عمارة تلد عمارة!

40

المتتبع لأفكار الدكتور خالد سلطاني ينهل من نبع غزير, ومن ضمن مشاركته لبوابتنا المعمارية بمقالاته القيمة والثرية أفادنا بالموضوع التالي: “تحية: يتعاطى، موضوع مقالي الجديد “عمارة تلد.. عمارة”، مع شأن حضري- معماري – فني. اراه جد مهم، فضلا على آنيته، نظراً لما يمكن ان يضيف مفهوما جديدا وقابلاً للتحقيق الى مفردات عناصر التخطيط الحضري. والاهم، في كل ذلك فان ثيمة المقال تنزع الى النأي عن “ثنائية”: الهدم او الترميم الرائجة كثيرا في المشهد المعماري؛ مقترحة في هذا الاطار، بديلا عنهما. في المقال ثمة “فكرة”، مثلما هناك مقاربة لتنفيذ تلك الفكرة. متطلعاً لمعاضدتكم لي في تحقيقها. قراءة ممتعة.”

واليكم المقال:

يتغير مآل العمارة من حالة إلى أخرى. وتتغير تبعاً، لذلك، وظيفتها التي صممت من أجلها. إنها تظهر بهذا التغيير المستمر والدائم والمختلف، إحدى سجاياها، رافضة به مسعى تحديد مسوغات حضورها في المشهد، فقط، بالغاية التي من أجلها تم تصميمها، ومن ثم تبعات تلك الغاية المشكلة لمفردات هيئتها بعبارة أخرى، تتبدى العمارة، بحمولاتها الرمزية المتعددة والمتنوعة، عصية في أن “تحشر” ضمن فهم آحادي، مرده بان “الشكل يتبع المضمون”. فما نراه )وما تعلمناه ايضاً( من مسار تاريخ العمارة العريق، يدحض، من دون أدنى ريب، “مصداقية” تلك المقولة، التي تبنتها “الحداثة”،وجعلت منها إحدى مرجعيتها التي بها، تأسس مفهوم “العمارة الحديثة”. صحيح، أن نزوع المعمار/ المصمم، كان في الغالب العام )في الاقل، قبل ظهور عمارة ما بعد الحداثة(، ينحو، اساساً، إلى تنطيق مغزى “الوظيفة” واجهاتياً، لكن تعدد المعاني و”الشفرات” المكتنزة في صميم بنية التكوين المعماري، يجعل من ذلك النزوع، وخصوصا في أوقات لاحقة، سراباً تصميمياً بامتياز.

عندما شاهدت مبنى كتاب العدول سابقاً، الواقع في جديد حسن باشا ببغداد، قبل أكثر من ثلاث سنوات، فجعت، حينها، لما آل واحد من أجمل نماذج العمارة “المدنية”، لبغداد”العثمانية”. انه مبنى مميز واستثنائي لجهة مقاربته المعمارية؛ تلك المقاربة المفعمة بالحس الكلاسيكي المحدث، وفرادته التصميمية مقارنة بما كان ينتج معماريا وقتذاك و أظن، بان مصمم المبنى إياه، الذي ظل اسمه مجهولاً، هو مصمم محترف على قدر عالٍ من المهنية.

