زومبيات العمارة

41

زومبيات العمارة

في أحد نقاشاتنا المتكررة سألت صديقي المعماري غسان جانسيز: “أليس غريباً ما يحدث من تكرارٍ و”إعادة تدوير” لمواضيع الماضي الفنية؟ هل نفذت المواضيع؟ هل وصلنا إلى هذا الحد من الإفلاس؟”.

فاليوم يمكن لأي شخص أن “يقلّب” في قنوات التلفزيون, أو أن يتصفح مواقع الإنترنت بحثاً عن أي مجال من مجالات الفن والابتكار وعن أي إنجاز فني, سيلاحظ بسهولة أن جلّ ما يتم تقديمه على أنه “الصيحة الجديدة” أو “الابتكار الجديد” هو ببساطة “إعادة إخراج” لمفاهيم وتصورات وحتى أشكال تم خلقها في الماضي؛ فموضة أزياء الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانيات جميعها تتناوب على ممرات العرض, ولكن في قماشٍ جديد أو ألوان جديدة.

ويتم التغزل بإنجازات الماضي “ذات اللمسة العصرية” -المصطلح الذي يثير فيّ كل أشكال الاستفزاز- كذلك تصاميم المفروشات تعود من أيام الباوهاوس ومن جوارير المصممين الأجداد ليعاد تقديمها بـ “الحلة الجديدة”, ولا ننسى عشاق العمارة “الإسلامية” أو “العربية” أو أياً كان المصطلح المناسب لها, أيضاً لا بد أن تعود متنكرةً بوشاح الحاضر “العصري”, ومن وجهة نظري, الحال ليس أفضل بالنسبة للعمارة العالمية أيضاً؛ لكن هذه لم تُعِد الإحياء طبعاً, لكنها اختارت الطريق الثاني الذي يؤدي إلى “نفس الطاحون”؛ والتفسير سيأت لاحقاً, لكن ما أريد قوله أنني سألت هذا لصديقي, فكان جوابه مختصراً, ولكنه مثّل لي الإجابة الشافية؛ فما سالته في صيغة سؤال نصف ساعة أعطاني إجابته في نصف دقيقة:

قال لي السر في التقنية.

وهذا بالفعل هو السر, فتقريباً كلّ ما يتم إنجازه اليوم كبر أم صغر هو وليد التقنية, ولا شيء يحكم هذا العصر سواها, ولولا قناعها لبان وجه هذا العصر الذي خسر أسنانه وتجعد وجهه وما عاد يمكن النظر إليه. نعم, بالنسبة لي, لقد وصلنا إلى هذا الحد من الإفلاس البشري الفكري واليدوي.  فحتى الطب الذي يدعي امتلاك “لمسة الخضر” أفلس, من وجهة نظري, من الفكر والبصيرة التي كان يتحلى بها وأصبحت ابتكاراته تنحصر في آخر الآلات و”التقنيات” والأجهزة- والتي شاؤوا أم أبوا تقتل وستقتل أكثر مما يمكن للمرض أن يفعل دون مساعدتهم.

وموسيقى اليوم في أحسن الأحوال DJ أو Techno إذا ما كانت موسيقى على “نمط” ما تم ابتكاره في الماضي من أنواع خلاقة بقيت لليوم على تنوعها.

كذلك العمارة والفن تبدو لي قد خسرت مفكريها وتوحدت مدارسها الفكرية والفنية في مدرسة التقنية والأشكال “العصرية” المتولدة من تحت أيدي المعماريين أو يجب أن أقول من تحت كومبيوترات المعماريين- لا لأنني ضد الاستعانة بالكومبيوتر أو التقنيات الحديثة- بل لأنني ضد الاتكال عليها كبديل فكري.

لأنه من لا يريد أن يفهم سيسارع في إطلاق الأحكام ويقول هذا الكلام كدعاة العودة إلى العصر الحجري والعودة إلى الطبيعة والنوم في العراء, وحتماً ليس هذا القصد فالسير إلى الأمام هو قدر البشرية واختيار الأيسر في صلب عقيدتنا, لكن الاتكال وانسحاب الروح والفكر والتحول إلى “زومبيات” تعمل على طاقة نور الشاشات هو المؤسف والحزين.

لأن الأمر لا يتطلب العودة آلاف السنين للوراء لملاحظة ما قصدانه أنا وصديقي بل يتطلب العودة كما يضطر كل يوم الفنانون والمصممون للوراء عقدين أو ثلاث لرؤية الفرق.

أين المدارس الفكرية أين النظريات الفلسفية أين فان كوخ وبيكاسو وأين فينتوري ولوكوربوزيه ورايت؟ وهذا البحث ليس عنهم شخصياً ولا إعادة مطالبة بطريقة عملهم بل تذكير بالحجم الذي قدموه وبالتغيير الذي شكلوه دون غطاء “التقنية” والسؤال الأهم هو ما سأله صديقي: أين كتب زها حديد ونورمان فوستر وغيرهم من أطلقت عليهم تسمية “النجوم المعماريين” “Starchirect” في حين أن زمن ثورة الحداثة وما بعدها وما قبلها ما خلا من الرديف الفكري لإنجازات المبدعين.

في النهاية ما نريد قوله هو أننا بحاجة بحق لأن نستخدم نحن التقنية لا أن تستخدمنا هي وكمعماريين يجب أن نطالب بالتقنية المعمارية لا بالعمارة التقنية.

مروة الصابوني

طالبة دكتوراة في الهندسة المعمارية

إقرأ ايضًا