الحاضرة في العراق … مدن بلا ميادين

30

كما كان للدور فناءاتها المفتوحة من قبل، فأن للمدن فضاءاتها المفتوحة أيضا.

وكما تخلت منازلنا عن فناءاتها فأن مدننا هي الاخرى تخلت عن فضاءاتها تلك.

لهذا الفضاء الحضري تسميات عدة قد تختلف عن بعضها في دلالاتها لتشير الى اختلافات في طبيعة هذه الفضاءات وطبيعة الوظائف التي تؤديها في النسيج الحضري Urban Pattern للمدينة، غير انها تشترك في معظم خصائصها وقد يمكن الاستعاضة أحيانا ً ببعضها الاخر.

الميدان City Square or Civic Centre، والساحة، والباحة، والفناء Courtyard ، والفضاء المفتوح Open Space وغيرها، وكلها تتركز حول مفهوم فضاء حضري عام Public يختص بعموم المدينة – وأحيانا ً بجزء المدينة الواقع فيه – ولايختص بأحد. وتشكل هذه العمومية Commonness or Publicity أهم خصائص هذا المكان والتي تعكس سبب وجوده في المدينة وتنعكس على جميع الفعاليات التي يحق للمدينة القيام بها فيه.

ليس المقصود هنا هو تلك الفضاءات الحضرية العامة التي توفر لساكن المدينة جوا ً من العزلة والهدوء والفردية بعيدا ً عن ضوضاء المدينة وتعويضا ً عن ضيق الوحدات السكنية، كالحدائق المحلية Local Parks أو الساحات العامة Plaza أو المتنزهات المركزية  City/Central parks ، والتي ستكون موضوع حلقة اخرى في هذه السلسلة.

أنما المقصود هنا هو تلك الفضاءات الحضرية التي تتيح للفرد – وللتجمعات – من كلا الجنسين ومن جميع طبقات المجتمع وفئاته العمرية الالتقاء ببعضها والتواصل Social Contactوالاستمتاع بهذه الامكانية التي توفرها المستوطنات الحضرية Urban Settlements– عادة ما تفتقر المستوطنات الريفية Rural Settlements لمثل هذه الامكانات – ولاقامة فعاليات Activities تتطلب الاجتماع وليس الفردية بدءا ً بالجلوس وأحتساء الشاي والقهوة والاحاديث العابرة الى تتناول المشاكل اليومية وأحاديث السياسة وما الى ذلك وقد تتعدى هذا الى نشوء تجمعات ثقافية وفكرية وتأسيس جمعيات، وقد تصل الى فعاليات أكثر جدية وحدة من ذلك كالاعتصام والحراك الثقافي والتظاهر كالذي شهده ميدان التحرير في القاهرة في السنوات الاخيرة.

ولطالما كانت هذه الفضاءات جزءا ً مهما ً وحيويا ً في النسيج الحضري للمدينة، وهي تختلف أختلافا ً واضحا ً عن الفناءات الداخلية للمنازل، ذلك أنها لاترتبط مباشرة بالعامل المناخي Climate Factorالذي يتيح ويحتم أحيانا ً وجود الفناءات الداخلية للمنازل في المناطق الحارة في حين يحددها بشدة في الاخرى الباردة. الى جانب ذلك نجد الميادين في دول الشمال الاسكندنافية كما نجدها في الدول الدافئة والحارة. كما لم تستطع الفضاءات الحضرية العامة الاخرى التعويض عنها كفناءات الجوامع والاضرحة او الكنائس، ويعود ذلك في الاساس الى درجة العمومية التي تتمتع بها الميادين نسبة الى تلك الفناءات.

أن مايميز هذه الفضاءات أنها تقوم بأداء عدد من الوظائف المهمة للمجتمع وللمدينة، كالتواصل الاجتماعي Social Contact والترفيه Recreation وأحياء المناسبات المهمة Feastsدون محددات معيقة كالتي تفرضها فناءات المنشآت الدينية مثلا ً، وتوفير المناخ المناسب للنشاطات الاجتماعية أو ما يسمى أحيانا بالحراك الشعبي Popular Movements، بالاضافة الى وظائف جانبية أخرى كالتجارية والسياحية وتخفيف حدة الاكتظاظ الحضري للمدينة Urban Density وتنظيم شبكة الحركة والمرور في المدينة والتوزيع المتسلسل لاجزائها، بالاضافة الى وظائف عديدة أخرى قد يكون بعضها خاصا ً بموقعها ضمن المدينة.

بكلمة أخرى فأن الميدان أو الساحة – يبدو أن مصطلح الميدان هو الانسب لارتباط لفظته بالمدينة – هو العقدة الحضرية Urban Knot أو كما يسميها المخطط الاميركي Kevin Lynch بـ Node كواحد من العناصر الخمسة التي يصفها عند تحليله للمدينة، والتي تجتمع فيها شرايين المدينة وقنواتها لتشكل مكانا ً مستقرا ً يجتمع فيه سكان المدينة للتواصل و أداء الكثير من الفعاليات المشتركة وتبادل الاراء والافكار ولاداء نشاطات مختلفة تتطلب الاجتماع لا الفردية أو ربما فقط للاستراحة والترفية ولكن مع الالتقاء بالاخرين في داخل النسيج الحضري للمدينة بل وفي الاجزاء المركزية منه. مما يعني أن لهذا الفضاء الحضري عددا ً من المواصفات Criteria والتي من المفترض توفرها فيه كي يصدق عليه مفهوم الميدان ولكي يكون مؤهلا ً لاداء وظائفه بشكل مقبول. فما هي هذه المواصفات؟ وهل تتمتع ميادين المدن في العراق بها أو ببعضها؟ بل هل تشتمل مدننا على مثل هذه الميادين أصلا ً؟ وهل في مدننا المعاصرة فضاءات حضرية تؤدي مثل هذه الوظائف؟

