آفاق ومرايا “الناصري”… وتخطيطاته المحفورة

19

تشاء الصدفة، الصدفة: السارة.. والمفاجئة، أن أحصل على كتاب الفنان العراقي رافع الناصري”آفاق ومرايا” (بيروت، 2005، عدد الصفحات: 114 صفحة)، من مصدر غير متوقع، من كتب مقتنيات ، هنا، في كوبنهاغن، حيث أقيم.

ففي أثناء بحثي عن مصادر لموضوع مهني، أجد متعة كبيرة في العودة إليه مراراً، وهو بدايات التشّكل لمقاربة جديدة، ستضحى لاحقاً، إحدى أهم تنويعات المنجز المعماري العالمي، وأقصد بها بزوغ العمارة الإسلامية في سنينها التأسيسية. حيث سبق لي وأن نشرت كتاباً تعاطى مع هذه الموضوعة، بعنوان “العمارة الأموية: الإنجاز والتأويل”، صدر عن دار المدى بدمشق عام 2006.

يهمني، الآن، قراءة جديدة في عمارة القصور الأموية، هي التي مثل إنتاجها التصميمي صفحة ناصعة في سجل ذلك المنجز المرموق في “نسختها” المدنية. وأثناء، إذاً، بحثي عن مراجع معروفة ومصادر جديدة في مقتنيات المكتبة الملكية، حصلت على بعض عنواين مفيدة، وجدت فيما بينها، كتاب الناصري إياه “آفاق ومرايا”، فحجزته من ضمن كتب أخرى حجزتها للاستعارة.

يحتوي كتاب “آفاق ومرايا” مجموعة من مقالات، كتبها رافع الناصري، في أوقات مختلفة وعلى مدى عقد من السنيين، تمتد ما بين 1991 إلى 2003. وتتضمن ثلاثة محاور، حصرها الكاتب في شؤون التجربة العراقية، وفي التجربة العربية وفي التجربة العالمية.

إنها مقالات تعبر عن رأي الفنان، ناقلاً لنا حساسيته تجاه ما يراه من منتج فني، وجد حاجة في قراءته قراءة شخصية، مسبغاً عليها انطباعاته الذاتية. إنها ليست دراسات نقدية- يسارع الناصري بالقول، في مقدمته الكتاب- فهو لم يعتبر”.. كتابة هذه المقالات في يوم من الأيام، نوعاً من النقد الفني. فهذا اختصاص آخر غير اختصاصي. أما ما أكتبه فهو نوع من بث الأفكار الفنية والذائقة البصرية المعاصرة، بصيغة مقالات لم أكن أجرأ على نشرها لولا تشجيع زملائي وأصدقائي الفنانين وبعض الأصدقاء”.

أما نحن، فنجد في قراءتها متعة وفائدة، هما اللتان يتأسس حضورهما من أهمية موقع الفنان المتقدم، الذي يشغله في المشهد الفني العربي المعاصر، كونه أحد الفنانين العرب المميزين، وفق رأي كثر من المهتمين، بضمنهم رأي محمد العامري، وهو فنان تشكيلي مهم وناقد أردني، الذي يجد في تجربة رافع الناصري “… أنموذج مهم في طرائق تفكير الحياة التشكيلية العراقية” ويرى فيه أيضاً “.. تجربة عربية ذات فضاء عالمي”.

يتحدث رافع الناصري، في إحدى مقالاته، عن مساره الفني والمراحل (أو المحطات، كما يدعوها)، التي مرّ بها، بدءأً من البدايات وحتى تاريخ نشر الكتاب. يتحدث الفنان عن إنجازاته ونوعية التجارب التي اكتسبها من أساتذة عديدين، مختلفي الاتجاهات، والمواقع والأمكنة والثقافات. فرافع درس في الصين، مثلما تدرّب في البرتغال، وعمل في الأردن والبحرين، إضافة بالطبع عمله في بلده العراق، وشارك في معارض فنية محلية وإقليمية وعالمية.

لكن “مغامرته” الصينية تظل تحتفظ بوقع خاص، معترفا بأنها لها فضل كبير “.. في تطوير أدواتي الفنية وبلورتها منذ ذلك الوقت المبكر” (ص. 45). وهي فعلاً مغامرة تستحق الإشارة لها، لجهة مؤثراتها وإثارتها، من كونها واقعة غير عادية، أن يختار شاب في مقتبل العمر بلداً نائياً وغريباً وحتى ..غامضاً مكاناً لدراسته.

