهندسة المعمارية في كلية الهندسة بجامعة بغداد في عام 1959. وظل رئيسا للقسم حتى عام 1968. وفي الأعوام التالية، أقيمت مكاتب لشركة مكية في كل من البحرين وعمان ولندن والكويت والدوحة وأبوظبي ودبي. جرى تناول أعمال وأفكار محمد مكية وشركته في العديد من الكتب والمقالات، ودرستها وبحثت فيها مؤتمرات ومعارض، من بينها مؤتمر دولي عن التراث المعماري في بغداد الذي عقد في أوائل هذا العام في جامعة بغداد. كان المؤتمر جزءا من فعاليات «بغداد عاصمة الثقافة العربية لعام 2013» برعاية جامعة بغداد والمعهد الفرنسي للشرق الأدنى ومكتب منظمة اليونيسكو في العراق. لا توجد مبالغة في الحديث عن حجم إسهامات مكية في مجالات الهندسة المعمارية والتخطيط المدني وعلى وجه الخصوص إدخاله البارع للأشكال التقليدية في الهندسة المعمارية الحديثة. برز أرشيف محمد مكية في مكتبات معهد ماساتشوستس في الصيف الماضي عندما قُدم أول مشروع مهم يقوم به مكية في مشواره المهني، جامع الخلفاء (1960-1963، والتوسعة المقترحة في 1980)، في معرض مكتبة روتش الكبير: «التعليم من خلال مجموعات معمارية مرئية: مختارات من مجموعات روتش الرقمية». تضمنت مجموعة «محمد مكية ومشروع جامع الخلفاء» 25 صورة من الرسومات وملاحظات على التصميم ومخططات وصورا مأخوذة من الأصل المحفوظ في الأرشيف. تروي الصور قصة هذا المشروع العملاق الذي تم تطويره مع الحفاظ على التحفة الفنية الوحيدة الباقية من المسجد العباسي الذي يرجع إلى القرن التاسع في المكان ذاته: مئذنة سوق الغزل المتهدمة. جسد تصميم مكية المبتكر للجامع، الذي يقع في منطقة صبابيغ اللال في بغداد القديمة، أفكار المحافظة المدنية على التراث وإضفاء الطابع الإقليمي على الشكل واستمرارية التراث المعماري – وهي الأفكار التي كانت ملهمة لأعماله منذ ذلك الحين إضافة إلى الأجيال الأصغر من المعماريين.

إقرأ ايضًا