“مدينة الحكايا”… المعمارية

29

عندما تذكر بغداد، تحضر “الحكايا”؛ الحكايا الواقعية… والخيالية. والأخيرة متنوعة، وكثيرة، مثلما هي طويلة ..ومعروفة!.

فبغداد، وكما هو معلوم، أثرت ذاكرة العالم القصصية (وليس الذاكرة المحلية والإقليمية فحسب)، بخيال خصب من حكايا وروايات، ماانفك صداهما يتردد في لغات عالمية عديدة، منتجة في الأخير “إميجاً” أسطورياً لتلك المدينة الخالدة، ومؤسسة “أيقونة” رمزية لحاضرة النوادر المختلقة.

لكن ماذا عن بغداد “الواقعية” نفسها؟؛ هي التي “ولدّت” وأنتجت هذا السفر الجميل من الحكايا العابرة للحدود والقارات… والبحار.

ماذا عنها كمدينة حقيقية، مبنية؟، ماذا عن شواهدها المادية؟ و”فورماتها” المعمارية؟. إن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، يمكن أن يقدمه مضمون كتاب صديقتي وزميلتي د. غادة موسى رزوقي السلق “مدينة الحكايا”، الصادر عن الجمعية العراقية لدعم الثقافة (صدر في 2011، وبعدد صفحات 238 من القطع المتوسط، راجعه مفيد الجزائري، وقام بتحريره محمد علي، وصممته مريم الصائغ ونادين نضال أمين).

ينبني مضمون الكتاب في الاعتماد، أساساً، على صور لمشاهد المدينة، يجاورها نص مكتوب، يهتم في توضيح أهمية تلك المشاهد، ويظهر قيمتها المعمارية. إنه، بمعنى من المعاني، “دليل” معماري/ ثقافي لمدينة مميزة في تاريخ التمدن العالمي؛ هي التي يشير إليها “مفيد الجزائري” في مستهل تقديمه للكتاب، بأنها عرفت على الدوام “..بتاريخها الحافل وبتراثها الفريد المستمد من موقعها كملتقى لطرق العمران والثقافة في العالم.

فعلى مدار القرون، ومع تدفق نهر دجلة الذي ولدت على ضفافه مدينة مدورة وعاصمة حضارة وبؤرة انوار، ارتفعت المباني الجميلة ذات الحضور الطاغي على امتداد الضفتين لتغدو معالم مميزة ومنشآت تعليمية ودينية وتجارية ومؤسسات حكم.” (ص.6).

توضح المؤلفة خطتها للكتاب، وتحدد أهدافه، بكلمات مختصرة ومقنعة، إذ تكتب “… سعينا أن نقدم هنا الأبنية الرائعة ضمن سياق زمني. ورغم بقاء الأمكنة وتوالي الأحداث فيها، فلم نضمّن هنا، ما حمله تاريخها من عمارة اندثرت. رغم أنها تستوجب الدراسة والبحث. وآثرنا أن نقدم الأبنية الماثلة للعيان موضحين حكاياها ومعالمها ومشيرين لإمكانات حفاظها وإعادة تأهليها، بادئين بعمارة العصور العباسية المتأخرة، مروراً بالقرون والعقود المتعاقبة حتى مطلع القرن العشرين ونمو بغداد اليوم” (ص. 37).

ثمة، إذاً، محطات من سجل الذاكرة المعمارية، سنشاهدها معاً في كتاب غادة السلق. وهذه المحطات، اصطفتها المؤلفة، لتعبّر بها عن احترامها بتراث مدينتها وولعها بها، مثلما تُظهّر نوعية خياراتها. فهي “تقرأ” لنا تاريخ المدينة العمراني والمعماري، وفق ذائقة مشوبة بحس فنيٍّ عال.

تحرص غادة السلق إلى تذكيرنا، بمقدمة كتابها، عن نشأة بغداد وتوسعها الحضري، وقيمة الشواهد التي ستتكلم عنها معمارياً. كما توضح في المقدمة أيضاً، حيثيات كتابها المميز ومبرراته. تكتب د.غادة ” في عام 2012 يكون قد مضى 1250 سنة على البدء بإنشاء المدينة المدورة، التي أسست لمركز المدينة الكبرى. وقد يكون من بوادر عودة الألق، أن نحتفي عام 2013 بكونها عاصمة للثقافة العربية. نستعيد فيها أيام كان الباحثون وطالبوا العلم يؤمونها من المشارق والمغارب” وتنهي تلك المقدمة بنداء مفعم بالحرص على عمارة المدينة ماضياً ومستقبلاً: “إن بغداد بحاجة إلى رؤية ثاقبة وعميقة لما ستكون عليه وكيفية تحقيقه رؤية تحمل طباق تاريخها وتعني بإظهاره وإغنائه حفاظاً وتجديداً. هذا يشمل التوجه بكل عناية لصيانة وإدامة الأبنية التي روت أخبار عصورها المتلاحقة والتي يمكن إعادة تأهيلها وإحيائها.” (ص. 35).

