العمارة بصفتها لوحة تشكيلية

52

د. خالد السلطاني*

لاريب أو هكذا في الأقل أرى شخصياً ذلك، أن عمارة مبنى اتحاد الصناعات العراقي في ساحة الخلاني ببغداد (1966)، للمعمار “رفعة الجادرجي”، هي إحدى نتاج المقاربات التصميمية اللافتة في المشهد المعماري العراقي ..والإقليمي أيضا فقد ارتقت بالمنجز المعماري العراقي إلى مستويات جد عالية، مكنته لان يحرز مكانة متقدمة ورائدة في منجز العمارة الإقليمية. ظهرت عمارة مبنى اتحاد الصناعات العراقي، تزامناً مع انشغالات العمارة العالمية، في تقصيها عن آفاق معمارية ومعرفية جديدة، تنأى بعيداً عن سطوة و”طغيان” أسلوب “ميس فان دير رو” العقلاني؛ المنطوي على اختزالات قاسية حدّ التقشف للفورم المعماري. وهو أمر أسهم في ظهور مقاربات معمارية سعت  وراء تفكيك النهج “الميسوي”؛  والتصدي لدحض صدقية مرجعياته الفكرية. وفي هذا المقام، اكتست مداخلات  المعمار”لوي كان”، أهمية فائقة، في محاولاتها لاستيراد خطاب معماري مغاير، خطاب يعتمد على التمييز بين الفورم <الشكل>، والتصميم. فـ “الفورم” Form، وفقاً لـ “كان”، هي الماهية الملازمة للشيء، وهي صلب الجوهر الكلي والشامل له. في حين، “التصميم” Design، هو أداة ربط ذلك الشكل بالزمان والمكان.

قد تكون مقاربة الجادرجي، (المتمثلة في عمارة اتحاد الصناعات ، مثلما سنشاهدها حاضرة بقوة في عمارة الكثير من المباني الأخرى، المؤلفة لمتن الانجاز التصميمي للمعمار)، ردا “جادرجياً” في مسعاه لإيجاد خطاب معماري خاص، يعمل بالضد من أسلوب “ميس” لكنه يظل متساوقاً مع أطروحة “لوي كان” التي ذكرناها تواَ.المقاربة، المتمظهرة في “فك ارتباط” تحرير واجهات المباني من حتمية ملازمتها لنوعية الصياغات المتشكلة عن نفعية الوظائف التي تؤديها احيازها، أو حتى الابتعاد عن نزعة تكرار الوحدة القياسية المؤلفة لمنظومة “كاسرات الشمس”، الشائعة في الممارسة المعمارية وقتذاك.

نحن، إذا، إزاء تمرين إبداعي، يرتقي المعمار بصياغة واجهاته وأشكال عناصرها المألوفة إلى مصاف جماليات اللوحة التشكيلية. وهو هنا من خلال تلك المفردات يتوق الى تذكيرنا بخصوصية ثقافة المكان، هو الساعي لتكون عمارته منتمية اليه. لكن عمارة اتحاد الصناعات، من جانب آخر، تنطوي على  قطيعة، يمكن إن نسميها “قطيعة ابيستمولوجية”، تنأى بفعلها التصميمي عن مجمل الممارسات المعروفة والمألوفة، في معالجات واجهات المباني. انها، بحق،  إضافة، وإضافة مميزة في المنجز المعماري العراقي. جدير بالملاحظة، إن المصمم لاتقتصر  نوعية معالجاته الفريدة على الواجهة الأمامية فقط، وإنما يشمل بعمله هذا الواجهة الخلفية، التي لطالما كانت بمنأى عن إهتمام المصممين. وإذ يضفي رفعة الجادرجي اهتماماً زائدا لواجهاته كلها، فانه يرسخ ممارسة تصميمية جد مهمة، لم تكن تحظى باهتمام المعماريين. انه يدعونا إلى التعرف على رؤية معمارية شاملة للمبنى المصمم، وعدم الاقتصار على مشاهدة جزء منه.

يبقى ،عليّ، تذكير جميع زوار عمارة مبنى اتحاد الصناعات العراقي، ومشاهديها، أن لا يختصروا معرفتهم بعمارة المبنى على واجهته الأمامية الاستثنائية في معالجاتها التصميمية، يتعين، ايضاً، المرور على واجهته الخلفية، للحصول على مزيد من متعة مشاهدة “العمارة”: (الـ) ـعمارة، المعرفة بالألف واللام، تبجيلا وإعتباراً! عندما أنهى رفعة كامل الجادرجي (المولود في 6/12/ 1926 ببغداد) تعليمه المعماري من مدرسة “هامرسميث للفنون والأعمال” (1946-52) بلندن / المملكة المتحدة، عاد إلى العراق، واشترك مع عبد الله إحسان كامل وإحسان شيرزاد، في تأسيس مكتب “الاستشاري العراقي” (1953)،وانضم لهم ،بعد ذاك، معماريون آخرون. قدر لغالبية مشاريع المكتب أن تمثل بعمارتها المميزة ولغتها التصميمية الحديثة، صفحات مهمة وناصعة في سجل المنجز المعماري العراقي. ومن ضمن تلك المشاريع: دارة كتخدا (1957) في العلوية، نصب الجندي المجهول (1959) في ساحة الفردوس (1959)، كلية الطب البيطري (1965) في ابي غريب، بغداد، دارة يعسوب رفيق (1965)، في المنصور ببغداد، مبنى التأمين (1966) في الموصل، بناية التبوغ (1967)، في باب المعظم ببغداد، مشروع مسجد لندن (1969)، لندن /المملكة المتحدة (لم ينفذ)، مصرف الرافدين (1969)، في المنصور ببغداد، مبنى الاتصالات (1971)<بالاشتراك مع هنري زفبودا>، في السنك ببغداد،دارة هديب الحاج حمود (1972) في المنصور ببغداد، بناية مجلس الوزراء (1975)، في كرادة مريم ببغداد، وغير ذلك من التصاميم المميزة، ذات الوظائف المتنوعة.

اصدر كتبا عدة تعاطت مع الشأن المعماري والفني والانثروبولجي مثل: شارع طه وهامرسميث (1985)،  صورة أب (1985)، مفاهيم وتأثيرات: نحو اقلمة العمارة الدولية (1986)<باللغة الانكليزية>، الاخيضر والقصر البلوري(1991)، حوار في بنوية الفن والعمارة (1995)، جدار بين ظلمتين (2003)<بالاشتراك مع زوجته بلقيس شرارة>، في سببية وجدلية العمارة (2006)؛ الذي نال عنه جائزة زايد للكتاب (2008)، سبق أن حاز الجادرجي على جائزة الرئيس لمؤسسة أغا خان (1986).  مقيم في بريطانيا منذ الثمانينات، ويتنقل في إقامته بين لندن وبيروت.

 

*معمار وأكاديمي

 

إقرأ ايضًا