ماضي العمارة الخلاقة

13

تخفي بغداد كنوزاً معرفية عديدة في ثنايا فضائها المديني. وهذه الكنوز، هي في الواقع، تمثيلاً لابداع فترات مثمرة ومميزة، مرّ بها تاريخ المدينة الممعن في القدم. وقد سعى صفوة من المهتمين وراء تبيان تلك الكنوز والكشف عنها، لتكون المنطلق والأداة اللتين، منهما وبهما، تبدأ نهضة المدينة، وبالتالي نهضة البلد ككل. وكحاضرة “متروبولتانية” عريقة بامتياز، فإنها تخفي، أيضاً، تحفاً معمارية عالية الأهمية، إن كانت في قيمتها الفنية، أم في نوعية مقاربتها الأسلوبية. إنها تحف حقيقية ومتنوعة، ما انفكت تمتلك جمالياتها، وقوة معالجاتها التكوينية. بيد إن سطوة الزمن العاتية، “المتواطئة” مع يد الانسان غير الرحيمة، عملتا على تشويه وإقصاء وغياب “حضور” تلك التحف عن المشهد المديني، رغم ما تمثله من أهمية ثقافية، وما تعكسه من إبداعات مهنية مرموقة.

ولئن شاهدنا اهتماماً مشروعاً في السابق من قبل بعض المهتمين، الذين ساهموا بجهدهم العلمي ومبادراتهم الشخصية، في إنارة ذلك الإرث الفني، وتقديمه إلى أوساط اجتماعية واسعة ومتنوعة؛ فإن مثل ذلك الاهتمام قد انحسر في العقود الآخيرة، ويكاد أن يضحى الآن أمراً منسياً وبعيداً عن انشغالات الخطاب الثقافي العراقي الراهن. وهو أمر، أثار، ويثير الأسى والأسف، لدى جمهرة واسعة من المثقفين. إن القطيعة المعرفية غير المبررة، والتغاضي المتعمد عن ذكر أو معرفة بما جرى سابقاً من نجاحات مهنية، لا يمكن تسويغهما ابستيمولوجياً بأي حال من الأحوال؛ فالغياب المؤثر لتلك المقاربات المعمارية الرصينة في الخطاب وفي المشهد، يفضي إلى فقر الذخيرة المعرفية المحلية وجدبها، هي الحاضنة، بموضوعية، لأي نجاح مهني وثقافي حقيقين.

قد تكون نظرة المهتمين المحليين في إنارة المنجز المعماري السابق ومساءلته، عملاً مطلوباً وضرورياً، لإدراك قيمة ذلك المنجز وتبيان نجاحاته وتقدير أهميته المهنية. لكن نظرة “الآخر” إلى ذلك المنجز تحديداً، يضفي، في اعتقادنا، أهمية استثنائية، لجهة كشف وتحليل ذلك المتن الإبداعي ورؤيته من خلال نظرة أخرى، خاصة، نظرة تستقي خصوصيتها من مصفوفة معرفية، تتبع، عادة، مرجعية ثقافية مختلفة، هي التي تنطوي على معايير، ليس بالضرورة تماثل معاييرنا، وليس شرطاً تشبه طريقة تعاطينا للأحداث. إنها نظرة “الآخر” التي تكرس أنا(تنا) من جهة، وتشعرنا لأن نكون نداً مكافئاً للآخر المختلف، ومن جهة أخرى، تحرص على تأشير عناصر عمارتنا منظوراً إليها، بعين أخرى، هي غير ما اعتدنا نحن على رؤيتها.

وكتاب “سيسيليا بييري” Caecilia L. Peiri (بغداد: العمارة الحديثة والتراث)، الصادر عن دار المدى، 2009، وبعدد 156 صفحة من القطع الكبير، ينشد أن يكون ضمن رؤى “نظرة الآخر” ومفاهيمها، التائقة لفحص المنجز المعماري المحلي، وقراءاته قراءة خاصة. من هنا، في اعتقادي، تنبع الأهمية المضافة للكتاب، بالاضافة طبعاً إلى أهميته كونه يثير موضوع نشأة العمارة العراقية الحديثة ويسعى وراء تأشير إنجازاتها، وتعقب مقارباتها التكوينية. ومؤلفة الكتاب، باحثة سوسيولوجية فرنسية، حصلت على شهادة الدكتوراه عام 2010، من مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية، بباريس، في موضوع الكتاب المنشور، والذي صدرت طبعته الفرنسية أولاً بعنوان (بغداد: آر ديكو، عمارة الطابوق 1920-1960)، في 2008 بباريس، ثم أعقبته طبعة انكليزية بنفس العنوان، صدرت في مصر سنة 2011 عن منشورات الجامعة الامريكية بالقاهرة.

