تأثير الفلسفة اليابانية على عمارة لويدرايت:

123

تأتي هذه المقالة في إطار تتمة المقالتين السابقتين اللتين تحدثتا عن كواليس فكر المعمار الأمريكي فرانك لويدرايت, والذي أثر بعمارته في كامل تاريخ العمارة. والذي تأثر بدوره بالفكر والفلسفة والعمارة والفن الياباني. حيث لم يخف على أحد مدى تأثر رايت بالفن والفلسفة والعمارة اليابانية؛ فقد كان لتلك الحضارة الكبيرة تأثير وصل لحد الإبهار بالنسبة لرايت, ولكنه مع هذا استطاع أن لا يتجاوز الخط الرفيع بين التأثر والنقل,و هذا ما سيتبين من خلال استعراض نقاط التقاطع بين فكر رايت وفلسفته المعمارية وبين الفلسفة اليابانية عموماً والفن الياباني خصوصاً:

المشترك وغير المشترك في فلسفة رايت المعمارية و فلسفة الفن الياباني :

معظم المعلومات التالية تعتمد على ما كتبه كيفن نيوت في كتابه “فرانك وليد رايت واليابان” والذي تمت ترجمته من قبَلي؛ في هذا الكتاب يتم استعراض كامل الأثر الياباني على رايت إضافةً إلى التأثيرات الفكرية والفلسفية الاخرى التي صاغت عمارة رايت كنتاج نهائي. وتتركز أكثر اعترافات رايت وضوحاً عن الصلة المباشرة بين عمله والفكر الشرقي الأقصى على الفيلسوف الصيني لاو ـ تزو, وبالأخص مقولته الشهيرة عن جوهر المنزل الذي يكمن في الفضاء (Void) الذي يحتويه بدلاً من شكله المادي. حيث شرح رايت في نهاية مهنته:

“لقد تساءل العديد حول الخاصية الشرقية التي يرونها في عملي. افترض أن هذا صحيح عندما نتكلم عن العمارة العضوية فنحن نتحدث عن شيءٍ أكثر شرقية منه غربية. الجواب: أن عملي بذلك المعنى الفلسفي الأعمق, شرقي. لم تكن تلك المثلعامةً لجميع الناس في الشرق, ولكن كان هناك لاوتزي على سبيل المثال. لم يعرف مجتمعنا أبداً الذهن الطاوي الأعمق. ولابد وأن الشرقيين كانوا يعرفونه. مهما كانت اعتباراتهم عنه. وقد بنوا غريزياً بتلك الطريقة, وكانت غريزتهم صحيحة. لذلك لا تزال هذه الحقيقة عن العمارة العضوية تتعاطف وتتشارك مع الفكر الشرقي أكثر مما تفعل مع أيّ شيءٍ آخر اعترف به الغرب. إن حضارة الهند وفارس والصين واليابان, تعتمد جميعها على نفس المصدر المركزي للإلهام الثقافي وهو البوذية بشكلٍ أساسي ….ولكنها على الأغلب, مبادئ هذا الإيمان هي ما يحدد العمارة العضوية, كما هو إيمان لاوتزي ـ الفيلسوف الصيني ـ و تاريخه محفوظ في التيبيت . ولكنني أصبحت واعياً لهذا فقط بعد أن وجدته وبنيته لنفسي , ومع أن لاوتزي, على حسب علمي,نطق بالفلسفة إلا أنها على الأغلب سبقته ولكنها لم تبن عن طريقه, ولا عن طريق أيّ شرقي آخر. إن فكرة العمارة العضوية, وواقع المبنى يكمن في الفراغ الذي نعيش فيه, الإحساس الذي يجب أن نحتويه نحن أنفسنا ضمن غلافٍ هو المبنى, ليست شرقيةً فقط”.

إضافةً للاوتزي وأثره في تطويرمفاهيم عمارة رايتالفراغية الخاصةإلا أن رايت قبل أن يتعلم عن لاوتزي وتعليقاته عن الموضوع تعلم بواسطة كتاب كاكوزوأوكاكورا “كتاب الشاي” (1906) حيث شرح: “لمدةٍ طويلة اعتقدت أنني “اكتشفتها”, لاكتشف لاحقاً أن كامل فكرة الفراغ الداخلي وكونه واقع المبنى كانت قديمة وشرقية….عندما تلقيت كتاباً صغيراً لأوكاكوراكاكوزو عنوانه “كتاب الشاي”, أرسله لي سفير اليابان إلى أمريكا وبقراءته صادفت جملة: “يتم العثور على واقع الغرفة في الفراغ الذي يحتويه السقف والجدران, وليس في السقف والجدران أنفسهما” .

