الحاضرة في العراق.. مدن بلا أرصفة , بقلم محسن علي الغالبي

18

أتمنى عليك هنا أيها القارئ، وأتحدى كل بلديات العراق وعلى رأسها أمانة بغداد أن تجد رصيفا ً واحدا ً يتمتع بالمواصفات الحقيقية للرصيف أو حتى ببعضها.

ولن يكون الامر عسيرا ً على أي شخص ، متخصصا كان أم لا ، لادراك ذلك. فكيف بنا أذا ما أردنا تطبيق المواصفات المفترض توفرها في الارصفة واذا ما أردنا مقارنتها بأرصفة المدن الاخرى لاسيما الملتزمة منها بقوانين البناء وبروحية التخطيط الحضري السليم.

 

فما هو مفهوم الرصيف ضمن التخطيط الحضري للمدينة؟ وماهي مبررات وجوده؟ وما هي أهميته؟ وماهي المواصفات التي يجب توفرها كي يصدق عليه مفهوم الرصيف؟ وما هو واقع الارصفة في مدن العراق؟
تشكل شبكة الشوارع Road Networkجزءا ً هاما ً وواسعا ً من الهيكل الحضري للمدينة City Urban Structure وقد تصل مساحتها أحيانا ً الى نسبة مئوية عالية تقترب من مساحة الهيكل المبني للمدينة، وهي تشكل بلا شك الجزء الاهم من البنى التحتية Infrastructureللمدينة، وهي بمثابة الاوردة والشرايين التي تمتد في بدن المدينة فتحيا المدينة بحيويتها وتموت بموتها.
فمن له الحق في ارتياد هذه الشبكة الحيوية من المدينة ومن ذا الذي يملك الاولوية فيها؟ من الطبيعي أن يكون للكل الحق في استخدامها فهي جزء مما يدعى بالفضاءات العامة Public Areas، ولكن في الاساس هناك عنصران رئيسيان عادة ما تخطط الشوارع من أجلهما هما الانسان The Humanووسائل النقل وبالذات السيارة أو The Machine، كما أنه من الواضح والجلي أن الماكنة صنعت لخدمة الانسان وهنا نقترب من معرفة أيهما يملك الاولوية في الاستخدام.


كما نقترب هنا من مفهوم التقسيم البسيط والاولي لكل شارع الى قسمين رئيسيين هما القسم الخاص بالسيارات Car Field والاخر الخاص بالانسان أو المشاة Walk Pathوهما وإن كانا يسيران بموازاة بعضهما على الاغلب فلابد وأن يتقاطعا في مواقع أخرى. وكمبدأ عام فلابد أن يحتفظ كل من هذين العنصرين – الانسان والماكنة – بحقيهما في الشارع، كل في جزءه الخاص، دون أن يتعدى على المساحة المخصصة للآخر. وبعدم ذلك فإن أحدهما يفقد المفهوم العام الذي يصدق عليه، ويفقد وظيفته كعنصر تخطيطي وبالتالي يفقد المعنى من وجوده، فالمدينة ليست بمدينة اذا لم تكن صالحة للاستيطان، والمنزل لن يكون منزلا ً أذا لم يكن صالحا ً للسكن، والرصيف لن يكون رصيفا ً أذا لم يكن صالحا ً للعبور براحة Comfort وأمان Safety وانسيابية Fluently .
طبقا ً لذلك يتضمن الشارع حركة عنصرين يختلفان في سرعتيهما اختلافا ً بينا ً، وكما أن من أهم وظائف الشارع هو تسهيل حركة السيارات بالسرعة المناسبة والمطلوبة لتنظيم حياة المدينة، فإنه يجب أن يوفر الفضاء اللازم لحركة الانسان بأمان ومن دون أن تشكل السيارات خطرا ً عليه. وفي أجزاء المدينة المكتظة High Density Sectors وكذلك المتوسطة الكثافة وربما القليلة يكون عامل الامان Safety Factor هو المحدد لسرعة حركة السيارات وليس العكس، فتحدد بسرعة المشي في داخل الاحياء السكنية وبالقرب من أماكن تواجد الاطفال، وتحدد بـ 30 كم/ساعة فيما بين الوحدات السكنية، وبـ 50 كم/ساعة كحد أقصى داخل الاجزاء المأهولة، ولاتتعدى ذلك الا نادرا ً. تؤكد الدراسات المرورية على أن حوادث الدهس بسرعة 30 لاتؤدي الى وفيات عادة في حين تكون خطرة بسرعة 50 وعادة ماتكون قاتلة في سرعات أعلى.