وليس، قطعاً، من البناة الشعبيين، الذين احتكروا منتج المشهد البنائي حينذاك. وهذا واضح من أ سلوب معالجة واجهات المبنى، التي تنم عن دراية مهنية لا بأس بها، عما شغل، وقتئذٍ، الخطاب المعماري من مقاربات تصميمية. فالأسلوب التماثلي المعتمد والسائد في واجهة المبنى، مع القدرة في تبيان مفردة المدخل الرئيس، واصطفاء مقا س ومقياس مناسبين له، اضافة على استخدام العنا صر التزيينية بمهارة في أعلى فتحات النوافذ، وهي معالجات تبدو ان ” صاحبها” يدرك جيدا” أدواته” التكوينية، ويعرف باقتدار طرائق عملها و أساليب تنطيقها. كما إن ملكة المصمم العالية تظهر بوضوح من خلال طريقة انهاء “تدفق” مفردات واجهاته نحو الاعلى وتوقفها، بمعالجة تصميمية بارعة، انطوت على حس احترفي مشوب بجمالية واضحة. وفي حينها اقترحت ان يكون هذا المبنى )بوضعيته المنهوبة الحالية( “ركناً” اساسياً لفضاء حضري، غاص بالأحداث الثقافية، ومليء بنشاطاتها؛ يستقي بواعث حضوره في المشهد، من السمة الثقافية التي تسم المكان. ويفترض أن يؤلف هذا” الجدار المثقب”، الذي تشير فتحاته الخالية الى ما كان يعرف بنوافذ و أبواب سابقة، عنا صرا من عنا صر تصميمية أخرى، تؤلف بمجموعها تكويناً لأحياز مميزة في الشكل والوظيفة، يمكن أن يكون وجوده إ ضافة معبرة إلى خصوصية البيئة المبنية التي ينهض عليها؛ لاسيما إن حضور عمارته المتفردة، ما برح، يضفي جمالية آسرة الى الشارع الذي يطل عليه، ويلفت ذلك الحضور البهي انظار كل من يمّر بموقعه.

الفكرة للاّن، أعيد مقترحي السابق، مناشداً الجهات المسؤولة، بجعل جدران المبنى إياه، )جزءا(،من تكوين لفضاءات مصممة، ذات احياز تخدم الغايات الثقافية والترفيهية، وليعزز حضورها المعبر والاستثنائي، من أهمية المكان، ودوره المؤثر في منظومة التخطيط الحضري لمدينة بغداد ومفرداته.

إن قرار إبقاء الجدار بحالته الراهنة )بعد إجراءات عمليات التنظيف، طبعاً، ولا إدامة له، وحتى ترميم أجزاء من عناصره( لهو قرار نراه يمتلك صوابتيه، لجهة تجاوزه ثنائية التعاطي مع حالة المبنى الراهنة المتمثلة في خيارين: إما الهدم، و إما الترميم. واجداً في قرار الهدم، أي هدم، والشيء بالشيء يذكر، قراراً غير مناسب، يرقى الى أن يكون قراراً تعسفياً وظالماً. وقد آن الاوان، للقول بصورة واضحة لا لبس فيها، بان قرارات الهدم، التي تستهوي أصحاب الشأن، يتعين أن تكون آخر القرارات المطروحة على “مائدة” اتخاذ القرارات؛ بل أن المطلوب تجاوز ذهنيتها بالمطلق، نظراً للآثار الوخيمة التي أحدثتها في البيئة المبنية الحضرية، والتي بسببها، تمت إزالة كثير من الشواهد المعمارية المميزة، التي لا يمكن تعويضها. و أما بصدد قرار الترميم، فانه هو الاخر يبدو قرارا غير مجدٍ وغير مقنع وظيفياً، ناهيك عن كلفه العالية.

يبقى، اذاً، الحل الذي اقترحناه، والمتمثل في الحفاظ على ما تبقى من المبنى وجداره، ومعالجة “فضاءاته” الداخلية المكشوفة بإضافات تصميمية مدروسة ومبدعة، مع توظيف الانارة الفنية فيه، بحيث يغدو “انترير” المبنى الداخلي، هو ذاته “اكتسرنر” خارجه، ما يضفي عليه فرادة تصميمية، تتأسس من حضور تلك المفارقة التكوينية. وتتيح مثل هذه المعالجات التصميمية إمكانات واسعة لإشغال تلك الفضاءات بأكبر قدر من الكفاءة وحسن الاستعمال. وبهذا الحل التصميمي، الذي نراه مناسباً، فان المبنى يظل شاخصا أمام اعين البغداديين وزوارهم، والاهم، يذكرّ حضوره اللافت بالأحداث المأساوية والفاجعة التي حدثت يوما ما في هذا المكان، وفي أمكنة اخرى من أحياء العاصمة، تماما، مثلما حدث الامر ذاته في معظم المدن العراقية الأخرى، ما يجعل من “الجدار المثقب”، تذكاراً لتلك المحنة التي شهدها العراق بأجمعه؛ ويكون حضوره المادي رادعاً لعدم تكرار مثل تلك الوقائع في المستقبل.

