“عراقـي”: عراقـ..”ـنا”

13

يستحضر كثر من العراقيين، ولاسيما الذين يقيمون في خارج الوطن، “إميج” بلدهم من خلال عناوين متعددة، وبوسائل متنوعة تبعاً لاهتماماتهم الشخصية والمهنية. لكن ما يُوحد بواعث ذلك الاستحضار، توقهم نحو التمسك بذلك “الإميج” وجعله حاضراً دوماً في الخطاب.

ثمة خوف (هل أقول “رعب”؟!) ممزوج بالحسرة، يراود كثر منهم، بأن بلدهم “المحبوب”، بدا وكأنه يختفي عن المشهد، والأهم، يتوارى عن ذاكرتهم، الذاكرة، التي حفظت صورته كوطن متماسك، مترع بالآمال العريضة المبشرة بالتقدم والازدهار.

من هنا، يمكن تأويل نزعة ذلك “اللجوء” من الاستدعاءات التي سعى كثر من ممثلي الطبقة الوسطى عبرها، إلى “إيقاف” ذلك الاختفاء، وإبعاد مثل هذا التواري.

في هذا السياق، كتبت، مرة، فاطمة المحسن، في كتابها الصادر سنة 2010، (… فلطالما كان البحث في أرشيفات الثقافة العراقية مغرياً لمغتربة مثلي. ويوم وجدتني أكاد أكون منهمكة في مقارنات بين العراق وكل مكان أحل فيه، غدا الأدب والثقافة والتاريخ جزءاً من هذا الإحلال والإبدال. مهمة تشابه الوقوف أمام مرآة الزمن والبحث عن تلك التضاعيف التي تخفي الباب المفضي إلى طريق العودة.) (ص.7).

أما صديقي الشاعر علي عبدلامير فيستذكر وطنه عبر “أشيائه” التي يستدل بها عن صورته، فيكتب في قصيدته من مجموعته الشعرية، الصادرة في 2005: “…….. كانت هناك لذةٌ،/ وإن كانت القفزَ بين الفخاخ. / كانت هناك مدينة./ كان هناك وردٌ يزهر على أيدينا. / الآن، لا وردَ في الجوار، / لايدَ امرأةٍ ترقً، ولا غدَ يبتسمُ”!.

عندما قابلت احد “طلابي” السابقين، في عمان بالأردن، في نهاية التسعينات، هو الذي تغـّرب قسراً عن العراق ما يقارب عقدين، أنبأني بأن جُلّ وقته الحرّ يقضيه في استذكار بلده، من خلال رسم “فضاءات” غرف “بيتهم” في حيّ ببغداد، حيث ولد هناك وترعرع. ويجد في “السلوى” المحببة لديه في إعادة رسم “مساقط” الدار، متعة، تغنيه عن “جزع” النسيان، الذي قد يداهمه يوماً ما، فيفقد صورة مخططات “مسكنه”، وينسى بلده!.

شيءٌ من هذا القبيل (إضافة إلى أشياء أخرى)، يمكن أن يكون باعث صدور كتاب “عراقـي” (2010)، الذي ألفه الصديق والزميل د. إحسان فتحي- المعمار العراقي المعروف، والأكاديمي، والخبير في شؤون الحفاظ المعماري، و..المصور الفوتوغرافي.

إنه كتاب هام (سنأتي، بعد قليل، على ذكر أهميته)، لكنه، أيضاً، كتاب مميز. وتميزه ليس فقط ينبع من طبيعة موضوعه ومحتواه، وإنما بقطعه غير العادي (تقدر أبعاد الكتاب بـ 24×34 سم)، وبعدد صفحاته 512 صفحة، والتي جلها ملونة. وبطباعته النظيفة والأنيقة معاً، التي تكفلت بها “دار الأديب” بعمان، والتي يتولى الإشراف عليها الفنان العراقي هيثم فتح الله.