ويذكر رايت أنه مع أنه لم يكن يعلم شيئاً عن وجود لاوتزي من قبل, إلا أنه كان يبني الفراغ بنفس الطريقة دون ان يدري مستشهداً بمبنيي معبد الوحدة ولاركين بفراغاتهما المركزية الكبيرة والمفتوحة.

مبدأ الفراغ كواقع عند رايت و الإلهام الطاوي:

استفاد رايت من “كتاب الشاي” لأوكاكورا * والفلسفة الطاوية للفيلسوف (لاوتزيLaotze ), وهذا ما ظهر في ترجمات بول كاروس 1898. وقد شارككاروس في تفسيرات أوكاكورا الفراغية لمفهوم لاوتزي عن الفضاء ( void ). من هنا قد يكون قد أثر برايت بما أنه ترجم مبدأ لاوتزي الشهير عن عدم الوجود (non – being ) بالطريقة التالية:

“وظيفة عدم التواجد: ثلاثون وحدة شعاعية في عقدة محور الدولاب. وتعتمد منفعية الدولاب على ما ليس متواجداً (وهو الفجوة في عقدة الدولاب ). و يتم صنع الإناء من الفخار, وتعتمد منفعية الإناء على ما ليس موجوداً (وهو التجويف). ومن خلال تفصيل الأبواب والنوافذ نبني منزلاً, وتعتمد منفعية المنزل على ما ليس موجوداً (وهو الفراغ الفارغ).”

ويرى نيوت أن جملة كاروس وهي “الفجوة في عقدة الدولاب” هي ما يهم, بما أن لها تضميناً معمارياً. وأن الأمر لم يكن ليخفعلى شخصٍ يتمتع بقدرة رايت التخيلية. وبالفعل وصف رايت مبنى لاركين ومعبد الوحدة على أنهما كانا تعبيران محرران لمفهوم “الفراغ كواقع”. وفيما بعد اعترف بالحقيقة حول إظهار الداخل لمعبد الوحدة. وبما أن المبنيين كانا مصممين حول فراغاتٍ مركزية تشبه عقدة الدولاب مع أسقفٍ مفتوحة. قد تبدو هذه الأشكال معمارياً, أنها قد احتوت فكرة الفجوة في عقدة الدولاب. ( الشكل 50 -52 ).

وتكمن أهمية هذا الكلام بالنسبة لنيوت كون العضوية كغيرها من المدارس المعمارية تمكن قراءة نتائجها النهائية مثل تداخل الفراغ الداخلي والخارجي وغيرها من “مميزاتها” بطريقةٍ مبسطة وسطحية, كأن يتم تفسيرذلك بكلمات مثل “الانفتاح – التداخل .. والإعجاب بالطبيعة… و غيرها” من المواصفات, و لكن الواقع الذي يتوجب التأكيد عليه يكمن في الفلسفة الكامنة وراء هذه المدرسة؛ فالفراغ المركزي الذي يعتبر مميزةً أساسية للعضوية نتج عن الإقتناع بفكرة “وظيفة عدم التواجد”. أي أن ما هو غير موجود هو ما يهم ويحتسب من وجهة نظر لاوتزي ومؤيديه. فمنفعية الأشياء تكمن في فراغاتها الفارغة مثل فراغ الإناء هو ما يخدم فعلياً ضمن الإناء, و فراغ الغرفة هو ما يخدم وليس جدرانها وسقفها, وهذا بالضبط جوهر العضوية.

وسواءً كان رايت قد استمد أفكاره من كاروس أو من أوكاكورا, الذي قد ترجم كلاً من مفهوم لاوتزي عن الفضاء فيما يتعلق الفراغ الفارغ أو الشاغر كما أشار أراتاإسوزاكي, فإن رايت نفسه قد فسر فضاء لاوتزيبأنه يتضمن الكينونة الايجابية (الفراغ Space) وأنه متناقضٌ مع العدم أو عدم الوجود.

بالتالي انطلاقاً من مفهوم لاوتزيعن الفضاء يمكن الربط بين حس رايت عن الفراغ وحس الفراغ عند العمارة اليابانية التقليدية. حيث يبدو أن رايت نفسه قد فهم الفراغ على أنه بشكلٍ أساسي مادةsubstance)) مستمرة ومتدفقة والتي يمكن أن يتم تحديدها وتبيانها ولكن لا يجب أن يتم ذلك بشكلٍ اصطناعي. وقد عُرف رايت بمعالجته للفراغ ككينونةٍ ايجابية, وهكذا كان عمله متميزاً عن العمارة اليابانية التقليدية؛ حيث لم يكن فيها مفهومٌ مماثل, بل مجرد فكرةٍ عن العدم أو عدم الوجود.