من مواصفات الميدان هو أن يكون ذا موقع مركزي في المدينة، ليس بالمعنى الجغرافي أو الهندسي Geometric وأنما بقربه من النقاط المهمة في المدينة وبالذات من نقاط الحركة والانتقال مما يسهل الوصول اليه والخروج منه أي تفريغ حشود الناس منه، كما ينبغي أن يكون بحجم وأتساع يكفي لاستيعاب الفعاليات المتوقع أقامتها فيه Capacity for Activities، وأن يتمتع بدرجة من الامان Safety للحفاظ على أرواح مرتاديه في حال حدوث أمر طاريء، وأن تكون الهيمنة Dominance فيه لصالح الفعاليات بدون أن تشكل حركة المرور أو فعاليات أخرى مناقضة عرقلة واضحة لها، بالاضافة الى تزويده بالخدمات والاثاث المديني City Furniture الذي يشجع الناس على أرتياده والمكوث فيه وأداء فعالياتهم. أمر آخر مهم لمثل هذه الفضاءات هو أن تتمتع بنوع من الاجازة القانونية للاستخدام بحرية أكبر قليلا مما يمنحه القانون للفضاءات العامة الاخرى، وكذلك توفير الحماية اللازمة لهذه الفضاءات كي لاتتحول الى ميادين صراع أو عراك أو موطن لمدمني الكحول والمخدرات وما الى ذلك، وأن كان ذلك في أوقات متأخرة من الليل كما تتحول بعض ميادين المدن الكبرى فيصعب أحيانا حتى المرور من خلالها. وربما هذا هو واقع الحال في حديقة الامة في بغداد والتي تحولت الى بؤرة لبيع البضائع غير المرخصة وربما الممنوعة وموطنا ً للمدمنين والمتسولين وفاقدي المأوى. في حين تحولت ساحة التحرير المجاورة لها الى مجرد تقاطع مروري كئيب بعد أن كانت تتضمن الكثير من الفعاليات التجارية والترفيهية.

ولايختلف الحال كثيرا في المدن الاخرى عما هو في بغداد، فيتسم ميدان الميدان في النجف مثلا ً وبرغم شبه مركزيته وقربه من مرقد الامام علي (ع ) وسوق النجف الكبير وبرغم مساحته الواسعة بأنه مكان يعج بالفوضى وفقدان الوضوح في الحركة والتوزيع ونقص الخدمات وتتقاطع فيه حركة المرور بشكل مربك ومزعج. في حين يصعب العثور على ميادين وساحات يمكن أن تتصف بشيء من هذه المواصفات في مدن أخرى كالناصرية والديوانية ولايكاد يجد المرء أي ملامح تخطيطية لها.

في الوقت الحاضر تمثل القشلة الفضاء الحضري الوحيد الذي يمكن أن يتمتع ببعض مواصفات الميدان الحقيقي في بغداد، بمركزيته وأمكانية الوصول اليه وأشتماله على عناصر تأريخية رائعة تمنحه موقعا ً خاصا ً في نفوس زائريه، بالاضافة الى مقياس المباني فيه والتشجير والاثاث الحضري، والامان الذي يتمتع به المكان. كما أن هناك بعض السلبيات التي يعاني منها المكان كالمحدودية في أوقات الاستفادة منه، وقلة الخدمات المصاحبة له وعدم كفائتها، وعدم تفاعل العناصر والمباني الاخرى المجاورة والتي أن تم تفعيلها قد تحول الموقع كله الى مركز سياحي وثقافي وملتقى أجتماعي لاتستغني عنه المدينة عامة.

وكما تحتاج العائلة الواحدة الى فضاء خاص تجتمع فيه كالفناء الداخلي أو حديقة المنزل، وربما تستعيض عن ذلك بصالة المعيشة حين يضيق المنزل بها، فأن مجتمع المدينة يحتاج الى فضاء للاجتماع والاتصال. يقابل الميدان الفناء الداخلي للمنزل، في حين تقابل صالة المنزل منشآت أخرى كالمسارح والمتاحف وصالات السينما والمعارض وماشابه والتي لاتمثل نقاط جذب واضحة لمجتمعنا المعاصر مما يجعل الحاجة الى الميدان مضاعفة.

يشكل العامل النفسي لساكن المدينة والشعور بالضيق والاختناق والملل سببا ً فاعلا ً في أصابته بالاحباط وعدم الاكتراث بالمدينة وتأريخها وصيانتها ونظافتها، وتساهم هذه الفضاءات الحضرية كالميادين وغيرها في أنتشال الفرد من السقوط في أوضاع نفسية غير مريحة يستحيل على المنزل أو محل العمل أن يؤديه.

محسن علي الغالبي

إقرأ ايضًا