والأخيرة، اعتبرها وارثة لـتقاليد “دار الأديب البغدادية” التي أسسها “فتح الله عزيزة” (والد هيثم) ببغداد، كمؤسسة طباعية فنية متقنة. وهي إحدى ثلاث مطابع عالية الفنية، يعرف كثر، والشيء بالشيء يذكر، بأن بغداد ضمتها، في حينها، وهي: مطبعة ثنيان، ومؤسسة رمزي، ودار الأديب البغدادية. وجميعها ورثت هي الأخرى أعراف وتقاليد مطبعة “الرابطة” التي أسسها المتنور العراقي “عبد الفتاح ابراهيم”. ولئن تحدثت بإسهاب، نوعاً ما، عن هذا الموضوع، فلأنه أنني، أثق وأُصدّق مقولة صديقي الفنان “ناظم رمزي”، من إن احدى معايير الحكم على تقدم بلد، أي بلد، يكمن في وجود مطابع فنية فيه. وعلينا، إذاً، تقصي عدد المطابع الفنية الحالية في بلدنا، في حالة رغبتنا لمعرفة درجة تقدمه!. لكن ذلك ،بالطبع، موضوع آخر!.

يحتوي كتاب “عراقـي” أو بالأحرى ”My Iraq”، (فالنص مكتوب باللغة الإنكليزية تحديداً)، والذي أضاف مؤلفه إلى عنوانه الرئيس، عنواناً جانبياً “سيرة ذاتية فوتوغرافية..وأكثر”؛ يحتوي على نصوص كتابية، مع مجموعة صور مختارة من مناطق العراق كافة. يتعاطي النص مع “محطات” هامة مستقاة من سيرة حياة كاتبها. وهي محطات تتماثل مع مصائر سير حياة كثر من مجايليه من مهنييّ العراق ومثقفيه: ذكريات الطفولة والمراهقة في أمكنة معينة، ثم السفر إلى الخارج للدراسة، والرجوع إلى الوطن، بمهنة جديدة، و…عيون جديدة, وبعدها التوظيف، ثم السفر مرة أخرى للخارج لإكمال الدراسة العليا، والرجوع ثانيةً إلى البلد الأم، وممارسة الاختصاص في المؤسسات الرسمية وخارجها، ثم … الهجرة خارج العراق!.

لكن إحسان فتحي يضيف إلى كل ذلك عناوين أخرى في “سرديته” النصية، تعكس اهتماماته المتنوعة مثل: “مع المصورين الفوتوغرافيين العالميين” و “مواجهة قريبة مع الموت”، وبها يتحدث الكاتب عن أحداث دراماتيكية عاشها في أزمنة وبمواقع متنوعة، آخرها كانت “مغامرته” الجوية في تصوير مناطق الفرات الغربية، عندما تعطل، فجأة، محرك الطائرة السمتية (الهليكوبتر) التي كان يستقلها لأغراض التصوير، وقرر قائد الطائرة الهبوط بها وبركابها اضطرارياً في عرض الصحراء؛ ناجياً، بهذا، (مصورنا) من الموت بأعجوبة!.

يسرد “إحسان” في نصه فصلاً يشير به، إلى حبه واهتمامه في نشر الثقافة المعمارية بعامة وتجلياتها الحفاظية بشكل خاص، والذي اُعتبر هو، أحد مختصيها البارعين، بل وعدّ مؤسساً لموضوعها في أروقة الدرس الأكاديمي وخارجه.

