جوامعٌ خشبية غارقة مراجعة لكتاب “جوامع المونسون” للمعمارية والكاتبة باتريشا فيلس. كتبتها مروة الصابوني

544

جوامعٌ خشبية غارقة

مراجعة لكتاب “جوامع المونسون” للمعمارية والكاتبة باتريشا فيلس.

كتبتها مروة الصابوني

 

المونسون هو الاسم الذي يطلق على الرياح الموسمية التي تهب عادةّ من المناطق الباردة باتجاه المناطق الحارة. وهي غالباَ ما ترتبط برياح بلدان المحيط الهندي. في القرون ما بين الرابع عشر والسابع عشر الميلادية، هبت رياح دينٍ جديد نحو تلك المناطق، إنه دين الإسلام الحنيف.

حمل التجار العرب دين محمد صلى الله عليه وسلم مع بضائعهم المحملة على السفن، ونشروه ما بين الشعوب الأخرى عن طريق الدعوة والعلاقات التجارية والروابط الأسرية المتشكلة عنها. في كتابها الجديد “جوامع المونسون: وصول الإسلام وتطور الجامع المحلي”، تأخذنا الكاتبة باترشا فيلس، وهي معمارية أمريكية، في رحلةٍ على متن سفن القوافل التجارية المبحرة من أرض اليمن وحضرموت إلى مرافئ جنوب آسيا على المحيط الهندي حيث سومطرة وجافا ومالابار.

 

 

مصلى جامع أغونك يوغياكاترا في جافا . اندونيسيا

 

 

وعلى مدى ستة فصول تتحدث الكاتبة عن خصائص الجوامع التقليدية التي بنيت مع قدوم الدين الجديد إلى أراضي جنوب الهند وماليزيا وأندونسيا. وتشرح عن الطريقة الفطرية التي انتشر فيها الإسلام عن طريق التجارة البحرية ما بين شعوب جنوب آسيا. والذين بدورهم قابلوا الدين الإسلامي بترحابٍ ظهر في عمارة جوامعهم التقليدية المعتمدة على تقنيات الإنشاء الخشبي المتوافق مع الشروط البيئية والمناخية السائدة، حيث تكتب فيلس شارحةَ:

“تميز هذه العمارة المحلية الأسقف ذات الأطر الخشبية الكبيرة والمصنوعة من الخشب بحرفية عالية الجودة. أدعو هذا الطراز بطراز “جوامع المونسون”، وهو ليس بطراز جامد لا يتسم بالمرونة، وإنما مجموعة من الأشكال الحية والمتجاوبة مع ما حولها، أو ما يدعوه كريستوفر ألكسندر بـ “عمارة جيدة متأقلمة مع السياق”. وهي نتيجةٌ لقراراتٍ عديدة تخص الشكل الذي تم اختباره وتجربته مراراً وتكراراً، كما هو حال أولئك الناس الذين عاشوا واستخدموا المباني وسعوا إلى تكييفها بحسب أغراضهم ووظائفهم الخاصة.”

 

مسجد توانكو بامانسيانغان في سومطرة – أندونيسيا

 

 

يستعرض الكتاب المميزات المعمارية والفروق الإنشائية والطرزية ما بين العمائر التقليدية لكل من ملابار الهندية وماليزيا وسومطرة وجافا، كل في فصلٍ خاص. حيث تتضح الاستجابة المكانية لطراز كل منها: على سبيل المثال، في طرق الرفع عن الأرض سواءً عن طريق المنصات الغرانيتية في ماليزيا وسومطرة أو الأعمدة الخشبية الرفيعة في جافا. حيث مثلت طرق الارتقاء عن الأرض الرطبة والزلزالية النشطة الأساليب المستدامة التي ضمن بها المعمار الآسيوي المسلم ديمومة بيوت الله.

كذلك هو الحال في اختيار المواد البنائية، التي تنوعت ما بين الدعامات الخشبية الضخمة والحجارة النفوذية التي سمحت بتنفس البناء وتأمين الأجواء المناسبة من حيث النظافة والراحة للمصلين ومن يأمّون المكان.

اندمجت عمارة الجوامع والمساجد مع المجتمعات المحلية كما هو حال الدين الإسلامي الجديد. لقد كانت عمارة الجامع مرآةً للعقيدة الجديدة، عقيدةٌ تحترم الخصائص المحلية ولا تحتاج لفرض أي أجندةٍ خاصةٍ بها. وهذا ما تكتب عنه فيلس بقولها:

“تعتبر هذه الجوامع المبكرة مثالاً ممتازاً عن طبيعة بناءٍ نتجت عن طريق الأنظمة الموجودة والخاصة بالمكان. كان حاملو الدين الجديد مهتمين بشكلٍ رئيسي بمكانٍ يصلون فيه، وقد اعتنقوا التقاليد المحلية دون أي حاجةٍ منهم لأن يفرضوا عمارةً من مكانٍ آخر.”

