خطى متسارعة على طريق التمدن في بكين

12

متأثراً بعملية التمدن المتسارعة غير المسبوقة التي تشهدها العاصمة الصينية بكين، قام المهندس المعماري والفنان الصيني لي هان من استوديو Atelier 11 | China بتطوير سلسلة من الرسومات حول موضوع المناظر الطبيعية في المناطق العمرانية، الغرض منها -أي السلسلة- تسجيل ظواهر مثيرة للاهتمام في عملية التمدن من وجهة نظر لي.

لقد حاول لي أن يسلط الضوء، باستخدام التقنيات واللغات البصرية بوحيٍ من المخططات المعمارية، على التفاعل العفوي بين البيئة العمرانية والأنشطة البشرية، فلم يكن الغرض من هذه الرسومات مجرد التوثيق، بقدر ما كان طرح أفكار حول مستقبل التنمية على أساس الوقائع الحالية.

وفيمايلي بعض التفاصيل لأهم رسومات لي:

بدايةُ مع Xi Zhi Men، أطول محطة مترو في نظام مترو بكين، حيث تشكل هذه المحطة تقاطع لاثنين من خطوط المترو في بكين، وكنتيجة تُعتبر Xi Zhi Men من أكثر المحطات ازدحاماً في بكين، مما جعلها مثالاً نموذجياً عن حياة الناس اليومية والمساحة العمرانية، وعن تأثر كل منهما بالآخر، لذا ركز لي في رسوماته على كون محطة Xi Zhi Men عبارة عن مساحة طولانية معقدة، وبفضل “سكينه غير المرئية” قام باقتطاعات قطرية نتج عنها علاقات مكانية من نوع خاص تكشف بدورها –أي هذه العلاقات- عن المساحة كلها، وبذلك نجح لي بأن يعكس بوضوح العلاقة بين العناصر الموجودة في المساحة.

يُذكر أن أثناء إنشاء رسومات المحطة، تم الانتهاء من بناء خط المترو الجديد وإضافته إلى النظام القائم، وقد اختفى بذلك جزء من المساحة المبينة في الرسم النهائي.

ننتقل إلى مبنى Xi Ba He، وهو عبارة عن مبنى سكني تقليدي في بكين بُني في فترة التسعينيات، فقد وجد لي بأن المباني القديمة والمرافق البسيطة لا تمنع السكان من العيش حياة سعيدة، بل على العكس يمشي الناس كل يوم بصحبة كلابهم في الحديقة، ويطير الحمام على الشرفة بينما تتمدد قططهم في الشمس، وقد كان المعماري الصيني في ذلك الوقت يشارك في مسابقة تصميم مدينة دولية وحديقة حيوان بيئية، حتى أنه قرر أن يجعل الحياة اليومية من حوله موضوع اقتراحه، لذا قام بتصميم حديقة حيوانات لا حدود لها في المدينة، أرادها لي أن تخدم بمثابة الجنة بالنسبة للحيوانات، بغض النظر عن كونها مدينة للبشر، ومن الملفت حيال هذه الحديقة هو عدم وجود سياج بين الحيوانات والإنسان، كما هي حال حدائق الحيوانات العادية.

كما ويسترعينا أيضاً في هذا المجتمع الجديد بأن المرافق ليست حكراً على بني البشر، حيث تأخذ هذه المرافق بعين الاعتبار حاجة الحيوانات التي تعيش في المجتمع نفسه، فعلى سبيل المثال توجد هنالك ملاجئ للقطط والحمام والكلاب ومستشفيات للحيوانات، حتى أنه –أي لي- يعتزم تنفيذ ملاجئ للخيول والماعز وتأمين مزرعة صغيرة لهم.

لقد نجح معمارنا هنا بدمج الواقع والخيال معاً، ومع أن هذا يبدو كما لو كان خرافة جميلة، إلا أنه لا يجوز أبداً التقليل من إمكانية تحقيق “القصص”، فعلى حد تعبير المعماري Wang Xin فإن “القصة” هي دائماً نقطة ارتكاز طويلة الأمد بالنسبة للمدينة، ومن خلال هذه البنية غير المرئية سوف تتحقق هذه القصص.