تذكر د. غادة السلق من ضمن معالم بغداد العباسية المنشورة في كتابها، مئذنتي جامع قمرية، وجامع الخفافين. والأخيرة، تُعد، وفق كثر من المصادر، بأنها المئذنة الأصلية لجامع الحظائر، الذي ينسب بناءه إلى السيدة زمرد خاتون، المتوفية سنة 1202. وهي تقول عنها بأن “المئذنة ربما تكون أقدم ما وصل لنا من عمارة بغداد العباسية. وهي تحتاج إلى أعمال صيانة، ما يجعل من الحفاظ عليها (يكتسي) أهمية كبيرة. كما يحتاج الجامع إلى إعادة تأهيل لحالة تجعله يتناسب وقيمة المئذنة التاريخية المتميزة”.(ص. 68)

وإذ تشير إلى مئذنة جامع قمرية في الكرخ، التي تعود إلى جامع “بُني في نهاية الحقبة العباسية في زمن المستنصر بالله العباسي عام 1228… والمتكونة من أسطوانتين متباينتي الأقطار، تنتهي العليا منهما بقبة صغيرة، تعود للبناء الأصلي, وفي داخلها سلم حلزوني يصل إلى أعلاها، وهي من النماذج الأولى لوجود السلم الداخلي فيها… وهذه المئذنة التاريخية تستوجب الانتباه لها والحفاظ عليها، لما تحمله من قيم معمارية وثقافية”. (ص. 70- 72).

ونرى، نحن أيضاً، بأن الحفاظ على هذين المعلمين، يكتسب أهمية قصوى راهناً، ذلك لأننا لا نمتلك، في الوقت الحاضر كثراً من الشواهد المبنية العباسية في بغداد، هي التي كانت يوماً ما، حاضنة للكثير من المباني المميزة، الفريدة في أسلوب عمارتها، والتي تعرفنا عنها، من خلال الوثائق المكتوبة وما تناقلته مؤلفات الكتاب والدارسين.

ويتعين القول هنا، بأن مهام الحفاظ والتأهيل (ليس، فقط، فيما يخص هذين الشاخصين المهمين، وإنما كل ما من شأنه أن يكون مؤهلاً لاشتراطات الحفاظ المعروفة)، ليست وقفاً، ولا حكراً على الجهات الحكومية، وإنما يشترك في أدائها ويؤدي التزاماتها المجتمع نفسه، ممثلاً في التجمعات المدنية والمهنية المتنوعة المعنية هي الأخرى في تحقيق تلك المهام.

هذا لا يعني، بالطبع، في أي حال من الأحوال، التغطية على عجز المؤسسات الحكومية في أداء مهماتها في هذا الشأن، أو إيجاد مبررات تنصلها المفجع بذرائع مختلفة؛ وإنما يراد منه التأكيد على دور المجتمع نفسه وحرصه في الحفاظ على تراثه وذاكرته المعمارية.

من بين كنائس بغداد المتنوعة تاريخياً ومعمارياً، نجد ضمن اختيارات د.غادة السلق “كنيسة مريم العذراء ، والتي تقول عنها بأنها ” تقع في منطقة الميدان، وهي من أقدم كنائس بغداد التي لا تزال قائمة حالياً. بنيت عام 1639م حيث كانت قد نقلت إلى بغداد ذخائر القديسة مسكنتة التي توفيت في كركوك في القرن الثالث الميلادي(؟!).. وتعد من المزارات المسيحية في بغداد ويقصدها الكثير من الناس من المسيحيين والمسلمين وخاصة في عيد السيدة العذراء في الخامس عشر من آب. خضعت لأعمال صيانة وترميم عبر الزمن.. وأهم صيانة جرت لها كانت في ثمانينات القرن العشرين حيث تم تطوير الأبنية التابعة لها ضمن مجمع واحد.” (ص. 134). وطالما أتت د. غادة، على ذكر ترميمات الثمانينات، فإننا توقعنا أن تذكر مصمم الكنيسة الأخيرة، وهو المعمار العراقي: “هنري زفبودا”، الذي توفي مؤخراً.

