ملاحظات حول مدن الشرق

6

منذ ان اطلقت المعمارية حملتها لاعادة أعمار المدن المدمرة ، جال في خاطري تسجيل وكتابة بعض الملاحظات والخواطر حول التخطيط الحضري في الشرق والمدن العريقة فيه والتي تعرضت وتتعرض للدمار اليومي بمستويات ودرجات وأنماط شتى.

كنت من قبل قد نشرت على جريدة المدى البغدادية سلسلة المدينة في العراق، وتعرضت الى عدد من المشاكل التي تعاني منها ولا أدري ان أعطت تلك الملاحظات بعض ثمارها أم لا، فوضع المدينة في العراق أصبح شبه عصي على الاصلاح. مع ذلك فلا شيء في هذه الحياة لايمكن أصلاحه أذا ماتوفرت الارادة.

 

 

لقد كان من الصواب أن لم تحصر البوابة مبادرتها بالمدن العربية أو لم تسمها كذلك، فالمدن التي تتعرض الى الدمار الان ليست كلها عربية، كما ان معظم المدن أن لم يكن كلها مدن شارك فيها الاخرون سواء ممن سكنها أو عمل فيها فقط، وسيكون تسميتها بالعربية أجحافا ً بحق الاخرين وحجراً أول في طريق البحث العلمي بعيداً عن التعصب الذي يعصف بالمنطقة كطوفان لاهوادة فيه.

أمر آخر لابد من التصريح به وأن أثار حفيظة البعض هو أن التاريخ الاسلامي لهذه المدن لايمثل الجزء الاعظم أو الاهم على الاطلاق في تأريخها. ان ما يميز الشرق هو أشتماله على أقدم مدن التأريخ في حياة البشرية القصيرة نسبياً الى تأريخ الارض الطويل. وأن الكثير من هذه المدن يعود في ظهوره ووجوده الى مايقارب الخمسة الاف عام أو أكثر ولايمثل تأريخ الاسلام فيه سوى 1400 عاماً أي ما نسبته الربع او الاقل زمنياً، كما أنه كان قد بنى أسسه وبالذات في التخطيط الحضري والعمل المعماري على ما أنتجته تلك الحضارات السابقة وما أنجزته، وبدون تلك الانجازات ماكان للاسلام أن ينتج في تخطيطه وعمارته ما أنتجه، فما الذي يمكن أن تعلمه الصحراء لساكنها من تخطيط لم يكن له من وجود أو من عمارة كانت على الاغلب بدائية جداً ولم تستطع ان تطور نفسها لقرون عديدة؟

 

 

لقد ساهمت الحضارات المجاورة بشكل فعال لايقبل الشك والانكار في بناء التخطيط والعمارة الاسلاميتين وفي تطويرهما والرقي بهما والوصول بهما الى ما وصلتا، فالعلوم والفنون تشترك في الكثير من الاسس والمباني وتتفاعل مع الافكار الجديدة وتتبناها أو تتقبل التبني، وهذا هو التلاقح و التمازج الذي يبني الحضارات ويرتقي بها، على عكس المصادرة والابعاد الذي تتبناه بعض الاتجاهات الفكرية التي عادة ماتكون متطرفة تهدف الى السيطرة وفرض الرأي فيستحيل أصلاحها خراباً وأعمارها هدماً، وهذا بعض الذي تمنى به مدن الشرق الان.

لقد تعرضت أمهات المدن ومصانع التأريخ في المنطقة في العقود الاخيرة الى هذا الدمار، بدءا ً بالقدس ومن ثمة بغداد لتتبعها القاهرة ودمشق الشام ومن ثمة مدن أخرى كحلب ونينوى والان صنعاء وغيرها، ومازال مسلسل الدمار يدور على رحاه.

 

 

وأذا ما عدنا بالنظر في تأريخ هذه المدن وجدنا الثراء الذي تميزت به من ناحية التأريخ ومن ناحية الشعوب التي ساهمت في بنائها. فلم تكن القدس مدينة أسلامية عند نشأتها وقد دخلها الاسلام بعد نشوئها بما يقرب الاربعة الاف عام أو اكثر وقد كان قد ساهم في بنائها الكثيرون كاليهود والمسيح ومن قبلهم الكنعانيون وأقوام أخرى. وكذا الحال مع دمشق التي تعد أقدم مدن التأريخ التي مازالت مسكونة لحد الان وقد نشأت منذ مايزيد على العشرة الاف عام قد ساهمت معظم شعوب المنطقة ببنائها ومازالت تعج بالاثار التي تشير الى ذلك، ولايمثل تاريخ الاسلام زمنيا ً فيها سوى مايعادل عشر الفترة هذه أو يزيد قليلا. وقد تختلف بغداد قليلا ً عن سوابقها في أنها تأسست في العصر العباسي الاول، الا أن حواضرها المحيطة كانت موطنا ً لحضارات أخرى قد قطنت المنطقة لقرون، فلا تبعد عقرقوف البابلية سوى 10 اميال عن غرب بغداد، وتبعد المدائن عاصمة الساسان الفرس مايقارب 15 ميلا الى الجنوب الشرقي منها. ويتكرر الامر ذاته في مايخص المدن الاخرى كالقاهرة وصنعاء وحلب ونينوى.

 

 

ولهذا الامر دلالات عديدة سيتم الاشارة اليها في كتابات لاحقة.

أمر آخر أود الاشارة أليه هنا يتعلق في كون أن معظم المدن الحالية في الشرق بل كلها لاتمثل نتاجاً نقياً لعمل المخطط والمعمار، وأن الجزء الاعظم من هذه المدن تنتجه الشعوب التي تقطنها والتي من الواضح والجلي أنها لاتملك في الفترات الزمنية المتأخرة تلك الثقافات الرصينة التي أمتلكها أسلافها، فقد تخلت معظمها عما كانت تملكه مقابل المد الجارف لثقافة الاخر دون أن تجد البديل المناسب له ودون أن تتمكن من تطويع ما تملكه من أجل التعايش. معظم هذه المجتمعات أستحالت الى مجتمعات مستهلكة للفكر غير منتجة، ولم تستطع أن تسفيد من النتاجات والتجارب الفكرية والعملية السابقة لتخرج بنظريات وأساليب وتقنيات جديدة وأصبحت مجرد مستورد لانتاج الاخرين ، وعادة مايكون التطبيق غير مبني على فهم وأدراك متعمق لتلك النتاجات.

 

 

لقد أزيح المخطط والمعماري والكثير من التخصصات الاخرى اللازمة لانتاج المدينة عن أدوارهم وأتيح المجال الفسيح لاخرين لانتحال هذه الادوار كالسلطات السياسية والدينية والعشائرية وسلطات المال ورؤوسه.

ان الغرض من هذا المقال القصير هو البدء بسلسلة من الكلمات لتسليط الضوء على واقع المدن في الشرق، والعوامل التي تعمل على تدميرها، والمشاكل التي تنتجها هذه العوامل، ومن ثم الخروج ببعض الاستنتاجات في محاولة لتجاوز وعبور هذه المشاكل وأيجاد بعض المقترحات والحلول، بالاضافة الى أثارة النقاش حول هذا الموضوع المتشعب والذي من المستحيل على فرد واحد الاحاطة به وبجوانبه.

محسن_الغالبي.png

 

بغداد من ناحية الكرخ

 

محسن الغالبي – ماستر عمارة وتخطيط حضري

إقرأ ايضًا