“نوستوس” المعمار 1-2

4

الحلاج (كتاب “نوستوس” ص. 220 )

اسارع القول بان كلمة “نوستوس”، التى استخدمها معاذ الالوسي، المعمار العراقي المعروف، عنوانا لكتابه الجديد، هي “..كلمة يونانية قديمة، تعني الحنين الى مسقط الرأس، أو الوِطان بكلمة عربية عبقرية واحدة..”، كما كتب هو، في اخر صفحة من كتابه “نوستوس: حكاية شارع في بغداد”، الصادر عن منشورات الرمال، قبرص، والمطبوع في عمان/ الإردن، سنة 2012؛ (350 صفحة).

تُقرأ الكتب ببواعث عديدة، هي التى تُؤلف، ايضاً، لبواعث عديدة. ومن ضمن تلك “العديدة”، قد يكون الحصول على ثمة فائدة، او متعة او معرفة. أوقد تكون بدوافع النصح او الشكوى او الاعترافات. لكن باعث “نوستوس”: تأليفاً وقراءة، يمكن ان يكون كل هذا؛ رغم إن المؤلف “يصر” على تذكيرنا منذ البداية، الا يكتب سيرة شخصية، “..والا اجعل من حياتي رواية.” (ص. 7). ومع هذا ، فنحن، أزاء نص ممتع وجميل، وغني في التفاصيل، وحافل بالمعرفة، وبالشكوى، وبالنصح وبالاعترافات! أنه نص صادق، وصدقيته “غاصة” بالشفافية، ومترعة بالاخلاص. وعلى المتلقي، تبعاً لذلك، أن “يتلقى” مقولات الكاتب باريحية، سواء تعاطف مع رأيه ام لا. نحن، اذاً، بصدد سرد، يتبدى لي بانه مؤلم، والمه موجع (هل اقول فاجعا؟)، لجهة آمال لم تتحقق، في بلد كنا نشعر، نحن إبناء الطبقة الوسطى، بانه “بلدنا”، وبالتالي معنيون في تحقيق نموه ونجاحه، والتقليل، جهد الامكان، من عثراته. لكن ذلك بدا، وكما هو واضح في سرديات الكتاب، لم يكن امراً سهلاً، كما لم يكن امراً متاحاً. ايها الاصدقاء الاعزاء، قراء مقالي هذا، يسرني ان أقدم لكم نص صديقي وزميلي العزيز المعمار: معاذ الالوسي (1938)، وكتابه “نوستوس”؛ وهي ذاتها ، متضمنة (الحكاية اياها)، اصناف من الحب، والاخلاص، والزمالة، وتحضر فيها العمارة والكفاءة، واللوعة والحنين، وطبعا “الآمال المجهضة”، بحسب كلمات صديق، ومعمار آخر!.

عندما نشرت دراستي، قبل فترة (حزيران 2008)، عن عمارة معاذ الآلوسي، بمناسبة بلوغه السبعين؛ حاولت ان اتقصى عن عبارة “تختزل” مساره المعماري، وتكشف بوضوح عن خصوصية منتج ذلك المسار. وقد وجدت أن معاذاً، وإن انتمى الى الجيل الثالث من المعماريين العراقيين (الجيل الاول: هو المؤسس، وينتمي الى عقد الثلاثينات؛ والجيل الثاني، هم معماريو الخمسينات)، الا إن معماري جيله، ظلوا بعيدين عن المشهد، ولم يؤثروا فيه تأثيرا كبيراً يتناسب مع عددهم ومؤهلاتهم وكفاءآتهم. اذ لعبت الظروف المحيطة وقتذاك دورها السلبي، في إبعاد وتشتت الكثيرين منهم. وبالتالي فقد أضاع العراق، بغيابهم، فرصاً كثيرة، كان يمكن لها إن تثري الخطاب المعماري المحلي، بنماذج تصميمية مميزة. على أن هذا “الغياب”، قابله من ناحية آخرى، “حضور” مؤثر وغزير لمنتج معاذ الآلوسي. وكأنه، نشد ان تكون تلك الغزارة، تعويضاً لجيل باكمله: جيله المنسي، وزملاؤه الذين تفرقوا ايدي سبأ!. ومن هنا، كان عنوان الدراسة اياها: . اذ وجدت في تلك المفارقة “الباردوكسية” Paradox، وصفاً لوضع، موهم للتناقض، بيد انه بدا لي صحيحا! او هكذا رغبت ان اعبر عن طبيعة وأهمية عمارة معاذ. لكن “القدر” الذي وسم جيل معاذ الالوسي، بالتغييب والترحال، شاء ان “يشرك” مصير معاذ نفسه، بتلك “اللعبة” (اللعنة؟)” غير المفهومة، (وغير المبررة اطلاقا!)، التى ما برحت تعمل عملها بنشاط، “مانحة” لكل واحد من معماري البلد ومثقفيه، Odyssey ، ونصيبه من تجوال طويل واسفار لا تنتهي، لكنهم بقوا حالمين بالرجوع الى تلك الامكنة، التى كانت يوماً ما، سبباً لتشتتهم وتفرقهم وتجوالهم الابدي، او بالاحرى” تغربهم الابدي”، كما يكتب معاذ الالوسي نفسه في كتابه (ص.333) الذي يقرأ، بكونه وصفاً لحالة من وطان شديد الوجع، يرتقي لان يكون “نوستوس” مؤثر، ما انفك يتقاسم “لذة” مرارته كثر من جيل معاذ الآلوسي ..وآخرون ايضاً!