يتضمن كتاب “بغداد: العمارة الحديثة والتراث”، مفتتح بقلم رفعة الجادرجي (1926)، المعمار العراقي المعروف، ومقدمتين، إحداهما بقلم د. إحسان فتحي (1942)، المعمار والأكاديمي العراقي، المقيم في الأردن؛ والأستاذ في جامعة فيلادلفيا بعمان، والأخرى بقلم نعيم قـّطان (1928)، وهو عراقي من أصول يهودية، روائي وناقد، مقيم في كندا، ويحمل جنسيتها، وحازت أعماله في سنة 2007، على الجائزة الكبرى التي تمنحها الأكاديمية الفرنسية. وقام بترجمة الكتاب من الفرنسية إلى العربية د. جمال شحيّد، الباحث في المعهد الفرنسي للشرق الأدني ، وساهم الأستاذ غني العاني في كتابة بعض خطوط الكتاب.

يشير رفعة الجادرجي في مفتتحه للكتاب الذي عنونه (العراق، أو الأرض والشعب اللذان سيصبحان العراق الحديث)؛ بأن كتاب سيسيليا بييري “… يقدم شهادة عن الوجه العمراني لبغداد وتاريخها اللذين نخشى من زوالهما السريع. وعلاوةً على ذلك يشكل مفكرة نفيسة يستطيع بها العراقيون أن يخلقوا لأنفسهم من جديد الظروف الثقافية لكتابة تاريخهم الحديث، الذي تؤلف العمارة فيه دعامة طالما أهملت، ولكنها أساسية قطعاً”. (ص.16).

أما د. إحسان فتحي، فعنوان مقدمته (أسطوات بغداد العظام والمغمورون)، وهو موضوع مثير للاهتمام، كما أنه جديد في أدبيات البحث المعماري. وهو غني بالمعلومات عن أسماء “الأسطوات”، وهم “معلمو البناء، الذين شيدوا كثيراً من المباني والمنازل الرائعة في العالم الإسلامي”. ويذكر د, إحسان، بأن معظم الأسطوات العراقيين هم من أصول شعبية؛ “..وفي بغداد مثلاً تنحدر غالبيتهم من الأحياء المحرومة، كحارة الهيتاويين، التي كما يبدو كانت منبتاً خصباً لهم.”؛ “..وكان الأسطوات يلبسون ثياباً بلدية مميزة: (الصاية)، و(الشراوية)، وأحياناً الكوفية التي تتهدل على الكتف. إن ارتداء هذه الثياب التي تضفي عليهم مسحة مؤكدة من الاحترام، كان مدعاة فخر كبير لهم.” (ص. 19-20).

أما نعيم قـّطان، فكانت كلمات مقدمته (العودة إلى بغداد)، مؤثرة ومكتوبة بوجع إنساني، طالما قرأناه، لدى أؤلئك الذين حرموا من العودة إلى مرابع طفولتهم وصباهم،؛ المرابع التي ظلت دوماً تذكرهم بمنبتهم الأصلي، وتمثل مصدر اعتزاز كبير لديهم. وما انفكوا يختزنون في ذاكرتهم أمكنتها، يعيدون سرد وقائعها مراراً وتكراراً، خوفاً من “تلتهمها” آفة النسيان، وبالتالي تؤول تلك الأحلام والذكريات الجميلة إلى لا شيء أو إلى فراغ. في تلك المقدمة، يسترجع نعيم قـّطان ذكرياته التي لا تنسى عن أمكنة بغداد وطفولته فيها، فيكتب بحميمية “.. في طفولتي، كان أبي يأخذني في نزهة إلى “بستان الخس”. كان يهديني خسة اشتراها من الفلاح. وكنت أستمتع بالتهامها ورقة بعد ورقة. في عزّ شمس شتائية، وبخاصة كان عليّ ألا أنسى غسلها في المنهل..”. وينهي مقدمته بقوله إن “.. المدينة باقية وتتشرب الذاكرة أصواتها. إن هذه الصور هي انتصار على النسيان، وهي تذكير بعبور لن ينقطع..” (ص. 17).

