البناء والإستقرار وما بعد الحرب

296

من قلب المدن المدمرة والصراعات السياسية والأهلية التي تهز العالم العربي اليوم لابد من ظهور عمارة جديدة على أيدي معماريين جدد. هذا ما يدعو إليه الفيلسوف البريطاني روجر سكروتن الذي خص موقع المعمارية لتكون منصة يطلق منها مقالته الفكرية الجديدة التي يوجه فيها نداءً إلى معماريي اليوم لإنقاذ مدن الشرق الأوسط من شرور العمارة الغريبة.

 

البناء والإستقرار وما بعد الحرب

 

بقلم روجر سكروتن

 

عندما سافر إدوار لير في الأرض المقدسة راسماً البلدات والقرى على طريقه، ترك أثناءها سجلاً لأجمل المستقرات البشرية التي عرفها العالم. مدنٌ متراصة من الحجر، أسقفٌ تندمج كستائر متموجة، والقباب تستقر في حضن السماء، في حين تمتد المآذن فوقها مصلية. بقيت العديد من تلك المدن دون أن يمسها أي تغيير حتى القرن العشرين؛ بأزقتها الحجرية وبيوتها المنطوية للداخل ناقلةً معانيها، لتحمل الكثير من الإرباك لزائرٍ أوروبي بأن يدرك أن المدينة العربية ليست فراغاً عاماً؛ وإنما تراكبٌ من فراغاتٍ خاصة كل منها مظلمٌ، متحفظ، وحرمٌ بحد ذاته.

بالطبع تطورت المدن الساحلية، والمراكز التجارية الضخمة، والمدن الكبرى على طريقة القرن التاسع عشر المعروفة؛ ذات الواجهة المكسية بالحجارة المحددة للمحلات التجارية والشرفات الكلاسيكية المحددة للأشخاص الأنيقين.

ولكن في الداخل بعيداً عن التأثير الغربي، أبقت المدن على شخصيتها القديمة مبنيةً مثل واحاتٍ، كأماكن للإيواء، حيث يعيش الناس من مختلف الطوائف جنباً إلى جنب في تناغم متقارب.

لم تكن الإمبراطورية العثمانية مؤلفةً من ولايات لأمة واحدة؛ وإنما من مجتمعات طائفية ومذاهب، لم يكن بعضها حتى معترفاً به من قبل السلطان في إسطنبول. ولذلك لم يكن من الممكن تحقيق السلام ما بين الطوائف من خلال الحدود، كما في أوروبا، وإنما فقط من خلال العادات. تحقيق سلامٍ ثابت ومستمر ليس بالأمر السهل، ويتطلب عملاً دؤوباً للحفاظ عليه. وقد كانت العمارة جزءاً من ذلك العمل، بمعنى ذلك الإفتراض غير المحكي بأن البيوت يجب أن تتواجد جنباً إلى جنب على طول الأزقة والشوارع وبأنه لايتوجب على منزلٍ خاص أن يكون متفاخراً وظاهراً لدرجة أن يعلو مثلاً عن الجامع أو الكنيسة. وأن المدينة يجب أن تكون مكاناً متماسكاً وموحداً مبنية من المواد المحلية بحسب مفردات مشتركة من الأشكال. فالجدارن الحجرية السميكة كانت موجهة للداخل من أجل توفير الطاقة والحفاظ على برودةٍ في الصيف والدفء في الشتاء. والسوق كان عبارة عن فراغٍ عام مزين بشكلٍ مناسب ليمثل قلب المدينة؛ المكان الذي كانت تمثل فيه التجارة الحرة للبضائع الإندماج الحر للمجتمعات. فسوق حلب القديم الذي للأسف دمره الصراع الدائر اليوم كان مثالاً يحتذى.

ولكن ليس الصراع الأهلي وحده هو ما أضر بالمدن المستقرة في الشرق الأوسط؛ إذ وصلت قبل هذه الأزمة بكثير طرق بناءٍ جديدة، والتي لم تظهر من الإحترام شيئاً يذكر لفكرة الاستقرار، وتناست أكثر قوانين المدن العربية غير المكتوبة قداسة؛ وهو قانون  وجوب عدم علو أي مبنىً علماني عن الجامع. أتت طرائق البناء الجديدة هذه كما أتى غيرها الكثير من الغرب مع تعاونٍ تام مع التجار المحليين الذين كانوا في الغالب يستغلون الثغرات العديدة لقانون الأراضي المحلي والغياب النسبي للرقابة التخطيطية.