يتشكل كتاب “نوستوس” من إحدى عشرة “فاصلة”. إنها محطات هامة في مسار حياة المؤلف، التى يرى بانها تستحق التوقف عندها، ومواضيعها جديرة بفتح حوار مع قارئ الكتاب. ولكونه معماراً (اراه، شخصيا، معماراً مميزاً)، فأن “درب” حياته قد اصطبغ تماماً بسلوكية تلك المهنة، التى قال عنها، مرة، “لوكوربوزيه” . نقرأ فواصل الكتاب: البداية؛ المنهل؛ أولى الممارسة المهنية؛ الهجرة الاولى؛ أثينا؛ شارع حيفا- بغداد؛ صوب الكرخ؛ ضمن الدرب خارج الكرخ؛ جامع الدولة الكبير؛ في عموم الدرب؛ التغريب الابدي. ومن خلال تلك الفواصل/ المحطات، سنتابع مع المؤلف، درب المهنة، وهو درب الحياة لمعمار مجدّ، له بصمات واضحة في المشهد المعماري المحلي، والاقليمي، وحتى الدولي. سيتم التعاطي مع نصوص الكتاب، ليس بكونها تركيزاً عن طبيعة المنجز المعماري المنتج ونوعيته، هو الذي جعل المؤلف من حضوره خلفيةً لقول ما يختلج في نفسه، وانما سيكون ثمة إصغاء لحديث مثقف عراقي، نال بسبب مهنته، كما نال كثر من العراقيين بسبب مهنتهم (ومهنيتهم ايضا)، ضروباً من الاجحاف والمظالم والقسوة وعدم الاهتمام، (وخصوصا عدم الاهتمام!)، من لدن مسؤولين، قُدر لهم ان يكونوا، بغفلة، اصحاب قرار.

