عمارة مكتب هشام منير: مهنية المنجز… وحداثته

25

في سنين منتصف الستينات، صمم المكتب ونفذ عدداً من المباني الخاصة بمقرات النقابات المهنية. كان من ضمنها نقابة الأطباء ونقابة المهندسين الزراعيين ونقابة الجيولوجيين وغيرها. وتقع هذه المقرات مع مقرات أخرى خاصة بنقابات مهنية مختلفة، على شارع أنشئ حديثاً في منطقة المنصور بالعاصمة، دعي بشارع النقابات. وكان من ضمن تلك المباني المصممة من قبل المكتب، مبنى نقابة المهندسين، الذي نفذ مرحلته الأولى في سنة 1965، وأضيف له لاحقاً في الثمانينات، ملحقاً يتضمن قاعة متعددة الأغراض، مع مشتملاتها.

يهتم الحل التصميمي لمقر نقابة المهندسين في المنصور، في كشف وظائف المبنى وعكسها واجهاتياً، بأسلوب واضح ومباشر. ولهذا فليس ثمة حاجة هنا، وفقاً لمقاربة المصمم، لادعاءات تصميمية استثنائية. بل ليس لزوم لها بتاتاً، وفق ما ينشد اليه. فهو يتطلع أن يكون مفهوم “الهندسة” (الهندسة بكل أنواعها) حاضراً بقوة في اجراءات الحل التصميمي لمبناه، هو الذي يتعين أن “يجمع” كل صنوف المهن الهندسية.

من هنا، حرصه في تأكيد حضور الحركة السهلة، وسرعة التعرف على فراغات المبنى، ونوعية وظيفتها، ومنطقية وسلاسة أسلوب تنطيقها. ومن هنا أيضاً، جاءت اللغة المعمارية البسيطة والواضحة، المتولدة أساساً (حصراً؟) عن توظيف خصوصية المنظومة الانشائية الهيكلية. فتغدو الأعمدة الرافعة والجسور الرابطة في مبنى النقابة، بالإضافة إلى منظومة التقسيمات الانشائية Grid System، وسطوح الجدران والقواطع، ووحدات كاسرات الشمس، الأدوات التي يتعاطي بها المعمار لاجتراح حله التكويني؛ والمانحة، في ذات الوقت، جماليات ذلك الحل.

بمعنى آخر، يتوق معمار نقابة المهندسين إلى توظيف خاصية مفهوم “التكتونيك”Tectonic المعماري، ليكون مصدراً أساسياً في خلق عمارته. وهو مفهوم، يتوسل في الحصول على القيمة الاستاطيقية (الجمالية) من خلال الانشاء Structure. وقد وظف كثيراً في تصاميم المكتب المتنوعة، وبات أحياناً، يمثل إحدى الخصائص الواسمة لعمارة مكتب هشام منير.

تبرز في المعالجة التصميمية لمبنى النقابة في المنصور مفردتان، سنرى لهما تطبيقات عديدة في مشاريع مصممة من قبل المكتب. وهما: الطابوق الإسمنتي، ووحدات كاسرات الشمسLouvers المتحركة الألمنيومية. في مبنى نقابة المهندسين تحضر هاتان المفردتان حضوراً بليغاً في التصميم، ويعتمد المعمار عليهما كثيراً لجهة إكساب عمارته سماتها الجمالية. والمعروف أن الطابوق الاسمنتي (بألوانه المتعددة)، شاع كثيراً في عمارة الستينات بالعراق. وهو عادة، ما كان ينتج بأبعاد أصغر نسبياً من أبعاد الطابوق الآجري المفخور.

وقد استخدم في إنهائيات (تشطيبات)Finishing السطوح الآجرية أو الخرسانية. وقد جرى استخدامه في مبنى النقابة بلونه الرماني (الأصفر الضارب إلى الحمرة) بصورة كثيفة وواسعة. كما جرى استخدامه أيضاً وأساسياً في واجهات مبنى “مكتبة الطفل” عند شارع دمشق ببغداد، المصممة من قبل المكتب، وكذلك في مبنى شركة إعادة التأمين في باب الشرقي ببغداد، وغيرهما من المباني. وكان دوماً المادة الأساسية لنهائيات الواجهات والقواطع. وقد استخدم في الخارج، مثلما استخدم أيضاً في الداخل.