وهنا أيضاً يمكن الموازاة بين الطريقة التي انفرجت “unfold” فيها فراغات رايت الداخلية في أعماله الأخيرة أثناء تحرك المرء خلالها, والتيلم تكن تكشف عن نفسها تماماً أبداً من أي نقطة نظر مفردة, وبين التسلسل المسيطر عليه بحذر للمناظر التي يمكن لمحها, والممثلة للناظر في حدائق التجوال اليابانية. ولكن في حالة الحدائق على الأقل, يعتمد حس التدفق هذا على حركة الناظر أكثر من اعتماده على مفهوم الفراغ نفسه كمادةٍ متدفقة .

كما أنه في معالجته للفراغ كوسيطٍ غير محدود, يرى كيفن نيوتأن عمل رايتلا يبدو وأنه يمتلك أيّ شيءٍ مشترك مع العمارة اليابانية التقليدية, التي تنمو كشكلها (العضوي) الخاص باتجاه الخارج, بفواصل منتظمة في تحديدٍ وبيان للفراغ, قابلة للامتداد بشكلٍ لا نهائي نظرياً. وبالفعل, كان كلٌّ من عمل رايت والمباني اليابانية التقليديةفي طبيعتهم المضافة معاكسين للمعالجة الغربية في تغليف (احتواء) وتقسيم الفراغ. وإضافةً إلى ذلك, بحسب نيوت:يبدو أنهما قد اشتركا على الأقل بخاصيةٍ فراغيةٍ واحدة, وهي في معالجتهما للحدود بين الداخل والخارج كمنطقةٍ ( zone ) نفيذة غير معرّفة بدلاً من معالجتها كخطٍ جامد.

كذلك كان عمل رايت السكني الناضج أيضاً مميزاً عن كلٍّ من التقاليد الغربية في توضيع الفراغ والمعالجة اليابانية في تحديد فواصله, فقدتحاشىالقيود التي تفرضها المعالجة الإنشائية إما باستخدام”الصندوق”الحامل لأحمال المبنىأو الشبكة المبنية بعوارض أفقية, على العكس قام رايتمن خلال دمجه للعمود والجدار في “شاشات إنشائية” تحمل السقف وتحدد وتبين (articulate) الفراغ دون أن تحتويه ولا أن تعرّفه بالتخلّص من تلك القيود وإنشاء مفهوم الفراغ الذي يؤمن به.

ويبدو أن رايت قد فسر فلسفة لاوتزي فيما يتعلق “بالروح المنفرجة” بشرحه: “هذا الحس الجديد للضمن (the within) الذي ينفرج طبيعياً, يتخذ شكله من ثقافة الفن والعمارة والفلسفة والدين. طبيعي, كلٌّ يرضى أن يبدو ضمناً للروح لأجل الحل لجميع مشاكل الإنسان, ومن خلال توسيع الوسائل الموجودة, وتكبير وتحقيق الجديد, تعابيرٌ متنوعة للحياة على الأرض – سيبدو هذا حكمةً قديمة. قديمةً بقدر لاوتزي على الأقل, ومع ذلك هي حديثة”.

إذاً نجد أن رايت فهم الفراغ بطريقته الخاصة استفاد بها من تعريف اليابنيين لهبأنه يمثل واقع البناء الأساسي ولكنه اختلف عنهم باعتباره للفراغ على أنه كينونة إيحابية تتدفق وتنمو وتتحرك على عكسهم. و بالطبع اختلف هو واليابانيين عن الغربيين الذين عالجوا الفراغ معالجةً سطحية بتقسيمه واحتوائه, و هو ما سماه “نظام الصناديق”. طقس الشاي الياباني وتأثيره المعماري على رايت:

كما ورد أعلاهفإن مصادفة رايت لـ “كتاب الشاي” كانت بمثابة مفصل هام في حياته المعمارية كما أنه كان لطقس الشاي الياباني تأثيرٌ كبير على قناعاته المعمارية في معالجة الفراغ الداخلي أيضاً. حيث يصف أوكاكورا في (كتاب الشاي) طقس الشاي ومحتويه المعماري الـ ( sukiya ) على أنه يمثل جوهر المثل الاجتماعية والجمالية للطاوي حيث أعلن: “فلسفةٌ راقية تكمن وراء كل هذا. لقد كانت الشايية ( teaism ) طاويةً متنكرة”

انطلاقاً من الفلسفة الطاوية والزينية ومن اعتقادات دين الشينتو يمكن تلخيص تأثيرطقس الشاي وغرفة الشاي على رايت بالتالي: أولاً: أن غرفة الشاي كانت تمثل البساطة والتقشف معاً وهذا ما سماه اليابانييون بالنظافة والانتظام , مما دفع رايت إلى تبسيط داخل فراغاته وازدراء التكثيف المبالغ فيه للتزيين الغربي سواءً في الداخل أم الخارج وهو ما أسماه رايت بـ “مبدأ استبعاد غير المهم”.

