مثلث العلم-الفن-الفلسفة

345

من منا لا يعرف الأهرامات أو برج بيزا أو غيرها من المباني العظيمة… فلطالما شهدت الأوابد المعمارية على حضارة الأمم وعبّرت عنها. ولطالما ترابطت العمارة بعلوم وفنون وفكر تلك الأمم ولكن الجدل يدور حول طبيعة هذا الترابط. فهناك من يؤمن بأولوية الفكر لتوليد الأشكال المعمارية وضرورة وجود أساسٍ فلسفيٍّ معينٍ وملامح فكر محدد قبل إنتاج المباني، وهناك من لا يؤمن بتلك النظرية بتاتاً، ويرى أن الفن يولد من الفن ولا علاقة للفكر به أبداً. ولكن يمكن تلخيص العلاقة بين الفن والفلسفة والعلم بثالوث يشكّل كل منهم أحد رؤوسه والعلاقة بين تلك الرؤوس تبادلية.

فالعمارة وطبيعتها الفنية تشكل الرأس الفني لذلك المثلث فتتبادل علاقة وثيقة مع الرأس المجاور لها وهي الفلسفة. ففي كثيرٍ من الأحيان كانت الفلسفة والنظريات الفلسفيةرهي جوهر وكيان العمارة المبنية والفنون عامةً, وأحياناً أخرى نجد أن العمارة هي من أثر بالفلسفة كما هي الحال بين العمارة القوطية والفلسفة السكولستيكية، حيث كانت الكاتدرائيات المبنية بين عامي 1140-1231م تحمل أفكاراً “مبنيةً بالحجر” تُرجمت لاحقاً إلى فكرٍ مجردٍ وكتابات السوما “Summa” الفلسفية.

وعلاقة العمارة مع الرأس الآخر مطابقة لسابقتها، فقد فتحت العمارة الطريق أمام العلم، كما شكّل العلم حجر أساس لمبانيها. فرياضيات النسب المعمارية منذ أيام الإغريق شكّلت مثالاً بيّناً للعلاقة التبادلية بين العلم والفن، فقد اعتبر الإغريق الفن والرياضيات وحدةً لا تتجزأ، وقد قاد الفن حينها الطريق أمام الدراسات الرياضية تماماً كما حدث مع الدراسات الفيزيائية في العصورة الحديثة التي يُفترض أن تكون تبادلت نفس العلاقة مع فن الباروك وعمارته، خصوصاً من خلال استخدام انطباع اللانهائية في المنظور المعماري بالاعتماد على فكرة اللامتناهي في حقل الرياضيات، كما دخلت مفاهيم القوة الحركية للقصور الذاتي والوزن والكتلة والحركة، وهذا ما تجلى في عمارة الباروك -بحسب وايلي سايفر في كتابه “المراحل الأربع لطرز النهضة الأوروبية”- من خلال إضفاء انطباع الحركة والتمايل للكتل الضخمة واستخدام المساقط الإهليليجية في الكنائس بدلاً من الدائرية.

وفي هذه الأخيرة يكمن جدل يوضح العلاقة التبادلية بين العلم والفن، حيث يدور نقاش حول مدى تطابق التحول المعماري نحو المساقط البيضوية وبين تاريخ نشر مقدمة نيوتن وكتاب كيبلر وينتهي بنتيجة إنه “إما أن الفن والعمارة قد قادا الطريق أمام العلم، أو أنه هناك ما يُعرف بـ >تزامن الإحساسات<، بمعنى أنه انجذاب نحو أشكال حركية تمكن الفن والهندسة وعلم الفلك الجديد من الهروب من المفاهيم المسبقة للإغريق وغيرهم."

ومع ذلك كله نجد أن هناك من يعتمد الفطرة الفنية لإنتاج المباني المعمارية ولا يؤمن بتأثير الأكاديميات والعلم والفلسفة وبتأثير الفكر النظري بتحديد الملامح الفنية واتجاهاتها، وفي واقعنا الحالي المحلي نجد الفكر الأكاديمي ضحل واضمحل ولا يكاد أحد من الممارسين يعتمده، كما نفتقره في جامعاتنا ومنابر تدريس العمارة، والمعضلة أننا أصبحنا نفتقر إلى فكر جامع وموحد وإلى اتجاهاتٍ أكاديميةٍ محددة، فكل ما نشهده على الساحة هو عبارة عن أصوات فردية غالباً ما تكون صدى لاتجاهاتٍ غربية مضاف إليها “لمحات” ولمسات “محلية”…

أما الأسباب لذلك فكثيرة ومعقدة، ويبقى ما ننادي إليه في النهاية هو البدء من رأسٍ ما من رؤوس مثلث العلم والفن والفلسفة والانتقال إلى الآخر.

مروة محمد مطيع الصابوني. ماجستير في الهندسة المعمارية

إقرأ ايضًا