أما استخدام وحدات كاسرات الشمس الألمنيومية، فقد كان هو الآخر، واسعاً وواضحاً في عمارة النقابة. وشكل “الموتيف” الأساسي لنوعية معالجة القسم العلوي للواجهات الشرقية والغربية لها. إذ “سترت” تلك الوحدات المصطفة الواحدة بجنب الأخرى، فتحات النوافذ العريضة عند الطابق الأول من المبنى المتكون من طابقين. وسنشهد تمريناً آخراً لمثل هذه المعالجة التصميمية في واجهات مبنى “المصرف الصناعي” بالسنك ببغداد، والمصمم من قبل مكتب هشام منير. لكننا هنا، سنكون شهوداً، لاستخدام هذه الوحدات وهي تغطي ستة طوابق كاملة من طوابق مبنى المصرف المتكون من سبعة طوابق.

ينزع معمار مبنى “قصر السلام” الذي صممه مكتب هشام منير سنة 1964، إلى أن تكون عمارته مميزة وحتى فريدة، لتتصادى مع فرادة “ثيمته” الوظيفية. فالمبنى المخصص لإقامة ضيوف الدولة العراقية المهمين، لم تكن موضوعته مألوفة كثيراً في التقاليد البنائية المحلية. فهى جديدة نوعاً ما. وقد برزت الحاجة لها بإلحاح منذ تأسيس الدولة الحديثة، الأمر الذي حدا بالحكومة وقتذاك إلى الشروع ببناء “قصر الزهور” في الحارثية، الذي اكتمل سنة 1933 (المعمار: “ايج. سي. ميسون” H. C. Mason)، وقد سكنت العائلة المالكة به لاحقاً.

بعدها أنشأ “بهو الأمانة” (1934) في قلعة الدفاع بباب المعظم، لهذا الغرض وأعقبه تنفيذ مبنى القصر الأبيض (1946) بالبتاويين، لنفس الغرض أيضاً. (ويقال أن مصمم كلا المبنيين هو أرشد العمري). ورغم أن المبنى الأخير، قد أدى دوره “الضيافي” لسنين عديدة، فإن صغر حجمه وتواضع مشتملاته واحيازه، وضرورة مراعاة التغييرات الكبرى التي طرأت على مختلف مناحي الحياة بالعراق، حثت المسؤولين إلى إيجاد بديل مناسب له.

يدرك معمار “قصر السلام” جيداً فرادة موضوعه. ولهذا فإنه ينأى بعيداً عن مألوف السياق المعماري البنائي المحلي؛ مجترحاً لغة معمارية لمبناه، يطمح أن تكون متسمة على فائض من الجدة وعلى كثير من التجديد وعدم النمطية. ثمة “سقيفة” بأبعاد ضخمة، محمولة على أعمدة، “يُحـّفر” في وسطها فناء، يخترق بفتحته جميع الطوابق الخمسة التي تشكل كتلة المبنى الأساسية، بمساحتها التي تصل إلى حوالي 12000 متر مربع. . يتعمد مصمم القصر أن تكون الأعمدة الرافعة في واجهات المبنى مكشوفة، غير مخفية في “جسد” الكتلة البنائية؛ كما يحرص على إظهارها بوضوح في موقعها الطليق، وبارتفاعها العالي على امتداد علو المبنى، وهي تسند السقيفة العلوية ذات التطليعات الناتئة “الكابولية”Cantilever .

وبهذا القرار غير المنتظر، وحتى الجريء، فقد كفت عمارة المبنى أن تكون “عمارة جدار” Wall Architecture، ذات الخصائص المألوفة والمعروفة والشائعة جيداً في التقاليد البنائية المحلية. وهي خصائص كانت دائماً تشي بقيم جمالية معينة، ترتب عن حضورها الدائم في الممارسة البنائية، تشكل ّمصفوفة فنية، طبعت ذائقة المتلقي المحلي بطابع خاص.

لقد أراد المصمم بهذا القرار، اقتحام تلك الذائقة، والنأي بعيداً عن المألوف، ومن ثم التأكيد على فعله المؤثر لتكريس مقاربته الجديدة في المشهد. وقد نجم عن ذلك القرار أيضاً، ظهور إمكانية استغلها المصمم بكفاءة لتوزيع احياز المبنى الداخلية بحرية تامة، الأمر الذي انعكس جلياً على أسلوب مقاربته لصياغة الواجهات، التي انطوت على كثير من مفردات التنوع “الفورماتي” واختلاف مناسيبها ومستوياتها. لكن هذا “الضجيج” الكتلوي، الظاهر في الواجهات، استطاع المعمار أن “يقمع” تأثيراته السلبية، عبر الحضور المؤثر لشكل السقيفة العلوية المستوية، ذات الوحدات الفسيفسائية المتكررة والعديدة، (الناجمة عن خصوصية الانشاء)؛ وسطح “المنصة” Platform المستوي، المبتدعة في الأسفل. وفي النتيجة، فنحن إزاء منجز تصميمي، تاق معماره أن يكون متميزاً، ليتناسب مع تميّز موضوعه.