“يا أولادي، أتعرفون إلى أين أنتم ذاهبون؟، عودوا من حيث أتيتم، فهو الأفضل لكم”. يمثل هذه “التوجهات”، سمع رافع وأصدقاؤه الآخرون تحذيرات كثر من الذين طرق على مسامعهم “قرار” أولئك الصبية بالسفر إلى الصين من أجل الدراسة. لكنهم مع هذا واصلوا سفرهم، وواصل رافع معهم “… مضيت إلى قدري -يكتب رافع الناصري في كتابه- وكأنني لم أسمع هذا الكلام، أو كأن هناك جاذبية ساحرة تشدني إلى تلك الآفاق المجهولة، آفاق الشرق الجميل” (ص.45).

لا أتذكر على وجه اليقين، هل قابلت شخصياً رافعاً في حينها، في بداية الستينات، أثناء زيارة “طلبة” الصين، إلى موسكو، حيث أنا الآخر، اخترت الأخيرة للدراسة فيها. ومع أن وجودنا، نحن الطلبة الأجانب، في موسكو بسحنتنا الجديدة وغير المألوفة التي لطالما أثارت وقتها، في مطلع الستينات، انتباه سكنة عاصمة السوفييت ودهشتهم، فإننا كنا أيضاً ندهش أيضاً من زملائنا “الصينيين” الذين اختاروا ذلك البلد النائي، مكاناً لدراستهم. هل كان رافع أحدهم؟ أظن ذلك. أظن أنني تحدثت معه حول هذا فيما بعد. أظن، إنه يتذكر هذا.. أيضاً.

عليّ أن أعترف بأني من المعجبين بفن رافع الناصري، ومن المتابعين له. أحس بأن ثمة فيضاً من أناقة، ممزوجة بمشاعر من بهجة العواطف، تتوحد في تركيبة تكوينية واحدة تختزنها لوحاته، اللوحات الغرافيكية المشغولة بتأنٍ، وبحرفية، وبتكوين مميزّ، وطبعاً، بجمالية عالية. وكل ذاك ما انفك يسم، بتواجده وحضوره، خصوصية لوحات رافع الناصري بطابع خاص ومميز، يمكن لعين المتلقي أن تدركه بغير صعوبة. أتذكر في هذا الصدد، ما قاله مرة أحد النقاد، بأن ما يضفي العظمة على العمل الفني، “ليست المشاعر والعواطف في حد ذاتها، وإنما طبيعة العملية الفنية التي تتوحد بها. وبالتالي يكون الفنان، هو المسؤول عن توليد الذي بفعله تتم عملية التوحيد”.

يحتفي رافع الناصري بالتكوين ويرتقي به مراتب جد عالية. ويغدو الأخير، على يديه، وكأنه الوسيلة الأثيرة لبلوغ غاية اللوحة المحفورة وهدفها، بل ويبدو في أحيان كثر بأن التكوين يعمل وكأنه الغاية ذاتها. لكنه، في جميع الأحوال، سواء كان وسيلة أم غاية، يظل التكوين لديه محتفظاَ على أناقته، الأناقة التي يوليها الفنان اهتماماً زائداً، تليق بـ “النخبة” التي يتوجه رافع برسومه إليهم. و هنا، تنأى، بمعنى من المعاني، عن حمولتها السلبية. إنه يتوق إلى نتاج فني يتعالى به عن العادي والمألوف والبسيط، وبالتالي فهو يتطلع إلى متذوقي فنه أن يرتقوا معه، ليتسنى لهم الاستمتاع والتفاعل مع ما يقدمه لهم من نتاج متفرد.

إنه، بشكل وبآخر، يصطفي متلقي فنه، هم الذين يتوجه، تحديداً، رافع إليهم، وليس إلى الجميع بالمطلق!. في هذا السياق، ترد إلى الذاكرة، الفكرة المنسوبة إلى جون بول سارتر (1905-1980)، من “..أن الكاتب حين يختار قارءه، يقرر موضوعه. ومن هنا أقول -والكلام لايزال لسارتر- أن كل الكتب الفكرية، أنما تحتوي في داخلها صورة القارئ الذي نتوجه إليه!”. تماماً، كما يعرف رافع نوعية، وخصوصية، وحتى إمكانات متلقي محفوراته الغرافيكية، التي دأب على “صناعتها” منذ عقود!