ويدعو هذا الفصل “شرائح ملونة، ومحاضرات و..حروب” يعقبه فصل آخر خاص بـ “الهجرة إلى الاردن” ويختم نصه بفصل سماه “حرب رقمية، فوتوغراف رقمي”. أما أمكنة مواقع صوره، فهي تغطي تقربياً مدن العراق كافة، فهي تشمل بالإضافة إلى بغداد بالطبع، الموصل، وعقرة وعمادية وأربيل وسليمانية وكركوك وقرية “كومبتلر” (وهي قرية من أعمال كركوك، أدعوها تشبهاً، بـ “قرنة الصعيد” بمصر، والتي قام على تصميمها، في منتصف الأربعينات، المعمار المصري المعروف “حسن فتحي”، وحظيت، بعدئذٍ، على شهرة واسعة إقليمياً وعالمياً)؛ وشيخ عدي، ودير مار متي، وسامراء والدور وآلوس، وعنه، وراوه، وحديثة وهيت وبعقوبة والحلة والكفل وكربلاء والكوفة والنجف والعمارة وواسط (الكوت)، ومنطقة الأهوار، والبصرة، وأخيرا الزبير. أي، كل ما يمثل العراق تقريباً، أو يتمثل به من مناطق جغرافية وأمكنة تاريخية. وينهي، أخيراً، المؤلف كتابه بقائمة تتناول السيرة الذاتية للمصوريين العراقيين وغير العراقين الذين تواجدوا فيه بعد 2003، ويختتمه بقائمة أخرى خاصة بالمصادر الفوتوغرافية المعنية بالعراق، وهي “بيبلوغرافيا” إضافة إلى أهميتها، فإنها فريدة من نوعها، تظهر اهتمام المؤلف وحبه المهني للشأن التوثيقي الذي عُرف عنه دوماَ.

تعكس الصور الملتقطة، المنشورة في كتاب “عراقـي” جانبين أساسيين، يجد “إحسان” بهما تمثيلاً لما يود أن يقدم لنا رؤيته عن بلده. أنهما، باختصار: “الناس” و “العمارة”. صحيح ثمة صور بانورامية، يمكن أن نجدها في ثنايا صفحات الكتاب، لكن عددها، يظل متواضعاً مقارنة بالحدثين الأساسيين.

يعرف “إحسان” كيف “يظهر” شخوصه الملتقطين. ففي حين يبدو قسم منهم منهمك في عمله، الذي، غالباً، ما يكون يدوياً؛ أثناء حركة تثبيت “اللحظة”؛ نرى قسماً آخراً مستمتعاً في جلساتهم الجماعية عند المقاهي الشعبية، أو في الشوارع المكتظة بهم. لكن “مصورنا” تستهويه، بشكل خاص، نوعيات سحن “أبطاله” المتصورين وملامحهم البارزة. فيلجأ، هنا، إلى اللقطات القريبة، أو ما يعرف بـ Close-upلتأكيد خصوصية هذه الأوجه، وتعبيراتها المميزة. ثمة “بورتريهات” عديدة لناس العراق، نجدها مسجلة في العديد من الصور المنشورة بالكتاب. إنها تبيّن تنوع مواطني هذا البلد العريق، وتشير إلى تعدد أصولهم وإثنياتهم. ثمة تعاطف ممزوج بالاحترام يبديه أحسان إلى شخوصه مسجلاً هيئاتهم المعبرة في صور الكتاب المنشورة. ويوحي المصور لنا، في اللقطتين المنشورتين في صفحة رقم 159، إلى مفهوم تداخل الأزمنة، وتأكيد نزعة الحفاظ على التقاليد، عبر تشابه أسلوب غطاء الرأس لرجل بغدادي معاصر، مع “جراوية” أمير سومري من لكش، عاش في ربوع هذه الأرض، في القرون الأولى من الألف الثالث قبل الميلاد!

ثمة اهتمام خاص يوليه “إحسان” في مجموعته الفوتوغرافية لموضوع تصوير الأطفال، هم الذين “يعترضوا” طريقه، وهو في مهام تصويرية بأنحاء عديدة من العراق. فيسجل عبر لقطاته المميزة، والمدروسة تكوينياً بعناية، لهوهم وضحكاتهم وبكائهم وفضولهم، وهم يواجهون المصور بملامح وجوههم المستثارة، وعيونهم البريئة. وبما إن الكتاب هو، أيضاً، سيرة ذاتية فوتوغرافية للكاتب، مثلما يشير عنوانه الفرعي، فقد حفلت محتوياته على لقطات عديدة للمؤلف، تجمعه مع مثقفي العراق والعرب والأجانب. كما أبانت الصور المنشورة طبيعة نشاط المؤلف المختلفة في أمكنة وأزمنة متباينة عكست ثراء ممارساته المهنية والشخصية المتنوعة وأهميتها.