في منتصف الستينات، كانت لغة عمارة مبنى “قصر السلام”، وما تنطوي عليه من جدة وحداثة، لغة لافتة، وغير مسبوقة في المشهد المعماري المحلي. كما أن هذه اللغة، وهو أمر غاية في الأهمية، سعت وراء إيجاد تواشجات أسلوبية مع الممارسة المعمارية العالمية في أوج لحظتها الابداعية. بمعنى آخر، لم يهمل معمار قصر السلام، وهو يسعى إلى تثبيت نهجه التصميمي في الممارسة المحلية، النجاحات المرموقة الحافل بها الخطاب المعماري العالمي يومئذٍ. ويبدو من قراءتنا لعمارة مبنى قصر السلام، أن ثمة توقاً حقيقياً لدى المعمار، لجهة تبني مقاربة خاصة به تنشد تفعيل مهمة “التناص” مع خيرة أمثلة تلك النجاحات، وتحرص إلى التثاقف معها، متطلعة، بجد، إلى استيعاب أفكارها التصميمية.

لا يوجد تصميم قريب إلى ما يتوق معمار قصر السلام إليه من أفكار، غير ذلك التصميم، الذي اكتمل تنفيذه في تموز 1961، والذي شغل بعمارته الأوساط المهنية العالمية طويلاً. أنا أقصد، بالطبع، مبنى السفارة الأمريكية في أثينا/اليونان (1956-61)، المعمار: فالتر غروبيوس (تاك). لست هنا، في وارد الحديث عن الأصداء الايجابية التي اُستقبل المبنى بها منذ ظهوره، وعن الكتابات النقدية الرصينة المشيده به، إن كان لناحية أسلوب تنطيق الحلول المعمارية أم لجهة الأفكار التي تحملها تلك الحلول. لكني أود التذكير عن ما صرح به غروبيوس ذاته، أثناء الاشتغال على هذا التصميم، عندما قال “نعرف أن أثينا مكان مقدس، ولهذا فإننا نعمل ما بوسعنا لإيجاد ما يربط تقاليد المدينة مع مقاربتنا التصميمية. بيد أن الحفاظ على تلك التقاليد وحضورها في التصميم، لايعني البتة محاكاتها!” (انظر مجلة: Time, July, 15, 1957).

ومن الكلمة الأخيرة، الواردة في تصريح غروبيوس، الزاخرة بالمعاني والدلالات، ينشد معمار “قصر السلام”، أن تكون “اللامحاكاة” إياها: الكلمة/المعنى الذي يؤسس عليه مقاربته التصميمية؛ تلك المقاربة التي يُراد لها أن لا تبدأ من فراغ، مثلما يتعين أن لا تتجاهل مع ما يجري من أحداث في الورشة المعمارية العالمية، أو “تتناكر” لها. فتغدو مفردات مثل: السقيفة، والأعمدة الطليقة العالية، والمنصة، وشكل الكتلة المحفور في وسطها فناء مكشوف، المستخدمة في الحل التكويني لمبنى السفارة، هي ذاتها الموظفة في عمارة “قصر السلام”، ولكن بصيغ، تشير إلى مقدرة معمار القصر في التعاطي مع تلك المفردات بصورة خاصة، نابعة من رؤاه الشخصية الدالة على اجتهاده التصميمي، وحسن إدراكه لخصوصية ثقافة المكان الذي يصمم له.

يتعين القول، أن فعالية “التناص” مع شواهد المنجز المعماري العالمي، هي ممارسة مهمة، وأساسية ومطلوبة في المنتج التصميمي المعاصر. وهي تدلل على حرص المعماريين للانطلاق إبداعياً من النقطة/المستوى الذي بلغته الممارسة المهنية عند أشد لحظات توترها الابداعي. فالتوصيف المعاصر للعملية المعمارية الآن، يتطلب من ضمن ما يتطلب، حضور “الآخر”، كطرف فعال في اجراءات القرارات التكوينية. والزعم بغير ذلك، من قبيل نقاء القرارات التصميمية، وعدم تأثرها وتفاعلها مع الآخرين، هو زعم، ذو صلة بالأسطورة لا بطبيعة المهنة المعمارية.