فقد تم تفسير حس العدم والطبيعة المؤقتة ظاهرياً لغرفة الشاي أيضاً على أنها تعبيرٌ عن الإيمان البوذي بأن الواقع يكمن في الروح السامية بدلاً من أشكالها المادية الزائلة, كما شرح أوكاكورا: “لقد ميزتالزينيّة “Zennism”, مع النظرية البوذية للتلاشي والزوال ومطالبها بسيادة الروح على المادة, المنزل على أنه مجرد ملجأٌ مؤقتٌ للجسد. فقد كان الجسد نفسه بمثابة كوخٍ في البرية……في غرفة الشاي. حيث يتجلى مظهر النزوح, في السقفالمغمأ, وفي هشاشة الدعائم النحيفة, وخفة البامبو الحامل, وعدم الاهتمام الظاهري في استخدام مواد المكان المشترك. و يتم إيجاد الأزلي في الروح فقط, والتي تتجسد في هذه الأشياء البسيطة المحيطة, وتجمّلهم بواسطة النور السامي لتحسيناتها” .

ويشرح نيوت أن رايت قد جمع هذا الشرح الميتافيزيقي للعدمية والخلو في غرفة الشاي, مع تفسير أوكاكورا الفراغي لمفهوم لاوتزو للفضاء ( void ), ليوازن بين الفراغ والروح. مما قاده إلى اعتبار أشكاله “العضوية ” المعمارية أنها إدراكاتٌ جزئية للروح الهيغلية المنفرجة. وأن الفراغ ضمنهم وحولهم مكّونٌ غير متجلٍ لنفس “الفكرة” السامية. وهذا ما أكدهرايت عندما وصف العمارة العضوية على أنها “تعبير الروح الإنسانية الحية ” , وعندما اقترح أنها يجب أن “تنفرج عن محتوىً داخلي ـ وتعبر عن “الحياة” من “الداخل” .

وقد وصف رايت طقس الشاي على أنه تعبيرٌ عن أخلاق الشينتو* (Shinto). كذلك شرح أوكاكورا في كتاب الشاي بوضوح, كيف أنه تم استمداد المبادئ الجمالية المحددة للشايية بالأصل من المُثل الطاوية ـ وذكر الـ ( Shinto ) فقط في علاقتها مع العادة اليابانية في إعادة بناء المنشآت عند فواصل نظامية. والأهم أن أوكاكورا وصف كيف أنه بواسطة تصميم الـ( sukiya ), وتأثير سيد الشاي المحترم (سيننوريكيو) ( 1591-1521) على الأخص, قامت المُثل الطاوية بتامين الأساس الفلسفي للجماليات المضبوطة والمقيدة للداخل السكني الياباني الحديث حيث شرح: “لقد أثرت مُثل الشايية منذ القرن السادس عشر على عمارتنا, إلى درجة أن الداخل الياباني العادي في يومنا الحالي, باعتبار البساطة الشديدة التي يتمتع بها مظهره التزييني العام, يظهر بالنسبة للأجانب تقريباً مثل حظيرة “.