واذا اكتفينا بهذه العوامل الثلاث، الراحة والامان والانسيابية، لتوفرها في أرصفة المدن نكون قد وضعنا مواصفات عديدة لها من الصعب العثور عليها مجتمعة في الواقع االحالي لمدن العراق عامة. فيتطلب العامل الاول – الراحة – أن تكون الارصفة مستوية ومنفذة بمواد انشائية ملائمة تتيح الحركة بسهولة ولكنها تمنع الانزلاق أو التعثر بها، كما يجب أن تكون الارصفة بعرض كاف يتناسب مع حاجة المنطقة والشارع والمباني المجاورة كي يسمح بحركة المستخدمين له دون أجهاد أو تعارض أو احتكاك مع الاخرين قد يعرضهم الى التضايق وفقدان التركيز للوصول الى المحل المطلوب أو مشاهدة المحال المجاورة ما يؤثر سلبا ً على الحركة التجارية أو غيرها.
أن معظم أرصفة المدن في العراق أن لم تكن كلها تنفذ بارتفاعات مزعجة للمشاة وخصوصا ً كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة والاطفال – تصل أحيانا ً الى 30 سنتيمتر -. كما أنها تنفذ بمواد عادة ما يصيبها التآكل والتفتت بعد عمر قصير نسبيا ً، بالاضافة الى أنها تكون بعرض أقل بقليل من الحاجة الفعلية أو أنها مستغلة بشكل سيئ جدا ً من قبل المباني المجاورة والمحال التي تعرض بضاعاتها بشكل غير عادل، ومن قبل المنشآت المؤقتة التي تعتدي على حق المشاة بشكل فاضح كالمطاعم الصغيرة وعربات الباعة ومولدات الكهرباء وكابينات الحراسة والمرور وحاويات النفايات وأعمدة الكهرباء والمواد الانشائية التي تغطي الارصفة بشكل معيق وكأن مدننا مستمرة بأعمال بناء لانهاية لها.


يمثل العامل الثاني – الامان – حيازة الرصيف على الفضاء Space الخاص به بعيدا ً عن تجاوزات العناصر الاخرى وخصوصا ً المتحركة منها أي السيارات والدراجات النارية والهوائية. هناك قوانين واضحة ومعلنة لتنظيم حركة السيارات في مساراتها في الشوارع تسعى الكثير من المدن الى تطبيقها بشكل حاد وصارم – لايشمل ذلك مدن العراق فالفوضى تكاد تكون عامة وسائقي السيارات يرتكبون المخالفات المرورية جهلا وعمدا -. ولكن في المقابل هل توجد قوانين واضحة تنظم الحركة على الارصفة؟ قد يبدو الامر مضحكا ً أو قليل الاهمية للبعض، ولكن معظم مدن العالم تعاقب السيارات التي تتجاوز على حقوق المشاة وتمنعها من الوقوف على الارصفة. فهل تفعل مدننا هذا؟ لاحاجة للاجابة فقد يكفيك المشي لعشرين مترا ً في أي شارع تختار.
أما العامل الثالث – الانسيابية – فالحديث عنه في مدن العراق عبث لاطائل منه، ونحن أن وجدنا شيئا ً من العاملين السابقين في بعض شوارعنا فإن عامل االانسيابية لاوجود له على الاطلاق، ولمعرفة ذلك يكفي التحقق من معاناة أي أم تضع وليدها في عربته وتدفعه معها في أي شارع من أي من مدننا بلا أستثناء. والامر ذاته نجده لدى ذوي الاحتياجات الخاصة Disabledوالذين تتحول معاناتهم الذاتية الى معاناة مضاعفة في الشوارع ولا أظن أن فيهم من يشتهي التجول في أي ٍ من شوارع مدننا.


يتطلب هذا العامل أن تكون الارصفة ذات استمرارية واضحة دون أن تقطعها حواجز يصعب تجاوزها كقنوات الماء والامطار والمجاري أو الحفر والتي تعج بها شوارعنا، وأن تكون تقاطعات الشوارع وأماكن العبور واضحة سهلة كافية وبفواصل معقولة ومجهزة بوسائل ملائمة كالاشارات والتوضيحات والانارة وغيرها بالاضافة الى ألتزام المجتمع بالقوانين بغض النظر عن أحترام المشاة وغيرهم، واحترام هذه القوانين.
فاذا كان وسط الشارع حقا ً من حقوق الماكنة ، والرصيف حقا من حقوق المشاة فلماذا تتجاوز الماكنة على حق المشاة في شوارعنا دون رادع؟ ولنتصور العكس حين يضع المشاة أنفسهم وسط الشارع للسير أو للوقوف والاستراحة، فهل سيكون ذلك مقبولا؟ وهل سيكون هذا التساؤل دافعا ً لبلدياتنا لحماية حقوق المشاة على أرصفتهم التي تنشؤها من أجلهم ثم تدع الاخرين يعتدون عليها؟
أن المدن التي تعطي الاولوية لماكناتها دون ساكنيها وبالذات مشاتها، مدن لاتؤمن بحقوقهم. انها باختصار مدن لاتحترم ساكنيها.

إقرأ ايضًا