والمسألة الهامة هنا، تكمن في قدرة المعمار على رؤية المنتج التصميمي الآخر، وسبر أغواره في قراءة متأنية، تستنطق جوهره الابداعي، ومن ثم تطويع كل ذلك ضمن رؤاه المهنية والشخصية، والاجتهاد في جعله متساوقاً مع اشتراطات الظروف البيئية المحلية. ليست تلك الفعالية مقتصرة فقط على ممارسات المعمار المحلي أو الاقليمي، وإنما تمارس من قبل غالبية دور الاستشارة العالمية بمناطق وجودها الجغرافي المتنوع. ولهذا فإن إشارتنا لفعالية التناص، وتأثيراتها المهنية، هنا، أثناء معرض تناولنا لبعض النماذج المصممة من قبل مكتب هشام منير، تهدف إلى تأكيد أطروحتنا النقدية، الطامحة لـ “قول” ما لم يقله المنجز المعماري المتحقق، و”رؤيته” بصورة، ليست فقط الصورة التى يظهر فيها!. ذلك لأن الاقتصار على الإحالة المنظورة لعمارة المبنى، كما أشرنا سابقاً في هذه الدراسة، وتأشير مفردات التكوين وتحليل أساليب استخدامها، والتعرف على صيغ القرارات التصميمية ونوعيتها، والاكتفاء بها والتوقف عندها، ليس هذا، (على أهميته)، هو ما تطمح اليه هذه الدراسة. ما تطمح إليه، هو تفكيك المنجز المعماري المتحقق، لجهة استبطان جوهر مكوناته التكوينية، والتعرف على طبيعة التعالقات والتشابكات التي تبديها تلك المكونات، مع منجز “الآخرين”: تشكيلياً ورمزياً.

عندما ظهر مبنى “وزارة التجارة” بمنتصف السبعينات، في ساحة الخلاني ببغداد، المصمم من قبل مكتب هشام منير ومشاركوه، سارع كثر من المهنيين المحليين إلى ربط شكل عمارته، مع عمارة مبنى “بلدية بوسطن” (1963-68) Boston City Hall في ماسوشيتس/الولايات المتحدة الامريكية، (المعمار مكتب: كالمان، مكينيل ونولز Kallman, Mckinnell, and Knowles)؛ نظرا للتماثل الحاصل تشكيلياً بين بعض العناصر التصميمية للمبنى البغدادي، مع عناصر عمارة مبنى البلدية الأمريكي. ومما رسخ من شيوع تلك المقارنة وانتشارها في الوسط المهني المحلي، إقرار أحد المصممين الأساسيين لمبنى التجارة، وهو ناصر الأسدي، بقوله إنهم فعلا كانوا واقعين، وقتذاك، تحت تأثير “بوسطن سيتي هول” عندما شرعوا بتصميم مبنى التجارة. والحال، أن ثمة تماثلات “تشكيلية”، يمكن للمرء أن يلحظها، عند رؤية المبنيين.

بيد أنها تظل شكلية، تشي باهتمام مصمم مبنى التجارة وشغفه لكيفية معالجة أجزاء من واجهة مبنى بوسطن، وأسلوب تنطيقها تشكيلياً. وهي تقف، في رأينا، عند هذا الحد. فالاستعارة الشكلية، هنا، ناجمة عن تأثيرات الانطباع البصري السريع الذي تخلقه مفردات تصميمية بعينها، تقع في أعلى الطوابق، مشكلة قمة المبنى الدالة على “تاجه” الرمزي الوظيفي.