وفي الحقيقة, بالرغم من أنرايت كما يؤكد نيوت في كتابه قد كان واعياً لهذه الصلة المباشرة بين المُثل الجمالية المحيطة بطقس الشاي والفراغ الداخلي السكني الياباني العادي. إلا أنه مع ذلك لسبب ما اختار أن يصف هذه المُثل على أنها من shinto)) بدلاً من الطاوية؛ حيث شرح في سيرة حياته:”إنهاالطريقة الأبسط دون أي هدر. هذا هو طقس الشينتو اليومي في اليابان ……… قد ترى هذا في أكثر طقوس اليابانيين قيمةً وكرامةـ وهو طقس الشاي, جميع النساء اليابانيات أغنياء أم فقراء, يجب أن يتعلموا كيف يعدون طقس الشاي بشكلٍ صحيح, بحسب قواعدهم الثقافية التي وضعها أكثر المعلمين تقديراً واحتفاءً ( ريكيوRikkyu ). في هذا الطقس يصبح كلّ حسٍّ ومعنىً لكلمة (كن نظيفاً) سلوكاً روحانياً. وهو لا يمقت الهدر والنفايات كمادةٍ خارج المكان ـ وبالتالي الأوساخ ـ بل يمقت عدم انتظام الأماكن بأيّ شكلٍ يقع في نفس الفئة. تجد الثقافة الغربية هذا السلوك غير محتملٍ. إن هذا التطبيق المباشر والعملي لدين الشينتو ( Shinto ) القديم سيجد أكثر ترتيباتنا السكنية مضطربة, ابتداءً من النوافذ نحو الشارع. حصادٌ غني لإنسان الخردة.” “لقد جعل دين الشينتو أخيراً السكن الياباني أنظف من أنظف الأشياء الإنسانية, لأنه ليس أقل نظافةً من الروح.. أثناء مرور القرون, تم تنفيذ كل منزلٍ ياباني سواءً كان لفقيرٍ أم لارستقراطي, بشكلٍ تدريجي بهذه الروح “كن نظيفاً”: إنه معبد”

“نحن أهل الغرب,لا نستطيع أن نعيش في البيوت اليابانية. ولكننا نستطيع أن نعيش في بيوتٍ منظمة بواسطة مثالٍ أعلى. على الأقل, بقدر علو ورفعة المثال الأعلى لبيوتهم ـ إذا بحثنا عنه لمدة نصف قرن أو مايقاربه.إنني متأكد أن الغرب يحتاج إلى هذا المصدر من الإلهام. لمرةٍ واحدة, لا يستطيع أن ينسخ بشكلٍ جيد. إن الاختلاف المركزي العرقي عظيمٌ جداً. يمكن للغرب أن ينسخ كل شيءٍ تقريباً بسهولة أكثر, من أن ينسخ البيت الياباني”.

وهنا نأتي إلى التأثير الثاني لطقس الشاي على عمارة وفكر رايتح والذي يتجلى باعتماد اليابنيين في عمارتهم على عدم التماثل والاكتمال تاركين المجال للخيال تأكيداً على قوة الحياة وقدرتها على النمو. وهذا ايضاً مبدأٌ حاول رايت تطبيقه في بعض فراغاته السكنية. من يبدو كلامه عن مبنى معبد الوحدة بأنه كان أول تعبيرٍ واع عن الفراغ كواقع شيئاً مفهوماً. وقد تبيّن أن هذا التفسير على وجه الخصوص, معتمداً بشكلٍ أساسي على الفكرة الغربية حول الفراغ ككينونةٍ ايجابية.

أما بالنسبة لأوكاكورا كما يشرح نيوت, فإن التضمينات الجمالية والاجتماعية لفلسفة لاوتزي كانتا متصلتان بشكلٍ وثيق. وبالفعل, فقد وصف الطاوية على أنها “فن الوجود في العالم”, وحتى أنه اقترح أن مساهمته الرئيسية في ثقافة الشرق الأقصى كانت في مجال الجماليات. حيث شرح أنها قد أمنت الأساس الفلسفي لجماليات “عدم الاكتمال” التي شكلت فيما بعد خصائص الفن الياباني على الأخص: “غالباً ما تم التعليق على غياب التماثل( symmetry ) في أشياء الفن الياباني من قبل النقاد الغربيين. وهذا أيضاً نتيجة نجاح من خلال زينيّة المُثل الطاوية فقد شددت الطبيعة الديناميكية لفلسفتهم أكثرعلى العملية التي يتم خلالها رؤية الكمال, بدلاً من التشديد على الكمال نفسه. ويمكن اكتشاف الجمال الحق فقط بواسطة من أتمَّ ذهنياً ما ليس مكتملاً. إن قوة الحياة والفن تكمن إمكانياتها للنمو.”

“وبما أن الزينيّة قد أصبحت أكثر نظم الفكر سيطرة, فقد نتجنب فن الشرق الأقصى المتماثل (المتناسق), لا كتعبيرٍعن الاكتمال فقط, بل عن التكرار أيضاً. إنني أعتبر وحدة التصميم مميتةً لنضارة الخيال.” .

إذاً, قدم أوكاكورا غرفة الشاي كتعبيرٍ جوهري لمفهوم الطاوية عن الحياة, على أنها عمليةٌ لا تنتهي من الحدوث (becoming) حيث شرح أنها: “مقام غير المتماثل فيما هو مكرس لتقديس غير الكامل تاركةً عن قصد شيئاً غير مكتملٍ من أجل لعبة الخيال لتكملها.”

