أزمة الهوية المحلية

32

تطور فن العمارة عبر مختلف حقب التاريخ بفعل الإرادة الإنسانية , التي عبّر عنها الفرد أو الجماعة. لذا تعتبر إرادة القوى البشرية المحرك الأساسي والمباشر للتفاعل الجدلي , بين المادة الخام وتحولاتها اللاحقة إلى مبان جميلة. ومع ذلك نجدنا حتى اليوم ننسى أننا نحن أو على الأقل أجدادنا – من فكر و أنتج و من ثم بنى حضارتنا, و تجدنا متشبثين بأشلائها لا نجرؤ على التخلي عن هذا الماضي الجميل أو ما رسمناه من صورة حنينية مثالية عنه , و هذا ما أدى بنا إلى أزمة معمارية حقيقية في بلدان الشرق الأوسط و على الأقل في بلدنا سوريا .

فنحن نتخبط بين الأشكال المعمارية القديمة التي جاءت نتيجة لظروفها المناخية و الثقافية و الاقتصادية الخاصة بزمانها و مكانها و التي أخذنا على تقليدها و الانتقاء منها دون وعي لدرجة التشويه , و بين التكوينات المعمارية المعاصرة و الأشكال و الخطوط الجديدة للعمارة و التي أصبح موطنها أمريكا و أوروبة وبعض أنحاء آسية الشرقية ….و التي أصبحنا ننسخها نسخاً أعمى و نحشرها عمداً في بيئتنا بغض النظر عن أسباب نشوئها و عن الغاية منها و عن الفكر الكامن وراء تكونها بهذا الشكل المعين دون غيره!!

ولا تقتصر الأزمة المعمارية التي يعيشها واقعنا المحلي على أزمة الهوية على كافة المستويات و إنما أيضاً تتمثل بمظاهر عدة مثل غياب النقد الفني و النقاد الحقيقين و شح الكتابات و التنظير المعماري و حتى غياب المصطلحات العلمية اللازمة ناهيك عن التخلف العلمي التقني و الجهل بأحدث التطورات و الاكتشافات سواء بمجال المواد أو التنفيذ أو حتى التصميم . كما إن صعوبة تحليل الظاهرة الفنية المعمارية تكمن في غياب المصطلحات والمفاهيم العلمية الدالة عليها.

وقد توصل الباحثون في الدول المتطورة إلى صياغة مناهج دقيقة لمقاربة الظاهرة الفنية المعمارية من مختلف جوانبها, في حين بقيت تلك المصطلحات والمفاهيم مغيبة أو غير دقيقة لدى المعماريين العرب.

يعتبر الدكتور رفعت الجادرجي من أبرز الباحثين المعماريين العرب الذين كتبوا دراسات نظرية مهمة حيث علل الجادرجي غياب الدراسات العربية المتميزة في مجال فن العمارة بوجود معوقات فكرية ولغوية تمنع قيام منهجية متكاملة لدراسة الظاهرة الفنية في المجتمعات العربية. لذا تم اللجوء إلى مصطلحات مثالية ” كالإبداع والإحساس المرهف وجمالية الشكل ” وغيرها. فوصف الجادرجي هذه المعضلة بقوله: “إن الفكر الكامن وراء هذه اللغة لم ينفض عنه بعد هيمنة السلطة, أي الدولة والدين, ولم يتمكن من إطلاق طاقاته في استحداث مفاهيم معاصرة يصف بموجبها ظاهرة الفن وغيرها من الظواهر التي تخصه. كما أن الحوار الثقافي الذي يهيئ لنا لغة التنظير, قد أهمل في الفكر العربي منذ القرن الثالث عشر, حيث أنهى عهد الفلاسفة العرب بسبب تعارض هذا الحوار مع الغيبيات الدينية “.

و قد تم ربط علم العمارة في التاريخ الحديث والمعاصر بالتطور الفكري والاقتصادي والاجتماعي الذي شهدته بعض مناطق العالم, خاصة أوروبا منذ القرن التاسع عشر, فالعمارة الأوربية الحديثة هي وليدة عصر النهضة, الذي كان بدوره وليد إحياء العقل الإغريقي بصورة عقلانية وإبداعية. وجاءت ولادة العمارة العصرية كمنطلق لإحياء العقلانية الإغريقية, ونبذ كل أشكال اللاعقلانية. في حين لم يتمكن الفكر العربي في عصر النهضة من تجاوز جماليات القرون الوسطى التقليدية, تجاوزًا يؤهله لمواجهة متطلبات المعاصرة, بقدر ما تمكنت منه أوروبا تدريجيًا, وخلال القرون الخمسة الماضية.

و يمكننا أن نلخص تمحور المنهجية العامة في مجال فن العمارة المعاصرة حول معايير ثلاثة هي المعرفة الوصفية لخصائص الأشياء والظواهر- والمعرفة المعنوية للعلاقات الاجتماعية بما في ذلك تحديد هوية المجتمع وخصوصيته , و التراتبية الاجتماعية والطقوس الدينية والعادات الاجتماعية – والمعرفة التي تحدد مقاييس الأشياء والظواهر الطبيعية والاجتماعية. بينما يلعب المهندس المعماري دورًا أساسيًا في تأمين حاجاتٍ ثلاث هي الوظيفة النفعية التي تشبع المطلب النفعي. والوظيفة الرمزية التي تتضمن متطلبات هوية الفرد والجماعة , وتشمل العقائد والعادات والعلاقات الاعتبارية. والوظيفة الاستاتيكية أو الجمالية بحيث تؤمن العمارة متعة إدراكية وبصرية , ويتضمن التكوين المعماري فيها قيما تنويعية مركبة تؤمن للناس المتعة والاسترخاء النفسي. وهذا ما نراه مفقوداً أو على الأقل شبه مفقود في مبانينا الحالية , و هذا ما كان المحرك و الدافع الأساسي لهذا البحث – الواقع العشوائي و الضائع للعمارة الحالية في المنطقة – إضافةً إلى الجدل الأخير الحاصل حول ما سميّ ب” أزمة الهوية ” .

إقرأ ايضًا