وهكذا لم تسلم أثمن جواهر المنطقة، كمدينة حلب مثلاً، من الخراب بواسطة أبراج البناء المؤذي للعين والشقق الرديئة البناء. في حين تساءل السكان المحلييون وهم يشهدون ذلك الدمار، فيما إذا كان هذا التحول الحاصل على بيئتهم القديمة الغالية هو مجرد ثمن الحداثة، أم هو شيءٌ تتوجب مقابلته بترحابٍ على انه إنعتاقٌ من كف الماضي الميت.

لذلك اليوم وأكثر من أي وقتٍ مضى أصبح سؤال كيف يجب أن نبني في الشرق الأوسط اليوم ملحاً وطارئاً. فقد تعرف العالم اليوم على المدن العربية عن طرق التغطية التلفزيونية لأحداث الأزمات الأهلية الأخيرة في البلدان العربية كليبيا وتونس ومصر وبلاد الشام.

القاهرة التي زرتها عندما كنت صبياً منذ أكثر من نصف قرنٍ مضى والتي كانت حينها مكاناً مهلهلاً جمعت فيه العناصر الإدواردية والعثمانية لتمثل وجه ألقٍ متآكل هي اليوم مدينة حديد وإسمنت لا يتناغم فيها مبنىً مع جوار إلاما ندر. وما يدعى فيها باسم الفراغات العامة، كميدان التحرير مثلاً، ليس عاماً ولا حتى فراغاً، وإنما مجرد خلاءات ضمن كومة من الأشكال غير المتلائمة. فالطرز التي وظفها المعماريون يمكنها أن توظف في أي مكان؛ بما أنها أصلاً لا تنتمي لأي مكان. كما أن جميع المباني المرئية تعتمد على كثيرٍ من مزودات طاقة على شكل مكيفات هواء إذا ما كان بالإماكن السكن فيها. وبالتالي فإن النتيجة كارثة بيئية وجمالية، شيءٌ على عكس الاستقرار، ووضعٌ يمكن للعمارة فيه فقط أن تفاقم الصراعات الأهلية التي تنمو في ظلالها.

تم تجريب فكرة إستبدال المدينة العضوية ذات الطرز التقليدية بفراغات مصفاة مؤلفة من كتل من الزجاج، بادئ ذي بدء في العالم العربي. لوكوربوزيه الذي حاول عبثاً أن يقنع مجلس مدينة باريس بأن تتبنى خطته لتهديم مدينة كاملة في شمال السين، وإستبدالها بتجمع من الأبراج الزجاجية، حول بعدها نظره إلى مدينة الجزائر   بدلاً من ذلك، والتي كانت حينها تحت إدارة الاحتلال الفرنسي. وبذلك وكونه المستشار المعماري لحكومة فيشي الفرنسية خلال الحرب إستطاع لوكوربزيه أن يقنع عمدة الجزائر المنتخب بأن يفرض مخططه على المدينة، مع ذلك فإن جزءاً صغيراً وحسب من ذلك المخطط كان قد بني إلى أن وضعت الحرب أوزارها منهيةً المشروع.

لا يزال هذا المخطط يدرّس ويعامل حتى بوقار وإعتبار في المدارس الحديثة للعمارة. وهو الذي كان يتضمن محو المدينة القديمة عن الخريطة وإستبدالها بمربع أبينة ضخم يقطع دابرالساحل واللاندسكيب، ومن فوقها يجعل طرق السيارات تحلق من فوق رؤوس السكان والقاطنين.

لم يشكل أي جامع أو كنيسة جزءاً من المخطط كما لم يكن هناك لا أزقة ولازوايا مخبأة. كان بأكمله خالياً من التعبير وبارداً؛ إنه عمل إنتقامي يمارسه العالم الجديد ضد القديم.

مع ذلك غذّى جنون العظمة الذي عانى منه لوكوربوزيه الإنئسار بما هو جديد الذي سحر العديد من آخذي القرار في العالم العربي، الذين آمنوا بأن السبيل لإظهار أنفسهم كجزءٍ من العالم الحديث يكون من خلال إعادة تصميم كل شيء بطريقة مستقبلية كما هي الحال في دبي.