وقد يكون هذا مصدر إيمان رايت المشابه بأن “الآلهة سوف لن تسمح بألا يتم امتحان أيّ جهدٍ خلاق للإنسان. و هذا ما يؤمن اليابانيون به أنفسهم, حيث يتركون عن قصد خطأً يسطع في مكانٍ جلي لكي يسترضيهم .” والأهم , أن أوكاكورا قابل مباشرةً بين الجماليات المقيدة لغرفة الشاي والبيت الغربي العادي في ذاك الوقت حيث لاحظ: “يعارض نظام التزيين في غرف الشاي عندنا ذاك النظام المعتمد في الغرب, حيث داخل المنزل يتحول غالباً إلى متحف. بالنسبة لليابانيين, نحن معتادون على البساطة في الزخارف والتغيير المتكرر في الطريقة التزينية, بينما يتم ملئ الداخل الغربي على الدوام بمصفوفةٍ واسعة من الصور والتماثيل, مما يعطي الإحساس بالعرض السوقي للثراء.”

وقد يكون رايت استوحى من طريقة التفكير هذه مبدأ “استبعاد غير المهم”وهذا تم تطبيقه في أعمال رايت السكنية الناضجة ممثلةً بـتالسين ( Taliesin ) على الأخص, كما يؤكد نيوت.

أما التأثير الثالثفيظهر في التعبير عن حالة “التحول العظيم” وهو الاسم الذي أطلقه أوكاكورا على طاوية لاوتزو, الذي عنى به الحالة الدائمة من التغيير الذي تتميز به الحياة. وهذا ما كان أصل مرحلة رايت المشابهة “البين العظيم”. وهذا ما يبدو قد زوده بتفسيرٍ فلسفي للفراغات الانتقالية المتولدة من خلال الأشكال المتقاطعة التي أصبحت ميزةً يمتاز بها عمله الناجح.

الصراع بين الطاوية الفردية و الكونفوشيوسية الاجتماعية وأثره المعماري على رايت :

يعد الصراع بين المسؤولية الاجتماعية والحرية الشخصية شيئاً تداوله البشر في كافة مجتمعاته وأديانهم وقوانينهم, ورايت ليس استثناءً لكنه تعامل مع هذا المفهوم بشكلٍ محدد وواضح . حيث يذكر نيوت أن نوريس سميث قد شخّص عمل رايت على أنه انعكاس للصراع المستمر لأجل تسوية المثاليين المتضادين: فمن جهة يمثل الإنسان كعضوٍ مسؤول عن مجموعةٍ اجتماعية, ومن جهةٍ أخرى نراه الفرد الحرفي المتناغمٍ مع الطبيعة: وهي المواقف التي كانت تفهم على أنها يونانية وعبرية. فبحسب سميث, يبدو أن بذور صراع رايت الخاص تعود إلى شخصيات والديه المتنافرة بشكلٍ حاد.

ولهذا الارتباط الوثيق بعمارة رايت وعلاقة الفلسفة اليابانية بعمارته:وهذا ما وضحه نويت في استعراضهللصراع الفردي الاجتماعي القائم على صراع الكونفوشوسية والطاوية في الفكر الياباني. حيث يذكر أنه أوكاكورا في كتابه “مُثل الشرق”, شرح كيف أن الصينيين, وبالتالي اليابانيين, قد استمدوا مُثلهم الاجتماعية والجمالية من الصراع المستمر بين الكونفوشوسية “الاجتماعية” والطاوية “الفردية”, واللتان وصفهما على أنهما “الأقطاب المتبادلة للفكر الآسيوي”.

