أجواء الغموض والسرّية تلف حديقة حيوانات في روسيا

2

لم تكن مهمة تصميم حديقة حيوان معاصرة في سان بطرسبرغ بروسيا تمثُّل رمزاً للحياة الثقافية والعلمية الجديدة مهمةً صعبة على فريق Françoise N’Thépé وAldric Beckmann؛ فباعتمادهما أفكاراً فلسفية عميقة استطاعوا التوصل لتصميمٍ مميز يحيي في ذاكرة زائريه ذلك الزمن الخالد… عصر العمارة العظيمة الذي لم تتعرض فيه مساحات هائلة من الأراضي لتأثير الأعمال التطويرية.

فقد قام فريق التصميم باعتماد رأي الفيلسوف الألماني المعاصر سلوترديك القائل بأن الشكل الكروي هو الشكل الأشمل للطبيعة والفكر؛ لتصبح هذه الفكرة هي الفكرة الأساسية للتصميم.

فحسب رأي المصممين والكثير من العلماء، يجسد الشكل الكروي وبكل بساطة التغيرات الجذرية التي تعرضت لها صورتنا عن العالم؛ ابتداءً من الشكل المسطح الذي اقترحه بطليموس وانتهاءً بصورة الكون؛ أي من ذلك الكيان البسيط الذي يسكنه البشر إلى التجسيد الحقيقي والواقعي للعالم.

وبهدف تحقيق هذه الصورة تم التعاون مع مصممي المناظر الطبيعية برونو تانانت وجان كريستوف ناني، في محاولةٍ لخلق تطوير عمراني يكون من شأنه تذكير الناس بقارة بانجيا القديمة التي وصفها عالم الأرصاد الجوية ورائد الفضاء ألفريد فاجنر، حيث يبدو الموقع عادياً للغاية مع إخفاء الأرض لبعض خفايا أصول البشر.

لكن الأهم من هذا كله أن حديقة الحيوانات هذه لن تكون مجرد حديقة عادية؛ بل ستكون موطناً للعديد من الأبحاث العلمية والحيوانية حيث تخلق أحدث التقنيات والمعارف بيئةً تطوق الزوار وتعدّهم لتجربة الاستكشاف والتعلم.

وهكذا انطلاقاً من بحث المصممين عن طريقةٍ لجمع هذين العالمين الجماليين -عالم الإنسان والحيوان- في مكانٍ يعبّر عن الحداثة والأبدية، تم اعتماد أفكار كوبرنيكوس في الانتقال من العالم المغلق للكون اللامتناهي كأفكار محركّة وموجّهة للتصميم. إذ تمثّل حديقة الحيوان هذه استعارةً تشير إلى تاريخ الإنسانية والعلاقة الوثيقة ما بين الإنسان وبيئته إلى جانب الرابط ما بين النفس والآخرين.

فبفضل هذا التصميم أثبت المعماريون إمكانية تحقيق هذا التعايش عن طريق التأكيد على إمكانية خلق عالم مثالي يمكن ترجمته بسهولة للعالم الحقيقي؛ حيث تعرّف الأجسام الكروية في التصميم الحدود المتنوعة التي تحد مساحتنا المعيشية، بأجواءٍ تتمتع بحميمية الفقاعة من جهة وصخب الحياة العواصمية في الكون من جهةٍ أخرى.

وعلاوةً على ذلك، سيكون من شأن المشروع أن يطوّر إحساساً بالوعي المتنامي بمرور الوقت وتعاقب الفصول وحركة الطبيعة، والتي تمثّل جميعها نظيراً للحركة العمرانية التي تشهدها مدينة سان بطرسبرغ.

حيث ستحيي هذه العمارة والمناظر الطبيعية أرضاً غنيةً ومتنوعة تخفي في جنباتها العديد من البحوث والاكتشافات الحيوانية التي ستثير فضول الزوار كباراً كانوا أم صغاراً؛ إذ تم عزل حديقة الحيوانات هذه في منطقة بريمورسكي عن جوارها لتكتسب المزيد من الغموض، وتتحول إلى منتزهٍ وحديقة شعبية مفضلة، تصبح في المستقبل من أرقى الأماكن في المدينة.

فهنا تتنحى العمارة مفسحةً المجال أمام الجغرافيا لتظهر نفسها، إذ تبرز أهمية توزيع مرافق المكان في مجموعات في تسهيل عملية إدارة الحديقة. حيث يمكن للزوار تمييز شكل الحديقة الذي يبدو أقرب لشبه جزيرة تتمتع بمستوى علوي وآخر سفلي يتواصلان ويتداخلان مع بعضهما البعض.

وهنا فقط عزيزي الزائر يمكنك استكشاف مناطق مضيئة وأخرى مبهمة بالإضافة للمناظر والانعكاسات والأماكن العميقة التي تثير في أعماق الزوار مشاعر ستتفاعل بكل تأكيد مع عوامل الطقس والفصول عبر المناطق الحيوية الستة التي تحتضنها الحديقة؛ وهي منطقة جنوبي شرق آسيا واليابان، أوراسيا، إفريقيا ومدغشقر، أستراليا، وجنوب أمريكا، وأخيراً شمال أمريكا والقطب الشمالي.

وهكذا ومع هذه الصورة التي تقدمها الحديقة عن الكون، ستكون مهمة الحديقة التالية هي حثّ الإنسان والحيوان والنباتات على التفاعل مع بعضها البعض بوساطة الألوان والروائح وغمر الأجساد البشرية في جسد الطبيعة نفسها، حيث سيواصل المشروع تقديمه المستحيل على أنه ممكن، والبعيد عن التصوّر على أنه واضح جلي.

ببساطة يكمن هدف المعماريين الأول والأخير في تحويل حديقة الحيوانات في البداية إلى مكانٍ خاص بالتجارب الحسية والتعليمية، لتتحول فيما بعد لمكان للتجارب النفسية حيث يمكن للمرء اكتشاف الطبيعة واكتشاف ذاته في نفس الوقت، مع تحرّي مشهد تفاعل الإنسان مع الحيوان حيث يتوجه العقل والتفكير لفهم كل شيء ورفض كل شيء، سواءً كان ذلك كون الانتماء أم شخصية الفرد.

باختصار هنا تكون البراعة والطبيعة الفكرة الأساسية لاستراتيجيةٍ مذهلة… غامضة… جذابة… وخارجة عن حدود التقاليد هي أولاً وأخيراً في خدمة الحيوانات وصحتهم.

إقرأ ايضًا