عمارة عقد “المرتجى .. والمؤجّل” د. خالد السلطاني

33

أعترف بأني مفتون بعمارة العقد الثلاثيني ببغداد. أراه عقداً مميزاً واستثنائياً في أهميته العمرانية والمعمارية. إذ به، تحديدا، تمكنت بغداد أن تنتقل من مدينة في ولاية عثمانية منسية ومهملة، إلى عاصمة لدولة جديدة، بهرت المنطقة وما جاورها ببيئتها المدينية الحداثية، مستعيدة شهرة اسمها الأسطوري، “المكتشف” مجدداً! انه، من دون ريب، عقد الآمال الواسعة، والواعدة.. و”المرتجاة”. ففيه ترسخ مفهوم بغداد المديني، كما لم يترسخ في أي عقد سابق من تاريخها الطويل الحافل بالأحداث المفصلية الإيجابية الكبرى؛ لكنه، أيضا، المثقل بالخيبات والإخفاقات والهزائم! هي التى تم “اختلاقها” من خلال فكرة، متخيلة و”طائشة”، أُريد لمبانيها ان تنحصر في موقع دائرة منتظمة ومغلقة، لتضحى بعد ذلك حاضرة العالم الإسلامي الفسيح، الممتد من أقاصي الصين، وإلى تخوم جبال البيرينية في اعلى شمال شبه جزيرة أيبيريا! ستقولون: أو ليس من ثمة مبالغة، بما يحدثنا به “صديقنا” المعمار هذا؟ وستكون إجابتي – قطعا لا! ذلك لان هذه الـ “لا” المؤكدة، واليقينية، تعتمد في صدقيتها، على حقائق معروفة وثابته، احتفظت، أو أُوحت، بها نماذج عمارة ذلك العقد “الأسطوري” وأفكاره العمرانية! ومنعاً للالتباس، سأصطفي مثالاً واحداً من نماذج ذلك المنجز المعماري المبجل؛ مثال، أطمح به، التعبير، أيضاً، عن كثرة وتنوع “أرباب العمل” وأصحاب القرار، الذين دأبوا على ان تكون نماذج العمارة الحداثية حاضرة، حضوراً بليغاً، في المدينة/ العاصمة. سأتحدث، إذاً، عن مبنى منطقة “رأس القرية” في شارع الرشيد، والمشيد في منتصف ثلاثينات القرن الماضي. يتكون المبنى من ثلاثة طوابق، أُعتبر ارتفاعه علواً ملائماً لمباني الشارع الأخرى، المخدومة من دون مصاعد. والمبنى إياه يتألف بالواقع، من “مبنيين” متجاورين. وتشي لغتاه المعماريتان ونسقهما التصميمي، إلى أن “مصمم” الاثنين، هو شخص واحد. لا نعرف، مع الأسف، اسمه الكامل، هو الذي اجترح لنا عمارة مميزة بمستوى مهني عال، إن كان ذلك لجهة اختياره لمقاربته المعمارية، أم لناحية دقة التفاصيل التصميمية ورهافتها وتنوعها، المستخدمة في مبناه، أو في الأحرى في “مبنييه” الاثنين. وطالما لم يسجل هذا المبنى في السجل الإنجازي للمعمارين المعروفين العاملين، وقتذاك، في العاصمة العراقية، فان من المحتمل ان يكون “معمار” هذين المبنيين هو من “الأسطوات” البغداديين، هم الذين “اشتغلوا” كثيرا، وبمهارة فائقة، على إثراء البيئة المبنية معولين على مقدرتهم الإبداعية، ومعتمدين على ظاهرة الممارسة البنائية، وفق ما يعرف بالبيانات المصورة (أو الدفاتر المصورة) <الكاتالوغات> Catalogues. فقد انتشرت في الثلاثينات موضة المكاتب التي تعنى بتقديم أنواع مختلفة من التصاميم المعمارية المنشورة في هذا (الكاتالوغات) ويترك للزبون حرية اختيار التصميم الذي يناسبه، ومن ثم يتكفل المكتب المحلي في تجسيد (الحلم) التصميمي إلى الواقع. وأكثر تصاميم تلك (الدفاتر المصورة) هي تصاميم شائعة في بلاد الشام وكذلك في بلدان حوض البحر المتوسط الأخرى، كتركيا واليونان وإيطاليا وحتى فرنسا. ورغم ان تصاميم تلك المشاريع، اتسمت بحضور عال للأسلوب (التوليفي) Eclecticism، فان كثافة العناصر الزخرفية