تقسم “سيسيليا بييري” كتابها إلى قسمين أساسيين. يتضمن القسم الأول “ملامح عاصمة حديثة، قيد الإنشاء 1920-1950” وفيه تتناول المؤلفة ما تحقق من انجازات معمارية، تسترجعها عقداً وراء عقد، وصولاً إلى عقد الخمسينات. والقسم الثاني مكرس إلى “زوايا الرؤى”، وهو يتضمن شروحات نصية خاصة ببعض العناصر المعمارية للبيت السكني البغدادي، والتي توضحها صور ملتقطة من قبل المؤلفة ومعاونيها، معظمها تظهر تفاصيل متنوعة للمباني والدور موضوعة البحث.

ثمة اهتمام مغموس بالمحبة، توليه “سيسيليا بييري” إلى موضوع كتابها. وهذا الاهتمام المميز، هو الذي يرفع عالياً من شأن محاولتها البحثية الجريئة، في تعقب مسار العمارة العراقية الحديثة، ويجعلها تحتل موقعاَ مميزاً في الخطاب الثقافي العراقي، يكاد أن يكون منزهاً عن أي نقد. فالباحثة الفرنسية، البعيدة عن أجواء ثقافة المنطقة وتقاليدها، وجدت في نفسها الشجاعة، لأن تتناول موضوع بحثي، هو في الحقيقة، بعيد حتى عن اهتمامات معظم المهتمين المحليين، وأن تنغمس فيه حد المخاطرة في زيارات ميدانية عديدة، استطاعت أن توثق كثيراً من النماذج المعمارية الخلاقة والمهمة، وأن تدرسها وتحللها ضمن اختصاصها وتتكفل بنشرها بالمستوى الرفيع الذي ظهر فيه كتابها، ما يجعلنا جميعاً، أن ندين لها بالفضل، ونقدر جرأتها وصنيعها؛ هي التي تكتب في مقدمة كتابها “.. أود اليوم أن أرسم صورة لبغداد، قلب العراق، وأقترح إلى حدّ ما، “بالتوقف عن بعض الصور”، رؤية شخصية جداً، رؤية لمشهد عمراني يستطيع أن يقرأ المرء فيه موجزاً مكثفاً لماضي هذه البلاد الحديث.” (ص.10). وتكتب أيضاً في المكان ذاته “..إن محاولتي إبراز سحر بغداد الآسر والشديد -بهدف فهمها- وهي المحاولة التي جعلني البغداديون أبان السنوات الأخيرة, أكتشف مدينتهم وأجوبها وأشاطرهم إياها وأحبها. واثقين بي ومغدقين على صداقتهم. وهي أكثر من واقع ثقافي أو متعة جمالية. هي عربون وفاء لهذه الثقة ولهذه الصداقة ولهذه المدينة.” (ص.11).

تتيح موضوعة الكتاب، إمكانية النظر إليها من وجه نظر متعددة. إذ يمكن تناولها من خلال مسارات التطور المعماري والعمراني، كما يمكن التعاطي معها عبر مقتضيات الرؤى السوسيولوجية وتعقب مآلاتها. وكذلك من خلال النظرة التاريخية. لقد سعت المؤلفة أن تكون نظرتها إلى موضوعها مزيجاً من كل هذا، رغم أنها أولت الناحية الاجتماعية كثير اهتمام؛ وهذا ليس بغريب، إذ أن اختصاص المؤلفة أصلاً هو العلوم الاجتماعية. في القسم الأول من الكتاب، تحرص المؤلفة أن يكون الهم الاجتماعي، هو الواسم بتبعاته صيرورات عمارة المدينة “الأسطورية” -كما تدعو بغداد. وهذا الجانب من التحليل نجده حاضراً بقوة هنا في القسم الأول أكثر بكثير من متن القسم الثاني، الذي تكفل، كما أشرنا سابقاً، على تأكيد أهمية “التفاصيل”، التفاصيل المعمارية العاكسة لقراءة أحداث اجتماعية مركزة.