من جهةٍ أخرى فإن المستعمرين الأوروبيين متمثلين بالهولنديين في تلك الأقاليم، تبنوا فكراً مغايراً تماماً: فهم جاؤوا بغرض نهب خيرات البلاد من ذهبٍ وقهوة وغيرها. وفي طريقهم، دمروا المجتمعات وخصائصها المحلية بالكامل. لم تكن تجارة الهولنديين مشابهةً بأي شكل لتجارة المسلمين. فهي لم تأت لتبني، بل لتدمر. وهو ما يمكن قراءته في العمائر الناتجة كما في الأحوال الاقتصادية للشعوب المحلية.

 

مصلى مسجد بينغكودو-سومطرة-أندونيسسيا

 

 

لكن النقطة المهمة التي تثيرها الكاتبة، تركز على عدم قدرة المستعمرين الأوروبيين حتى في فهم كيف يمكن للإسلام أن يأت بصيغةٍ تحترم المكان ومحليته دون أن يفرض _كما قاموا هم _ بُناه الخاصة والغريبة تماماً:

“لسنواتٍ عدة حاول الأوربيون أن يجدوا مصدراً خارجياً للجامع، كان الافتراض أنه لا بد للجامع أن يكون قد أتى من مكانٍ آخر. هل كان المستعمرون مشتتون لهذه الدرجة بحيث أنهم لم يستطيعوا أن يروا مواهب ومصادر الناس المحليين؟”.

إن عظمة العمارة الإسلامية تكمن في قدرتها على احترام تلك “المواهب والمصادر المحلية” وتوظيفها لخدمة المجتمعات بدلاً من استيرادها لمنظومة شكلية غريبة لا تنتمي للمكان ولا تساهم في إعماره.

تخبرنا فيلس أن عمارة جوامع المونسون تتميز بشكلٍ عام، بالأسقف العالية والفراغات الرحبة والمناطق المظللة، والتي شكلت فراغاتٍ عامة محمية حملت دعوةً مفتوحة لكافة الناس بغض النظر عن أعمارهم أو حتى انتماءاتهم. لكن هذا الحال تغير، كما تكتب فيلس آسفةً.

مصلى مسجد مثقال بالي  في كيرالا – الهند

 

إذ تشرح الكاتبة كيف أن هذه الجوامع التقليدية بعمارتها الأليفة تجاه كلٍ من المكان والبيئة والمجتمع، قد دمرت واستبدلت سريعاً مع وصول الحداثة بنماذج اسمنتية صلدة، وبأشكالٍ مستوردة هجينة. أهم هذه الاشكال المستوردة هي القبة والمئذنة والقوس: عناصر نمطية عربية لا تمت للثقافة الآسيوية المحلية بصلة.

مصدر هذه الأشكال كما تشرح الكاتبة هو شبه الجزيرة العربية، والتي تمارس اليوم دوراً مشابهاً لدور المستعمرين الهولنديين في نمطٍ هو أبعد ما يكون عن رسالة الإسلام الذي دخل فاتحاً في يومٍ من الأيام.

تلك العمارة العربية المسماة إسلامية، هي عمارة مغرورة جامدة لا تتحاور مع المكان ولا تستجيب لحاجاته البيئية والمجتمعية. لا تتميز تلك العمارة بالحساسية والشفافية التي تميزت بها عمارة المونسون التقليدية. هي عمارةٌ غريبة تعتمد على المال الغريب، تحجب “الآخر” عنها بدلاً من أن تمد له يد الترحاب التي مدها الآسيويون يوماً للإسلام.

 

 

مجمع الجامع في تروسمي -جافا-اندونيسيا

 

 

 

إن هذا التقييم ليس ببعيدٍ عن حال كل العمائر العربية اليوم والتي تقوم بتنميط نفسها على أنها “إسلامية”: فلننظر ليس أبعد من أرض الحرمين الشريفين حيث دنست عمارة المكان بأبراج شاهقة وكتل مغرورة، بدلاً من الألفة والتواضع الواجب أن يسودا، أو كما تذكرنا فيلس بوصفها المونسون:

“لقد حدد أعلى سقفٌ في القرية أو المدينة أهم وظيفة سواءً دينية أو ملكية.”

لم تعد جوامع المونسون اليوم تبنى من الخشب بل من الإسمنت، ولم تعد أسقفها عالية حسنة التهوية، بل أصبحت تعتمد على التكييف الكهربائي، كما أنها لم تعد تحتفل بصخب الأطفال اللاعبين في ساحاتها وحول بركها المائية أو بزوارها من الأديان الأخرى بل أصبحت تقفل الأبواب خوفاً من “التطرف”.

تكمن أهمية رسالة هذا الكتاب من خلال دراستها الأمينة والعلمية العادلة بأنها تحاول أن تمسك بأذيال عمائر تؤول للانقراض، ليس في أقاليم المحيط الهندي وحسب وإنما حول العالم الإسلامي ككل. ومع تلك العمائر الزائلة، تزول مجتمعات وأواصر مودة وعلاقاتٌ اقتصادية مثمرة. إنها تذكرنا في عرضها الحساس والجميل لعمارة المساجد الآسيوية التقليدية، بأن هناك فرق بين عمارةٍ تبني لتعمّر وبين عمارةٍ تبني لتدمّر.

 

 

 

 

 

Monsoon Mosques: Arrival of Islam and the Development of a Mosque Vernacular 

By: Patricia Tusa Fels

Published by: Mapin Publishing

Price: 35 $

 

إقرأ ايضًا