وعندما سيحين أوان إعادة الإعمار في مدن بلاد الشام سيكون هناك حتماً من سيسعى إلى أن يحذوحذو إمارات الخليج؛ مما سيخلق كوارث بيئية مكان المستقرات العضوية، مستبدلاً ما كان يوماً مدناً جميلة بتجمعات سكانية مبعثرة.

لذلك يلزمنا اليوم بإلحاح وسرعة نوعٌ جديد من العمارة الحديثة؛ تجب إستعادة المستقرات القديمة كحمص وحلب، ويجب أن تستعاد بطرقٍ حديثة ومواد حديثة؛ ولكن يجب على الطرز أن تُضمّن تلك المواد والطرق ضمن نسيج من المدينة الحقيقة التي سوف تنبثق من ذلك. من بعد التدمير النازي لمدينة وارسو القديمة قام من تبقى من أهلها بإتخاذ قرارٍ جمعي لإعادة بناء مركز مدينتهم كما كان؛ لذلك يمكن أن تتم دعوة أهالي حلب لإتخاذ قرارٍ مشابه اليوم، وهكذا يمكن لنوعٍ جديد من عملية التخطيط أن يظهر، تطرح فيها المخططات للإسستفتاء العام بدلاً من قرار الخبراء الذين سيكسب قسمٌ منهم على أقل تقدير مالاً من الصفقة.

ويمكن أخذ الدليل من سويسرا؛ بأن الناس فيما إذا ما إعطوا الخيار فإنهم لن يصوتوا للأبنية ذات الطرز الحديثة الضخمة، وسيفضلون دوماً أبنيةً تتلاءم على تلك التي تظهر نفسها. وهذا حتماً هو صوت الغريزة والطبيعة البشرية؛ فنحن كمخلوفات إجتماعية نميل بطبعنا للإستقرار من خلال التلاؤم مع جيراننا وتعديل سلوكنا ونمط حياتنا مع سلوكهم ونمط حياتهم. يجب على العمارة أن تتبع ذات القاعدة؛ يجب عليها أن تتعدل لتتلاءم مع جوارها، لا أن تفرض نفسها على نمط حياة الناس وحركتهم ومجتمعهم بشكلٍ غريب عن عاداتهم الموروثة.

هذا لا يعني أن المباني الجديدة يجب أن تكون جميعها ببساطة ذات نفس الطراز، أو أن تستخدم نفس المواد كما القديمة منها. فمدينة حمص القديمة بنيت عبر السنين بعدة طرز، ولكن حاول كل جيل من البنائيين أن يتلاءم مع البيئة التي خلقها سابقوه. كما حدث نمو المدينة العضوية؛ على عكس النموذج الذي قدمه لوكوربوزيه في الجزائر، أي أن يحدث كل شيء على شكل إستبدالٍ تدريجي بدلا من إعادة بناء كامل.

أملي هو أن هذا النوع الجديد من العمارة سوف يظهر على أيدي نوع جديد من المعماريين. لا يمكننا العودة بسهولة إلى المواد الجميلة التي بنيت منها مدن بلاد الشام بالأصل. فضرورات السرعة والمهارات المتوفرة تشير إلى أن الفولاذ والإسمنت هي المواد التي ستنبى منها المدن المرممة اليوم. ولكن السؤال الحقيقي هو كيف يمكن إستخدام تلك المواد بإحساس بحيث تتلاءم مع ما يحيط بها، بحيث لا تقف بقوة ومعزولة من فوقهم، وكأنها زائر من كوكب آخر. للإجابة عن ذلك السؤال سيلزمنا جهدٌ متماسكك بين أناس مخلصين، لنأمل أنهم موجودون.

 

روجر سكروتن هو فيلسوف بريطاني محافظ وأحد أهم المفكرين الغربيين المعروفين. عرف بكتاباته عن الجماليات والعمارة والموسيقى. له أكثر من ثلاثين كتاب منها جماليات العمارة، وجماليات الموسيقى، والجمال إلى جانب كتبه ومحاضراته العديدة في الثقافة والفلسفة.