“يبني” المؤلف (والكلمات، هنا، دائما ..معمارية!)، كتابه على سردية اساسية، هي بمثابة “أغنية البجعة” في مساره المهني. انها الحدث الرئيس المشكل لمتن الكتاب. انها في الاخير، “حكاية شارع في بغداد” تمثيلا لدرب، اراد به معاذ ان يكون ملتقي ومتفرع “لدروب” عديدة آخرى، ستشكل لاحقا طريقة حياته، وترسم مساره المهني، وتحدد نوعية اهتماماته. وستجبره تلك الدروب، فيما بعد، على تحمل تبعاتها، ونتائجها المفجعة، هو الذي سيغوض غمار مسارها الطويل، ويكابد عذاباتها المضنية. ساتحدث، بالطبع، عن ذلك الشارع/ الدرب، الذي اعتبره مؤلف كتاب “نوستوس”، انشودة له، ولانجازاته التى تحققت، وحنينه اليه وولعه به. لكن قبل هذا، أود إن اشير الى ما تحدث عنه معاذ الآلوسي، وهو “يسرد” مساره المعماري الاول، عندما يكتب “.. اصدرنا وصديقي ياسر حكمت عبد المجيد، أول مجلة معمارية (وتعني: إله القمر، ومركزعبادته مدينة أور). عدد يتيم، صممه وطبعه تبرعاً الفنان الصديق ناظم رمزي. في مطبعته جرى إضافة الالف واللام ليصبح اسمها ” (ص. 49). إذ من هذه المجلة ذاتها، تعرفت لاول مرة (أنا العائد تواً من موسكو، بعد رحلتي الدراسية ، والمشبع بذائقة معمارية نقدية مختلفة، والتائق عن بحث موضوع، يمكن من خلاله أن اطبق منهجيات تلك الذائقة النقدية المختلفة)، تعرفت على أسماء المعماريين الذين عملوا وانتجوا الروائع المعمارية العراقية وقتذاك. وهي إسماء لم تكن معروفة تماماً لدى معظم المثقفيين، وحتى للكثير من المعماريين، كما لم يهتم احد بمآل تلك المشاريع وتبيان أهميتها التصميمية. واذ اعترف بان تلك المقالة الشيقة والغنية بالمعلومات والاسماء التى سوف يشير اليها، مرة اخرى، معاذ في كتابه “… لقد كتبت بحثاً سريعا لمجموعة هذه الابنية (مباني دائرة الاشغال العامة. خ.س)، ومهندسيها نشر في مجلة ننار المعمارية في عددها الوحيد في كانون أول 1966” (ص.70)؛ كانت، من بين دوافع آخرى، نبهتني الى موضوع عمارة الحداثة في العراق، الموضوع الذي سيصبح الاثير لدي، هو الذي، ما انفكيت، اجد نفسي متعلقاً به، ومحباً له، وقارئاً فيه، ومحاضراً عنه لطلبة عديدين على مدى عقود.

والآن، حان الوقت للحديث عن . ستقولون، ما “حكاية” هذا الشارع، الذي “خبصتنا” به؟! حقكم عليّ، ايها الاصدقاء، لاني وجدت ان “الثيمة” الاساسية لكتاب “نوستوس”، كما ارادها معاذ، متمثلة بوضوح في هذا الشارع تحديدا. يعتبره معاذ ليس شارعا عاديا، وإنما “درب” حياة: منه واليه تتجمع وتتفرق دروب المعمار الذي يسرد امامنا بشفافية، ولعه وحنينه والمه، وذكريات نجاحاته واخفاقاته التى شهدها ذلك الشارع العتيد. لا “اطولها” عليكم: انه . هو الذي يتوق معاذ أن يجعل من حكايته: حكاية لا تنتهي إلا وتبدأ حكاية آخرى.

ليس في نيتي، بالطبع، إن أُعيد مضامين تلك الفاصلة/ المحطة، من متن الكتاب، ومن عمر الكاتب. عليكم أنتم، ايها القراء الاعزاء، أن تتطلعوا، بانفسكم، عليها، لتدركوا مدى أهمية ومهنية، وصدقية، ما كتبه معاذ الالوسي. وألاهم تلمس مقدار عمق الاحاطة بشؤون هذا الشارع، وتعاطفه مع ناسه، وتاريخة، و”بيئته”. وكيف لا يشعر المتلقي بحميمية والفة كلماته، التى سجلها في كتابه، حينما يفصح عن عواطفه للمنطقة وشارعها، عندما يكتب “.. مع توفر الاندفاع نظراً للاحساس الفريد نحو المنطقة والمدينة، ولاسيما المنطقة، فهي سكن الأم حتى زواجها وإنتقالها إلى الصوب الثاني الرصافة. الكرخ كانت سكن الخال حتى وفاته، موقع أحد الآبار الأولى والمناهل الثرة” (ص. 158). لقد افرد الكاتب لهذه الفاصلة، صفحات كثيرة. وأذا اضفنا ما تحدث عنه في فاصلة “صوب الكرخ”، المتتمه لموضوعة “شارع حيفا”، فسيكون ثلث الكتاب مكرس لتلك الثيمة القريبة الى قلب المعمار. وأتساءل، عن مآلات الشارع وقضايا تعميره، فيما اذا لم يكن “معمار” مسؤول عن اشراف ذلك التعمير، واذا لم يكن “معاذ”، ذلك المعمار المسؤول؟. أقول هذا ليس بدافع “التحيز” المهني، وأنما إدراكاً لمهنة “العمارة” (هي التى وصفها الاغريق القدامي عن حق، بأم الفنون!)، والتى تستوجب لاتخاذ قرار مهني صائب فيها، التعاطي مع معارف ومعلومات شتى، ليس فقط هندسية او عمرانية، بل وسيسولوجية وتاريخية واقتصادية وبيئية وثقافية عامة بالاضافة الى السياسية بالطبع.