ونوعيتها الموظفة في تصاميم تلك الأبنية امتازت على حس مهني وجمالي عاليين مشوب بالحداثة، لم تعرفها الممارسة التقليدية البنائية المحلية من قبل. جزأ المعمار واجهته الرئيسية المطلة على الشارع (وهي الواجهة الوحيدة المتاحة له تكوينياً، اذ ان “المبنى” محصور بين أبنية أخرى) إلى ثلاثة أقسام. شغل الجزء العلوي منها ستارة سطح المبنى المعمولة من الآجر، التي اتسمت بأنواع مختلفة من فتحات “التثقيب” الآجري فيها، بالإضافة إلى ثراء الزخرفة الطابوقية. ان قيمتها التصميمية تنبع من أهميتها، كونها “غالقة” لجريان تكوين مفردات الواجهة. من هنا يمكن تسويغ كثافة التزيينات فيها، التي جاءت تعويضا عن مقاسها المتواضع. وجاءت معالجة الطابق الأرضي، العالي نسبيا لوجود طابق نصفي فيه، مقننة بشكل عام. وتمثلت تلك المعالجة، في قرار المعمار بانحسار كتلته بعيدا عن خط الشارع، خالقا بذلك رواق مسقف للمشاة، يقع أمام فراغات هذا الطابق التى اقتصرت وظيفتها على الوظائف التجارية. اختار المعمار أشكالا مختلفة لتيجان أعمدة الرواق، زيادة في إثراء الجانب التزييني لمبناه. ففي حين كانت هيئة التيجان “أيونية” لأعمدة المبنى الواقع في القسم الأيمن، اصطفى المصمم التيجان الكورنثية لأعمدة المبنى الأيسر. ويظل القسم الأوسط من الواجهة في المبنيين، يعتبر بمثابة القسم المهم والأساسي فيهما، والتي أتت معالجاتهما بشكل متماثل تقريبا. اعتمدت تلك المعالجة على تكرار “مفردة تصميمية موحدة”، قوامها شرفة عريضة، بقدر عرض المجالSpan ، المحدد إنشائيا، تطل عليها باب محاطة بشباكين من جهتيها الاثنتين. ثمة تقسيمات هندسية منتظمة اتبعها المعمار في تجزئة الإطارات الخشبية للأبواب وللشبابيك، هي التي ألفت بإيقاعها المتكرر الموتيف الأساسي لواجهة المبنى بشكل عام. وتدلل مرجعية أشكال فتحات النوافذ والأبواب، واختيار منظومة التناسب Proportion فيهما؛ فضلا عن نوعية التزيينات الجدارية، المستخدمة في الواجهات، إلى مقاربة عمارة “الأرت ديكو” المعروفة، عالمياً، في الخطاب المعماري العالمي. ………………………………………………………………….. أعتبر، شخصيا، قرار المعمار بـ “تفريغ” جزء من واجهة المبنى الأيمن، من القرارات المبدعة، والجريئة، والموفقة تصميميا. إنه قرار مميز، يخفف من رتابة إيقاع الوحدة التصميمية المكررة، وبالتالي يمنح جمالية الواجهة، قوة تعبيرية مضافة. كما ينشد المعمار جراء قرار “التفريغ” غير المسبوق، وبوظيفته المعلقة، استحضار “اميج” الفناء المفتوح الشائع الوجود في الأبنية البغدادية. وإذ تمثلنا أجواء بغداد الصافية، وما قد ينجم عن ذلك من حضور طاغٍ للشفافية في الواجهة التى خلقها المعمار المُجد، فإننا سنكون عند ذاك، إزاء تمرين تصميمي مبتكر، غاية في الفرادة والجمال. عندما استحدث المعمار العالمي “غوردن بانشافت” <فجوتين> معلقتين في مبناه <المصرف الأهلي> في جدة بالسعودية (1983)، رأت الناقدة المعمارية الأمريكية المعروفة، والحائزة على جائزة <بوليتزر> “آدا لويزا هاكستابل” Ada L. Huxtable ‘ في ذلك “.. فتحاً مبيناً ومبتكراً في عمارة الأبنية العالية”، مغدقة عليه آيات الإعجاب والتقدير، لا سيما استلهاماته، بذلك العمل الابتكاري “لروح” المكان، الذي يصمم له. والحقيقة، وكما يعرف البعض، من ان معماريي مكتب “اركتيكتونيكا” Arquitectonica ، هم من استخدم “الفجوة المعلقة”، قبل بنك جدة، ضمن واجهة مبناهم الشققي “اتلانتيس” المشيد في ميامي بفلوريدا في الولايات المتحدة عام 1980-82. لكن الواقع يقول، بان المعمار البغدادي “المغمور”، في الحقيقة، هو الذي “اجترح” تلك المفردة التصميمية، قبلهما في الثلاثينات من القرن الماضي، معلقا هيئتها، كما نرى، في مبناه الرائع والمثير برأس القرية في الرشيد! ومهما يكن، فان ظهور مبنى رأس القرية، وعمارته المميزة ..والابتكارية ايضاً، لم يكونا محض صدفة في ذلك “العقد الفريد”، الذي انطوي على وجود مبانٍ أخرى كثيرة، شكلت، كما اشرنا، نجاحات العراق وأسست لعمارته الحداثية. ان مجرد التذكير بالمشاريع المنفذة وغير المنفذة التي تضمنها ذلك العقد المجيد، مثل: مبنى الكلية الطبية في العيواضية (1930)، ومبنى الميناء الجوي (1931) – مطار المثنى حالياً، ومكتبـة الأوقاف في باب المعظم (1931) <التي أزيلت مؤخـراً> ومبنى المعرض الزراعي/ الصناعي (1932) في باب المعظم ( وزارة الخارجية سابقاً )، ومبنى قصر الزهور في الحارثية (1933) <هدم وأزيل نهائيا، مع الأسف الشديد، إبان أحداث 2003 >، والضريح الملكي في الأعظمية (1934-37) وبناية كلية الهندسة (1936) ومعهد الفنون الجميلة ( 1936) في الكسرة ، ومقر وزارة الدفاع في القلعة (1936) ، ودار المعلمين الابتدائية (1936) والنادي ” الأولمبي” في الأعظمية (1939)، بالإضافة إلى تمثالي الملك فيصل والسعدون (1933)، وجسري المأمون (الشهداء، والملك فيصل (الأحرار) (1939)، فضلا عن كنيسة الدومنيكان في السنك (1932)، وجامع <الشهيد> عند ساحة الفردوس (1938)، ومعمل شركة دخان عبود وطبارة في الكسرة (1939)، ومشروع المتحف العراقي (1939)، وعشرات، بل مئات، من بيوت النخبة البغدادية ذات العمارة المميزة والمجددة، والتي جعلت من بغداد وكأنها مدينة تولد من جديد بعمارتها الحداثية المعبرة. وفي ذلك العقد، تم أيضا عمل مخطط عام للعاصمة، وصدرت فيه قوانين تنظم البيئة المبنية، كقانون البلديات الذي شرع في سنة 1931، وقانون <الطرق والأبنية> لسنة 1935، الذي اعتبره “سيد” قوانين البناء، لما له من تأثير خطير على جميع مراحل تطور العمارة والبناء في بغداد والعراق عموما. وبهذه الإنجازات الحقيقية والمبدعة، فان عقد الثلاثينات، يعتبر، ولا بأس من التكرار، عقد الآمال الواسعة والواعدة.. والعديدة أيضا. لقد كانت مساحته الزمنية قاصرة لاستيعاب مثل تلك الآمال المتنوعة والمجددة، حتى ان بعضها أُجّل تنفيذها لوقت آخر، إنه، باختصار، عقد “المرتجى والمؤجل” (بلغة غائب طعمة فرمان) من الآمال والتمنيات. بقي عليّ، ختاماً، أن أشير، إلى أني عندما أنهيت تأليف كتابي “عمارة الحداثة في بغداد: سنوات التأسيس”، اخترت لغلافه صورة هذا المبنى المميز، كرمز يختصر مفهوم الحداثة المعمارية ويدلل عليها. بيد أن الكتاب، الذي قدمته إلى وزارة الثقافة ببغداد قبل حوالي العام، مفترضاً صدوره ضمن مطبوعات “بغداد عاصمة الثقافة العربية”، والذي عملت عليه طويلا، واستنفد مني جهدا وبحثاً عميقين، مابرح، للآن، أسيراَ في أدراج الوزارة، تائهاً بين “كتابكم وكتابنا”! …لكن ذلك، حكاية “محزنة” أخرى! * العنوان مستوحى من رواية “المرتجي والمؤجل” لصديقي الروائي <غائب طعمة فرمان>.

إقرأ ايضًا