وأعتبر، شخصياً، كنيسته تلك، من المباني المميزة في منتج عمارة الحداثة بالعراق، هي التي لم تأخذ حقها من الدرس، كما لم يأخذ مصممها حقه أيضاً من الدرس والمتابعة. ومثل هذا الأمر يثير الأسى، لجهة نزعة التغاضي والتجاهل، التي بدأت تتكرس، مع الأسف، في أدبياتنا ..وذاكرتنا. وأنا هنا، طبعاً، لا اقصد د. غادة؛ إذ أدرك حرصها على الاختزال، ونزوعها نحو تكثيف المعلومة المنتقاة، لكني أستثمر ظاهرة حضور الغياب (والتغييب، أيضاً!)، اللتان أتى ذكرهما، هنا، عرضاً، واللتان نلحظ شيوعهما الآن في الوسط المهني عامة، لا شجب انتشارهما غير المقبول، وغير المبرر بكل تأكيد. لكن ذلك بالطبع ..”حكاية” أخرى!.

في كتاب “مدينة الحكايا”، هناك إشارات إلى مواقع حضرية ذات خصوصية معينة؛ وليس الأمر مقصوراً، فقط، على تناول معالم معمارية محددة بعينها. فالمؤلفة تشير، على سبيل المثال، إلى “شارع المتنبي”، وتبرر ذلك من كون قَدَر الشارع، وأهميته المعنوية “..لا تنبع من قيمة أبنيته المعمارية، ولا من تكوين طرازه كسوق السراي، مثلاً؛ لكن من الوظيفة الثقافية التي حفل بها وأصبحت رمزاً وتعبيراً للحياة الثقافية البغدادية.” (ص. 185).

بمعنى آخر، إن “الحكايا”، ليست متعلقة أو مرتبطة بالشواهد المعمارية على وجه الحصر، وإنما تتوق المؤلفة إلى تذكيرنا بخصوصية المكان، أو بالأحرى “روح المكان”، وهو ذاته “جنيّ المكان” Genius Loci، بحسب مقولة الناقد المعماري النرويجي “كريستيان نوربرغ شولتز”، وهو تعبير لاتيني مقتبس من الأساطير الرومانية، التي تزعم بأن كل إنسان، وحيوان ومنشأ وحتى الأمكنة، تمتلك “روحاً” تحرسها، وتكون من مهمتها أيضاً تكريس وتحديد فرادتها، التي لا نظير لها.

وفي سياق التنظير الحداثي فإن “جينيوس لوسي” له تأثيرات عميقة في تشـّكل المكان معمارياً وتخطيطياً ومنحه استثنائيته، وهذه الظاهرة عبرت عنها خير تعبير المقاربة “الفينومينولوجية” !. لكننا سوف لن نسترسل كثيراً هنا، في الحديث عن أهمية “المكان” تصميمياً، وسنكتفي بدلالات أهمية الفضاء المديني الذي تتمظهر فيه خصوصية و”روحية” المكان، التي أشارت د. غادة السلق إليهما، في معرض ذكرها لشارع المتنبي..

ثمة غياب (يمكن بسهولة ملاحظته في كتاب “مدينة الحكايا”)، لشواهد العمارة البغدادية الحديثة. رغم أن المؤلفة وعدتنا في كلمتها التمهيدية، بأنها ستتناول معالم بغداد “مطلع القرن العشرين ونمو بغداد اليوم”. وبما أنه ، ويبدو أنه متقصّد أيضاً، فإننا نحدس بأن شواهد عمارة الحداثة، سيكرس لها كتاباً خاصا آخراً؛ كتاباً متمماً “لمدينة الحكايا”، تقص به غادة السلق حكاياته لنا، بمثل تلك المتعة والحنّية، التي غمرتنا بها وهي تسرد لنا “حكاياها”!.

فالحكايا البغدادية معروف عنها، بأن كل حكاية فيها “تلد” أخرى؛ تماماً مثل “توالد” حكايات البغدادية المشهورة. جدير بالذكر، أن نصوص الكتاب العربية رافقتها ترجمة بالانكليزية؛ ما يجعل من مادة الكتاب، نصاً مقروءاً من قِبل أوساط ثقافية متنوعة، إن كان ذلك محلياً أو عالمياً.

وإذ أود، في الختام، أن أطري مؤلفة الكتاب على صنيعها المميز، واهتمامها العميق بشواهد بغداد المبنية، ودعوتها النبيلة لصيانتها والحفاظ عليها، فقد كنت آمل، بأن المؤلفة ستعير أهمية خاصة واستثنائية في اختياراتها لمفردات الجزء التصويري من الكتاب، والذي، في رأيي، لا يقل أهمية عن النص المكتوب.

فبعض الصور المنشورة لا تستجيب نوعيتها إلى اشتراطات الطباعة الجيدة. وكان الأفضل اختيار صور أخرى بديلة عنها، أو عدم نشرها بالمرة، إذا تعذّر البديل. ذلك لأن المنشور منها، قد “شوشر” علينا لذة الاستمتاع بكتاب قيم، ومفيد وممتع؛ والمهم جدير بالقراءة والتأمل.

د. خالد السلطاني مدرسة العمارة/ الأكاديمية الملكية الدانمركية للفنون

إقرأ ايضًا