أما شارع San Li Tun ، فلطالما اعتبر مزار بكين الثقافي ولكن تحت الأرض، فقد كان هذا الشارع نتيجة طبيعية لتطور المدينة ولكن ليس عن طريق التخطيط الإداري، أما اليوم ومع تزايد رؤوس الأموال الضخمة أصبح San Li Tun وجهة راقية وعصرية في بكين، حيث يمكنك بسهولة العثور على العلامات التجارية والمطاعم الفاخرة، ولكن للأسف فقد هذا الشارع في المقابل روح العمارة الصينية الأصيلة، وينطبق الأمر ذاته على مبنى رقم 42 جنوب San Li Tun، وهو عبارة عن مبنى سكني من 6 طوابق شُيد في فترة الثمانينات، حيث تحولت شقق المبنى في الطابقين الأول والثاني إلى حانات ومطاعم ومحلات DVD ومخازن للوشم ومحلات للكبار ومحلات للأزياء، فعند زيارتك لهذا الشارع سوف تلاحظ بأن الناس يتجمعون هنا من جميع أنحاء العالم.

تقنياً، يعتبر شارع San Li Tun أكثر من مجرد رسم معماري، ولكنه في نفس الوقت ليس دقيقاً كما هو الرسم المعماري، حيث لا يؤكد على وجهة نظر الفنان، أو على خصائص العمل المعماري، فالأهم من هذا وذاك هو كيفية استخدام المساحة كلها بالإضافة إلى تعزيز التفاعل بين المدينة وسكانها، وعلى الرغم من أن الحجم المسجل في الرسم النهائي قد لا يكون دقيقاً، إلا أن النطاق دقيق للغاية، فقد استخدم لي طريقة ميكانيكية مبتكرة لإبراز هذه الظاهرة العمرانية على هذا النحو.

ونصل إلى منطقة 798؛ وهي منطقة الفنون الشهيرة في بكين التي كانت فيما مضى عبارة عن منطقة صناعية مهجورة، حيث ركز الرسم الهندسي هنا على اللغة البصرية، فقد حاول لي إظهار المحتوى بطريقة جديدة لا تقتصر على الكتلة نفسها، بل تشمل أيضاً الحياة العمرانية داخل وخارج الكتلة المعمارية، ذلك إلى جانب عناصر أخرى على نطاق أوسع مثل المباني والطرق والساحات والخضرة وخطوط الأنابيب، حيث يمكن لزوار 798 العثور أيضاً على الأثاث والمعدات الميكانيكية ولوحات الإعلانات وحتى أدوات المائدة في المطاعم.

وقد كان الغرض من هذه الوثائق هو أن تعكس تعقد وتنوع الحياة العمرانية باستخدام عملية توثيق موضوعية تستهدف أدق التفاصيل، أما من حيث المبدأ، فإن الطريقة المتبعة في تصوير هذا الرسم كانت تفصيلية أكثر منها عامة.

عدا عن أهمية الطرق المتبعة في تصوير هذه الرسومات، فإن الناحية المثيرة للاهتمام حيال مشروعيي 24 و798 تكمن في حقيقة أن المباني قد نجحت بأن تولد بشكل طبيعي ولكن مع وظائف جديدة، بعد أن أعياها استخدام الوظائف القديمة لفترة طويلة، لتنجح الوظائف الجديدة بدورها في التعايش مع القديمة بكل وئام، الأمر الذي أضفى على المبنيين طابعاً خاصاً قد لا نراه في أبنية أخرى تعرضت للتجديد وفقدت في المقابل طابعها الأصلي.

فقد أثبت لي براعة خلال عملية تجديد المصانع القديمة في مقاطعة 798 فضلاً عن المبنى السكني في شارع San Li Tun، حيث نجح بحماية العمارة القديمة وإضفاء لمسات معاصرة هنا وهناك، قبل أن يأتي المعماري رم كولهاس ويطرح من جديد قضية تخريب العمارة المعاصرة بقوله “أُفضّل الحفاظ على العمارة القديمة بطريقة عفوية أقرب إلى الطبيعية”.

إقرأ ايضًا