يتحدث رافع الناصري بود كبير في مقالات كتابه عن الرسامين العراقيين أساتذة المهنة وزملائه الآخرين. وهو يحتفظ عن الأولين بذكرى طيبة، ويعترف بفضلهم الكبير عليه وعلى منجزه الفني. كما يحتفي بأقرانه ومجايليه، ويبدي اهتماماً لتجربة الشباب من الفنانين، واجداً في بعضهم أملا فنياً مهماً للفن العراقي والعربي. إن مقالات:” ثلاث صور فوتغرافية لا تنسى” (ص 32)، و”عن الفن العراقي المعاصر” (ص37)، و”شاكر حسن آل سعيد” (ص 24)، و”اسماعيل فتاح” (ص26)، و”سامر أسامة عنفوان التجريد” (ص16)، و”نديم محسن” (ص11)، وغيرها من المقالات المكرسة للتجربة العراقية وتمثلاتها، تنبض بأحاسيس الاحترام والتقدير والاحتفاء بالأستاذ، والصديق، والطالب.

عمل رافع الناصري أستاذاً للفن سنين عديدة في معاهد وجامعات العراق والأردن والبحرين، وظل هاجسه الدائم نقل معارفه الأكاديمية وتجربته الشخصية إلى طلابه العديدين. وهو بالإضافة إلى ذلك، سعى وراء توسيع مجال الثقافة الفنية وتكريسها في المجتمع. فهو بعد أن استقال من عمله التدريسي ليتفرغ لفنه، أسس مشغله الخاص (الذي دعاه بـ )، عام 1987، كان، بمعنى من المعاني، استمراراً لعمله الثقافي والمهني.

وفي فضاءات ذلك المشغل، أنجز كثير من اللوحات، وفيها عرضت أعماله، وأعمال فنانين عراقيين. كنت أزوره في “المحترف”، -الواقع بالمنصور بجوار غاليري الأورفلي-، مثلما كان يزوره كثر من الأصدقاء، عارضاً علينا بشكلٍ صريح ومكشوف “أسرار” مهنته التي نراها “تصنع” لوحاته أمامنا.

وأثناء تواجدي في عمان في سنين أواخر التسعينات، كنت حريصاً أيضاً على زيارته في مشغل دارة الفنون, وفي كل الأوقات، كان رافع يعمل بحرص وبشغف وبجد وطبعاً بدقة، الدقة العالية التي وسمت أعماله جميعاً. إذ كان لا يتوانى عن رمي النسخ المطبوعة، ويهملها، لأنها لم ترتق في رأيه إلى المستوى المطلوب من الدقة التي يروم أن تكون حاضرة في محفوراته.

عندما اقترحت على زملائي في قسم العمارة بجامعة بغداد، في نهاية الثمانينات، أن نستضيف رافع الناصري لإلقاء محاضرة على طلبة القسم ومدريسيه، رحبوا جميعاَ بالفكرة. رحب بها رافع على خلفية اهتماماته بنشر الثقافة الفنية. ما بقى في الذاكرة من ذلك اللقاء، ليس فقط تعليقات الناصري الممتعة على شرائح أعماله المميزة، وإنما أيضاً، اهتمامه بالتفاصيل. إذ صرف وقتاً طويلاً لجعل شاشة العرض، خلوا من “التجعيدات” المنتشرة على سطحها جراء استخدام الطلبة اليومي لها. وقد حرص رافع، عبر وقت غير قصير، وبإصرار لافت، أمامنا جميعاً، على جعل سطح الشاشة بمستوى ملائم، وفق رواه، لعرض شرائحه.

وبهذا الحدث الهامشي قدم الفنان لنا جميعاً أساتذة وطلبة ، درساً جدياً في ممارسة الدقة، التي يتوق رافع أن تكون جزءاً لا يتجزأ من خصاله الشخصية، التي أسبغت بظلالها، تالياً، منتجه الفني بطابع خاص. بعد ذلك، شاهدت رافع، عن كثب، وهو يعمل بحرص و”بدقته” المشهودة، على إنجاز “لوغو” المعمارية: “عمارة”، التي أصدرناها، في سنين نهاية الثمانينات، نحن بضع معماريين مع آخرين، بمبادرة من المعمارة وجدان نعمان ماهر، التي أصبحت رئيساً للتحرير. ليس المجال هنا مناسباً، لسرد مآلات مسار المجلة الرائدة والمهمة، لكن ما أبدعه، لها، رافع من “لوغو” مميز وجميل، ومختزل، وعابق بفنيته الغرافيكية، ما انفك يعدّ أحد أهم “عناوين” الميديا العربية الحديثة.