وفي حين كان أساس التناغم الاجتماعي الكونفوشوسي مفهوماً على أنه “تضحية شخصية من الفرد إلى المجتمع” , تم تشخيص الطاوية على أنها “عدم اعتبارٍتعاطفي للأشكال الاجتماعية الموجودة” وكما شرح أوكاكورا: “في الأخلاق داست الطاوية على القوانين والنظم الأخلاقية للمجتمع. بالنسبة لهم كان الخطأ والصواب مجرد مصطلحات نسبية” مجدداً يـشرح أوكاكورا: “على أيّ حال , لم تكن الشروط الاجتماعية دوماً مفضلةً بالنسبة للتطور الحر للفن. وغالباً ما هددت بسحق وجوده, وفي بعض الأحيان نجحت في فعل ذلك. وبسبب هذا نجد أن العظماء الكبار قليلون جداً.وبالفعل, يعود الفضل إلى قوة الغزيرة الفنية أننا يجب أن يكون من هؤلاء القلائل. لقد أظهرت حياتهم في كلٍّ من الشرق والغرب أمثلةً مميزة عن الصراع والانتصار على الظروف. لقد عانى المضيفون أثناء اخضاعهم للاستبداد الاجتماعي. إن المضيفين يعانون ويخضعون لأجل قدرهم. لاشيء يلامسنا أكثر من الخطوط المرهقة على وجه رسامٍ عظيم, لأنها ليست آثاراً على سابقه مع فنه فقط, بل مع العالم أيضاً. أحدهما فرح والآخرعذابٌ أبدي. حيث يكمن العداء بين الاثنين في قوانين وجودهما. إن الفن هو كرة الحرية والمجتمع, هو كرة التقاليد. فالسوقي يمتعض حتى من المُثل, ويخاف المجتمع نوعاً ما دائماً من الفنان الحي.”

اعتماداً على هذه الأفكار شكّل رايت مفهومه وفلسفته الخاصة حول الديموقراطية العضوية ومثلها عملياً ومعمارياً في مخططه(لبرود أيكر سيتي). حيث هدفت لوضع الإنسان بتناغم بالتزامن مع كلٍّ من الطبيعة وأخيه الإنسان. وبالتأكيد هدفت لتحقيق التعايش المتبادل مع الطبيعة وبين الأفراد, و هكذا أصبحت مدينة برود ايكر قريبةً من المبدأ الاجتماعي الطاوي “تجميعية أرضية غير مختلفة”.وقد شرح رايت عن هذا التشابه قائلاً: “منذ خمسمائة سنة تقريباً قبل حياة اليهود, تكلم الفيلسوف الصيني لاوتزي عن معنى الفردية, على أنها انعكاس الوحدة العضوية للكون: المصدر الحقيقي لقوة الإنسان, “حالة الإصباح والتكون”!. ويبدو أن مثالنا الديمقراطي عن الحالة الاجتماعية يشبه نفس الوحدة. أي, كانت الديمقراطية مفهومة على أنها النمو الحر للفردية الإنسانية, البشر أحرار في العمل معاً في وحدة الروح…, وهذا بشكلٍ طبيعي عكس الوظيفية وبالتالي عكس المؤسساتية. تبدو المؤسسة شكلاً من أشكال الموت. ويكمن مبدأ الطبيعة هذا في لب الديمقراطية العضوية والعمارة العضوية ” .

وإذا لم يكن كل ما سبق ذكره كافياً ليوضح كيف تؤثر أفكار المعمار كإنسان وما يؤمن به في هذه الحياة في ما يقدمه من فن وعمارة فإن ما يشرحه نيوت مضيفاً عن تأثير الوضع العائلي لرايت وما مر به اجتماعياً بشكلٍ مباشر على طريقة تصميمه خصوصاً للمنازل السكنية التي تعكس طريقة تفكيره بالعائلة مباشرةً: حيث يبدو أن مفهوم رايت الأولي عن العائلة كان مفهوماً محافظاً جداً, والذي عبر عن نفسه في منازل رايت المبكرة في شكل مخططات مغلقة وغالباً متناظرة (symmetrical). وكانت العناصر الفردية غالباً خاضعة للمخطط العام. و كان هذا النموذج الهرمي للعائلة ممثلاً في منزل رايت نفسه في (أوك بارك) حيث سيطر استوديو البطريرك على الواجهة الرئيسية. بعدها غيّر الأطفال نظرته في 1895. والذي كان بحسب نيوتحدثاً ركز الصراع بين العائلة والعمل, مما قاد رايت في النهاية للاختيار بين واحد من الاثنين. هنا ظهرتنظرةرايت عن الحياة العائلية في منزل البريراي المركزي المبكر, والذي كان فيه الرمز الموحد بشكلٍ عام للمنزل غالباً كليّ الوجود .إلى حد كان فيه من المستحيل تجنب الانسحاب القصير إلى غرفة نوم, أو الأعضاء الأخرى للأسرة .