يتحدث معاذ الآلوسي عن حكاية “تعمير” شارع حيفا، ليس بكونه امراً عادياً: عملاً مهنياً صرفاً، يتعين القيام به، وتحقيق ما هو مطلوب منه كمعمار وكمخطط. ذلك لان طبيعة الشارع وموقعه وخلفياته، وغياب المعلومات الضرورية عنه، مترادفاً لغياب المعايير التخطيطية الموجهه للتعمير؛ فضلاً عن ما سيتحصل عنه من مشاكل مستقبلاً، جراء عملية التعمير، وتبعات ذلك على الحي، وعلى “الصوب” وعلى المدينة ككل، جميعا كانت امور غائبة ومقلقة، وسيؤثر غيابها لا محالة، سلباً، على نوعية القرارات العمرانية والمعمارية المتخذة، وستؤدي الى ثلب صدقيتها. والى ذلك كله، يضاف طريقة التكليف، وفترة الانجاز، وطبيعة أجواء العمل وخصوصيتها، التى ستجري إبانها عملية التعمير، وهي اجواء “حربية” بامتياز، يشم منها روائح الخراب والتدمير والهدم والهلاك، ممزوجاً بنزعات التسلط والضغينة وكره الآخر، واصناف جمة من “تنويعات” اللامعقول “الزاخرة” بها عادة، الانظمة الشمولية. انها، باختصار، “مناخات” الحرب العراقية – الايرانية: زمن الثمانينات!

وفكرة” التعمير” نجمت عن “بواعث” بعيدة عن متطلبات التخطيط الاساسي للمدينة، بل ويمكن ان القول بانها غريبة عنها، وحتى طارئة عليها بكل معنى تلك الكلمة وما تشي به من دلالات. اذ رغب حاكم العراق الاول وقتها (هل قلت “الاول”؟ لقد جعل من نفسه الحاكم الوحيد الاوحد: لامثيل له، ولا .. شريك له! يسميه معاذ: “الاخ الاكبر”، تشبهاً ببطل رواية لجورج اورويل المعروفة!)، أن تكون “عاصمته” مدينة لائقة جمالياً لانعقاد مؤتمر دول عدم الانحياز فيها وتسميته (هو الذي استلم منصبه الرئاسي الجديد في بلده، قبل فترة زمنية قصيرة)، “برئيس دول عدم الانحياز” كلها. ولهذا تم اختيار الشارع اياه، الذي ركن تخطيطه وتعميره لسنوات عديدة، منذ إعداد المخطط الاساسي للعاصمة في الستينات؛ ليكون احد ميادين التجديد والتجميل للاعمال التطويرية القادمة؛ التى امر باجرائها “الأخ الكبير” اياه. ” الكبير أعطى أوامره ومشى. ولا يوجد “زلمة” واحد قادر على عدم التأييد والتنفيذ، ناهيك عن الاعتراض”، كما كتب معاذ في كتابه (ص. 166). وعلى عجل تم تأليف لجنة استشارية لمتابعة اجراءات العمل التخطيطي- التجميلي وبصلاحيات واسعة. وعلى عجل ايضا، تم تكليف المعمار العراقي المعروف رفعة الجادرجي لتسميته بـ”المستشار” لهذه اللجنة، بعد ان أخرج من السجن، الذي قبع في “ظلمته” لسنين بتهم، تبين بانها ملفقة.

د. خالد السلطاني مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون

إقرأ ايضًا