لا تفتأ مجموعة الصور المنشورة في الكتاب، تذكر المتلقي بقيمة العمارة الملتقطة ونوعيتها، هي التي تحيطنا من كل جانب. إنها تحسسنا أيضا بما يود أن يقوله المصور لنا. وما يقوله هو، في الحقيقة، أمر رائع وجميل، لكنه أيضاً “جديد”، أو هكذا تبدو العمارة، “العمارة الشعبية” تحديداً، في عدسة إحسان فتحي.

فتغدو نماذج البيئة المبنية، ولاسيما في تفاصيلها الجزئية، مدخلاً ووسيلة لاكتشاف ما يحيط بنا من روائع. وهو كاستاذ للعمارة، ومحب للتراث المعماري، يشركنا في “درسه” المعماري، و”يورطنا” في ولعه التراثي، لرؤية جماليات العمارة الشعبية “الفرناكالر” (بحسب وصفه لها)، وتفاصيلها المتقنة والذكية.. والبهيجة أيضاً. إنه يجعلنا أن نكتشف معه الجليل في المألوف، والمدهش في العادي، والاستثنائي في الشائع!.

ففي اللقطات المنشورة، تمثيلاً لا حصراً، في الصفحات 82، و148، و106، و148، و175، و180، و186-187، و212،و224-225، و238، و269، و273، و280، و308، و469، و474، و499، وغيرها من اللقطات القريبة والتفصيلية، ينشد إحسان إلى تبيان ثراء المشهد المعماري المحلي وغناه، والذي به يتمثل العراق المتنوع والمختلف والمتآخي. وحتى في “تفصيلة” صورة الغلاف الداخلي، ينزع إحسان فتحي، إلى تذكيرنا، رمزياً، بالبلد الذي يتحدث عنه، فمن خلال لقطة قريبة إلى “نخلته” المميزة، وبلبله” البغدادي الشجي، “نحزر” ،نحن المتلقين، ونخمن عن أية بقعة مباركة يدور الحديث!.

وتظل، فكرة نشر كتاب “عراقـي” ومحتواه، بالصيغة التي اقترحها لنا المعمار الدكتور أحسان فتحي، عملاً ثقافياً ووطنياً في آن، خصوصاً في الفترة الراهنة، حيث يمر البلد المكرس له هذا الكتاب، بمخاض انتقالي عسير، يزيده عسراً طبيعة الظروف المحيطة، القاسية والمتشابكة، ونوعية ذهنيّة طبقته السياسية التي لا تريد أن تعترف بفشلها الذريع في إدارة شؤون الوطن.

إن صور الكتاب البهية، المتنوعة والمتعددة، والتي بعضها بات تاريخياً، تنشد إلى تثبيت “صورة” بلد عريق وذي شأن. وهي بالتالي تستحث “إميجه” المخزون في الذاكرة، ليصارع نزعات”التفتيت” والتهميش التي انهالت عليه من كل حدب وصوب. كما لو إن نداءً واضحاً وعالياً تطلقه صور كتاب “عراقـي”. كما لو إن هذا النداء يلمح إلى قوة تأثير هذا الفن الرفيع. كما لو أن الصور المنشورة قادرة على منحنا متعة لا تعوض، يُستحضر بها عراق إحسان فتحي، الذي هو، في الواقع، عراقـ..”ـنا” جميعاً.

د. خالد السلطاني مدرسة العمارة/ الأكاديمية الملكية الدانمركية للفنون

إقرأ ايضًا