وفي هذه المرحلة أصبحت فكرة العائلة كمجموعةٍ مجتمعية عند رايت سابقةً لحاجات أعضائها الأفراد. ثم في عام 1909 تخلى عن الصراع بين العائلة والفرد الفنان, وترك عائلته. ومع ذلك, يرى نيوت أنه ربما بسبب فشله الشخصي في تحقيق حياة عائلة ثابتة بشكلٍ تقليدي, يبدو أن ذلك قاد رايت إلى بذل جهدٍ إضافي للتعبير عن منشأ اجتماعي أكثر ملائمة من خلال فنه. وبعد هذا الفصل احتاج إلى مبدأٍ جديد, نموذجٍ يلاءم إلى حد ما بين حاجات المجموعة, دون تهديد حرية الفرد. وهذا هو بالطبع جوهر الديمقراطية المقايضة العظيمة بين حرية الفرد وخير الجميع. ومع ذلك كانت الأشكال المعمارية الوحيدة المترابطة مع الديمقراطية في ذلك الوقت, هي الأشكال الإغريقية والكلاسيكية, و التي مثلت عكس الحرية والتحرر من الاعتقادات الخارجية التي كان رايت يسعى للتعبير عنها في حياته وعمله. لذلك كان هناك أصلٌ آخر للديمقراطية وهو الشرقي, الذي وصفه أوكاكورا في (كتاب الشاي). الشايية أو “الطاوية المتنكرة” المجسدة للمعنى الديمقراطي للفرد. حيث شرح أوكاكورا: ” إنها تمثل الروح الحقيقية للديمقراطية الشرقية من خلال جعل جميع أنصارها أرستقراطيين بالذوق” .

وقد شخّص أوكاكورا طقس الشاي ومجاله كنصر للفردية الطاوية على الخضوع للمجتمع الكونفوشوسي المعاكس. ففي غرفة الشاي يصبح كل شيءٍ متساوياً, ويجب على النبلاء والعوام أن يتركوا مكانتهم ويصبحوا متساوين. وهكذا كان الـ ( sukiya )بمثابة ملاذٍ للذوق الفردي, حيث لا يتم تمييز أي علائم خارجية, سواءً اجتماعية أم جمالية.وإضافةً إلى ذلك,اتخذ التعبير المبني لهذه الصيغة المحددة من الديمقراطية شكل عدم الإتمام البسيط للجماليات الـ ( sukiya) بتضادٍ واضح مع الإغريق, وهذا ما فضله رايت كنموذجٍ لعمارته “الديمقراطية”.

شرح هذا التوتر في صراع رايتنوريس سميث على أنه عبر عن نفسه في أعمال رايت المبكرة في خليط متقلب و متموج للخواص الشكلية المتضادة حيث كتب: “نجد رايت يتأرجح في هذه المرحلة المبكرة بين مفهومين, عن العائلة عل أنها مجموعةٌ مجتمعية نواتية: فمن جهة, أراد أن يحقق مصداقيتها وأن يؤكد على استقلال أفرادها الداخلي – اهتمام ٌ قاده إلى التشديد على وحدودية السقف الحامي ومركزية المنزل العائلي والمستطيلية البسيطة للكلّ, بينما من جهةٍ أخرى, رأى في كلٍّ من الصورية المعمارية وسلوك حياته الخاصة تأكيداً على استقلالية الفرد ـ رغبةٌ تم التعبير عنها في الأسقف المكسورة والـمظللات غير المنتظمة والتجمعات المتنوعة جداً للمحتويات المعمارية “. وحدد نيوت هذه الخواص الشكلية المتعاكسة كالتالي:

الفرد كوحدة المجموعة كوحدة تعبير الجزء خضوع الجزء للكل عدم التناظر التناظر عدم الاكتمال الاكتمال الانفتاح ـ النظر إلى الخارج الانغلاق ـ النظر إلى الداخل

حيث تقع في العمود الأول أعمال رايت المبكرة, بينما ما لحقها من أعمال مثل مساكن جوزيف هسر و أيسيدورهيلير مثلاً تعكس خصائص الفئتين, فهي غالباً ما تألفت من عناصر لبية متناظرة موزعة ضمن تكوين كلي غير متناظر. ثم مع بداية القرن بدأ عمل رايت بإظهار خصائص العمود الثاني, كما في سكن غلانسر على سبيل المثال.بينما ما تبعه من بيوت مثل مشروع شيرمان بوث و تاليسين نفسها, تظهر اختلافاً أكبر في الشكل, متصاحباً بتبني متزايد لمحيطاتهم الطبيعية.

إن هذه القراءة لأعمال رايت من شأنها أن تساعد في فهم جوهرها بشكلٍ أكبر كما يمكنها أن تسلط الضوء على منابع إلهام المعماريين الناجحين أمثال لويدرايت. هذا بدوره ربما يسمح لشباب المعماريين بخط عمارتهم الخاصة القائمة على فهمهم الخاص للحياة وعلى ما يؤمنون به وما يريدون نشره, وليس ما يستطيعون نقله وتحويره.

إقرأ ايضًا