يثير رافع الناصري، في مقالات كتابه، إشكالية ابيستمولوجية، أدعوها، إشكالية المعرفة بالآخر، “الآخر” في “نسختيه” العربي والدولي. وهي إشكالية، مثلما هي هامة ثقافياً، فإنها هامة، بالطبع، فنياً. إنها تفسر لنا أسباب نزعات تغييب أو حتى “إقصاء” الآخر من المشهد، بذرائع مختلفة. ويبدو “نصيب” العراقي، تحديداً، فيها كبيراً، متحملاً وزر جريرتها السلبية، غير الموضوعية. فكثير من المثقفين العرب، على سبيل المثال، لديهم انطباعات ملتبسة، لا تخلو من ضبابية عن المنجز الثقافي العراقي (ولاسيما الفني منه). على عكس معظم المثقفين العراقيين، الذين لا يألوا جهداً في السعي وراء معرفة وتتبع المنجز العربي بشموليته وأجناسه وتعدد أوطانه. ومقالات رافع ، المنشورة في الكتاب، (مثلما هي مقالات ودراسات كثر من المثقفين العراقيين)، تشي بتوق واضح بمعرفة “الآخر” القريب، مثل: “النحت العربي: محمود مختار وجواد سليم نموذجاً” (ص. 78)، أو “سامر الطباع: حوار مع الحجر” (ص. 57)، أو “فارسان في أفق الغرافيك العربي” (ص. 68)، وغير ذلك، ترسخ نزوع الفنان (كفنان عراقي تحديداً) في تتبع منجز الآخر، توطئة لفهمه والتعلم منه، والأهم الاعتراف والاحتفاء به.

بيد إن هذا النوع من النزوع، لم يقابل بما هو مكافئ له من قبل الآخرين. لم تكن رائجة “بضاعة” التعرف على العراقيين ومنجزهم من قبل العرب. ثمة تغييب، يصل حد الإقصاء، لمنجز العراقيين عن المشهد الثقافي العربي. وحتى الشعر، الذي برع به العراقيون، يتحمس البعض لـ “سحب” الريادة منهم والاستحواذ عليه، وإسباغها على آخرين.. أما إذا تحدثنا عن المنجز الثقافي العراقي المتنوع مثل النحو والفن والعمارة والموسيقى والاجتماع والاقتصاد والفلسفة والتاريخ، فإن ذلك يدخل في منطقة شبه معتمة، لا يمكن “للآخرين” رؤيتها أو التعرف عليها.

والسؤال ما هو علة ذلك؟ ما تبريره؟

بالطبع ثمة “تمركز” طاغٍ، يتصف به بعض ممثلي الثقافة العربية، تجاه الآخرين، وتجاه العراقيين تحديداً. هل إذن ذلك وليد اللحظة، لحظة ما يمر به العراق الآن؟ – لا نعتقد. إنها ظاهرة مؤثرة وقديمة، رسختها “أوهام” التمركز، المصحوب “بأطروحات” ملفقة عن وجود “خط” فاصل بين العراق وبقية دول المنطقة العربية، خط “اجتهد” المستشرقون برسمه، واستقبله الآخرون كحقيقة تتصادي مع رغباتهم وتصوراتهم عن الآخر، خط حُدد “بغرب الفرات وشرقه” (يميل المستشرق “أوليغ غربار” إلى تضخيمه وتكراره)، ليكون في النهاية ذريعة لعزل العراق عن جيرانه. لا أريد أن أسترسل كثيراً في هذه الإشكالية. أعرف أن مكانها، بالطبع، ليس هنا. لكني وجدت الفرصة سانحة إلى الإشارة إليها، وأنا أقرأ مقالات رافع الناصري المحتفية بمنجز زملائه العرب والإشادة بهم. ومع هذا، ما برح السؤال قائماً: هل يوجد ثمة اهتمام مماثل في الخطاب، لدى “الآخرين” تجاه منجز العراقيين، أو حتى.. غير العراقيين؟

.. وتظل مواضيع مقالات كتاب رافع الناصري، جد راهنة، مثلما هي جد ممتعة، لجهة تبيان انشغالات الفنان العراقي في تخليق “آفاقه” المعرفية، وهو واقف بتجرد أمام “مراياه” الشخصية!

د. خالد السلطاني مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون

إقرأ ايضًا