وفي تقديرنا، فان التصميم المقترح، المتكون أساساً، من فضاء مديني، تحدده “بقايا” عناصر لمبنى سابق، سيكون إضافة جديدة وغير تقليدية لمفردات المخطط الحضري البغدادي، ويؤثث بحضوره الممّيز غير العادي، تلك المفردات، بأسلوب مبتكر ولافت.

وسيكون مكاناً مؤهلاً ومناسباً للمناقشات والاجتماعات والتلاقي بين أناس متعددي الاهتمامات والثقافات. ولكونه بالقرب من فضاءات أمكنة مخصصة تقليديا للشأن الثقافي مثل القشلة و شارع المتنبي و سوق السراي الخ..، فان هذا المقترح وفضاءه الاستثنائي، سيتمم وظائف تلك الفعاليات، ويضيف لها أبعادا فنية وثقافية مرموقة. معلوم، أن وجود مثل هذه النماذج “التذكارية” ليس أمراً استثنائيا في التجارب الحضرية الحديثة، التي تحضر فيها تلك الفضاءات، التي تذكّر بمفرداتها التكوينية زوارها ومشاهديها عن أحداث مهمة وخطيرة مرت في تاريخ تلك المدن التي تنشأ فيها مثل تلك النماذج التذكارية.

ولعل كثر، ولا سيما المعماريين منهم يتذكرون”معلم” وسط برلين عاصمة ألمانيا، المتكون من”بقايا” كنيسة، قصفت أثناء الحرب، وتهدم جزءٌ منها، وحافظ البرلينيون عليها بحلول مبدعة، أعادتها للخدمة ولكن بإضافة مميزة لفضاء حداثي متمم لمبنى الكنيسة الكلاسيكي، التي بقيت آثار قصفها واضحة وجلية من دون تغيير، تذكر جميع من يشاهدها بويلات الحرب التي عاشتها المدينة في السابق، وعايشتها الذاكرة الجمعية، التي لا تريد تكرار مثل تلك الاحداث المفجعة.

التنفيذ بغية تحقيق فكرة المقترح واقعيا، يتعين أن تتبناه مؤسسة لها علاقة بالمبنى، ولها اهتمام في عائديه المكان. وأزعم أن أمانة بغداد هي المؤسسة الجديرة بتحقيق هذه الفكرة بالتعاون مع مؤسسات ثقافية ومنظمات مجتمع مدني.

و لأجل تنفيذ الفكرة التصميمية، بصورة مهنية وموضوعية، يتعين تنظيم مسابقة معمارية، ببرنامج يحدد الاهداف والمضامين، يشترك فيها المعماريون العراقيون وغير العراقيين، لتقديم مقترحاتهم الخاصة لهذا المشروع التصميمي.

وأن يصار إلى اختيار لجنة تحكيمية، تصطفي التصميم الامثل، مع مراعاة الحفاظ على ما تبقى من المبنى، كشرط من شروط المسابقة.

وان يأتي الحل التصميمي المنتظر، بحلول تغني خصوصية المكان، وتعتبره كأحد الامكنة المميزة في المخطط الحضري البغدادي.

و أعلن هنا، باني مستعد، تطوعا، لتقديم المشورة الفنية في تحضير المنهاج التصميمي وتحديد أهدافه واشتراطاته، مع ممثلي الجهة ذات العلاقة؛ والاشتراك في لجنة التحكيم، وما تطلبه المسابقة من توا صل مع المشتركين فيها، وان يكون عملي هذا منزهاً عن أية مطالبات مادية او حتى معنوية ، يحدوني في ذلك أمل، رؤية بغداد مدينة عصرية وجميلة، مع الحفاظ على بقايا هذا المبنى الحداثي الرائد والمتميز، ولا إمكانات الوا سعة التي توفرها بقاياه لإضافة فضاء حضري استثنائي ذي تأثيث مديني متميز، يمكن به أن يكون ” أيقونة”بصرية لمدينتنا الحبيبة.

خالد سلطاني معمار وأكاديمي

إقرأ ايضًا