وبغية التأكيد على نوعية اهتمامات المؤلفة السوسيولوجية، فإنها تلجأ إلى إيراد كثير من الاستشهادات، التي بها تنزع إلى قراءة التحولات الكبرى في عمارة المجتمع الذي تدرسه، العمارة المتغيرة بأساليبها المتنوعة ومعالجاتها المختلفة. وفي هذا الصدد، تبدو كلمات الباحثة “بولين لافاني دورتيغ” لافتة، حين تستشهد المؤلفة بكلامها، المنقول عن كتاب صادر للأخيرة في نيس بفرنسا مؤخراً، تظهر فيه طبيعة المشاكل التي واجهها المجتمع، وهو في صيروراته المتعددة. وتتساءل “دورتيغ” في كتابها “.. كيف يمكن خلق هوية بصرية لسلطة غريبة في أرض شرقية؟، كيف يمكن تصور الحد المادي الفاصل بين مجتمعين شديدي التباين؟ كيف يمكن إقامة تعايش بين الثقافة الاستعمارية والثقافة المحلية؟ كيف يمكن التعامل مع الحيز انطلاقاً من معرفة الذات و/أو الآخر وتصورهما؟ ماهي الخيارات التي يجب مواءمتها مع هذا الواقع وذاك؟”. (ص.42). وتتطلع المؤلفة إلى إيجاد أجوبة لغالبية تلك التساؤلات المطروحة، من خلال إظهار الجهد المعماري ونماذجه التصميمية.

لابد وأن نشير إلى طبيعة الصور والخرائط المنشورة في الكتاب. معتقداً بعمق أن أهميتها العلمية والوثائقية، لاتقل بأي حال من الأحوال عن النص المكتوب. إنها صور جد مهمة، وبعضها نادر، استطاعت المؤلفة أن تجمعها من مصادر متنوعة ومن مجموعات خاصة. وهي بلاشك تغني ذاكرتنا البصرية للفترة التي تتحدث عنها المؤلفة. وقد سُررت شخصياً لرؤية صورة “جناح العراق في معرض باريس الدولي” (1937)، عمارته التي ساهم فيها كمستشار “أحمد مختار ابراهيم” أول معمار عراقي. إذ كنت مطلعاً (بحكم متابعتي المهنية لمنجز عمارة الحداثة بالعراق) على إيفاد “مختار” إلى باريس للإشراف على إعداد الجناح، بُعيد تخرجه من ليفربول عام 1935. لكنها المرة الأولى التي أرى صورة الجناح بهيئته التي حرص مصممو الجناح الفرنسيون، أن يستوحوا بها آثار العراق وزقورته البابلية القديمة.

تشكل صور التفاصيل المعمارية المتنوعة من أقواس وأبواب وأشكال نوافذ، وأعمدة وأجزاء لأعمال آجرية مشغولة باتقان وبموهبة، قوام القسم الثاني من الكتاب. ويؤلف هذا المنجز التصميمي الرائع، مع منجزات نماذج القسم الأول، متناً إبداعياً غاية في الأهمية، استطاعت المؤلفة أن تقدمه لنا بنص جميل، وأمثلة لصور معبرة. إنه المتن الذي يحكي عن ماضي العمارة الخلاقة: عمارة الذكريات السعيدة، لكنها أيضاً “العمارة المنسية”؛ نماذجها الرائعة، التي يغدو حضورها، مع الأسف، أقل وأقل في المشهد المديني، المشهد الذي نطمح جميعاً أن يكون معبراً عن ذاكرتنا المعمارية، وغنياً بإنجازاته المبدعة. وكتاب “سيسيليا بييري” يمكن أن يكون، بدون أدنى ريب، تذكيراً وحضوراً لماضي ذلك المنجز: ماضي العمارة الخلاقة.

د. خالد السلطاني مدرسة العمارة/ الأكاديمية الملكية الدنماركية للفنون

إقرأ ايضًا