وإذ يسعى معمار مبنى التجارة إلى تكريس مقاربة تصميمية، ما فتئت قيمها المعمارية يـُنظر لها، بكونها من “كلاسيكيات” التيار الوظيفي، فإن مصمم مبنى بوسطن يتخلى طوعاً عن تلك القيم، مصطفياً “البروتالية” Brutalism نهجاً تصميمياً لمبناه. فتغدو التقسيمات “الثلاثية” المحببة إلى قلب أنصار “الوظيفية”، حاضرة بقوة في مبنى التجارة، الذي لم يشأ مصممه أن يجاري معمار “بوسطن سيتي هول” في التخلي عنها. وهذه التقسيمات العاكسة لوظيفتها، تدلل على تنوع المهام الوظيفية للاحياز المصممة. ففي حين تشير احياز القسم الأسفل من المبنى القريب إلى المداخل الرئيسية، إلى عمومية الوظيفة، يظهر تكرار أشكال فراغات القسم الوسطي، إلى تماثلية الفعالية الوظيفية فيه، وتعبر طوابق الجزء العلوي في قمة المبنى إلى احياز الهيئات القيادية والادراية العليا للمبنى ككل. ومعلوم أن “بدعة” التقسيمات الثلاثية، ارتبط ظهورها بظهور “مدرسة شيكاغو” المعمارية، التي برزت في المشهد المعماري بالربع الأخير من القرن التاسع عشر. وقد عكست التقسيمات الواجهية تلك، طبيعة الوظائف التي تؤديها احياز المبنى المختلفة، انطلاقاً من مبدأ “الشكل يتبع المضمون” ذائع الصيت!.

ومرة ثانية، يجدر التنويه، بأن فعالية “التثاقف” العاملة تحت “خيمة” مفهوم التناص، التي أجراها مصمم التجارة مع عمارة “بوسطن سيتي هول”، هي فعالية مطلوبة وضرورية لجهة اجتراح عمل مهني كفء، وتجاوزها أو اهمالها، سيؤدي لا محالة إلى فقر المنجز المعماري المطلوب. علينا التذكير، أيضاً، بأن مصمم بوسطن سيتي هول، هو الآخر، وجد في استراتيجيات التناص، أداة مؤثرة ساعدته لإحراز حلول تصميمية مميزة لمبناه. فكثر من النقاد، أشاروا في هذا الصدد، إلى مبنى “لو كوربوزيه” “الدير الدومنيكاني لا توريت” (1957-60) La Tourette بالقرب من ليون في فرنسا، بكونه مصدر الهام لعمارة مبناه؛ ما يؤكد مرة آخرى صوابية مقولة “بارت” التي أوردناها سابقاً، من أن “ليس من ثمة للابداع”. بل ويذهب بعض النقاد بعيداً في هذا الشأن، باشارتهم إلى أن “ليس من ثمة إبداع مبتكر، إنما هناك مبدعون مبتكرون”.

ولسنا، هنا، في وارد السجال حول مصداقية هذه المقولة من عدمها. ولكننا وددنا الاشارة، بأن الأفكار الابداعية، حالما تظهر في الخطاب أو في المشهد، تضحى ملكاً للجميع. يعاد قراءتها وتأويلها، ويعاد إدراكها وتوظيفها. تماماً، كما أشار سابقاً إلى ذلك، أيضاً، “أبو عثمان عمرو الجاحظ” (773-867م)، في كتابه من إن “المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي. وإنما الشأن، في إقامة الوزن، وتخيـّر اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع، وجودة السبك…” (كتاب: الحيوان، ج. 2، ص. 131). وهذه اللقى “الفكرية” المركونة على قارعة الطريق، المنظورة من قبل الجميع، والمشاعة والمتاحة للجميع، بمقدور كائناً من كان، أن “يلتقطها”، ويدرك معانيها، ودلالاتها، بإعادة قراءتها، وفقاً لنوعية ثقافته، وانسجاماً مع ذائقته الفنية.

والأمر الثابت، إن مبنى وزارة التجارة، قد أضاف الكثير الى سجل عمارة الابنية الادارية العراقية، وأضحت هيئته المميزة، المبنية على درجة عالية من الكمال التنفيذي، مثالا لمبانٍ عديدة، استلهمت “إميجها” المعماري من مبنى وزارة التجارة، وخصوصاً في قرار التقسيمات الثلاثية للواجهات، التي دأب المكتب على تكريسها في المشهد المعماري المحلي.

في عام 1974، يشرع المكتب في تصميم مبنى “مديرية الشرطة العامة” (وزارة الداخلية لاحقاً)، في الرصافة ببغداد، بموقع خصصت مجاوراته، سابقاً، للكثير من دوائر الشرطة. إن ارتفاعه العالي نسبياً (يصل إلى ارتفاع 14 طابق)، ومساحة فضاءات إشغالية فسيحة (حوالي 30000 م2)، تجعلان منه ومن عمارته حدثاً مؤثراً في أحداث تصاميم الأبنية الإدارية المحلية. في عمارة مبنى وزارة الداخلية تحضر، أيضاً، التقسيمات الثلاثية، لكنها تحضر، هنا، بتنطيق خاص يشي بمقدرة المعمار وبعلو كفاءته في التعاطي مع أطروحته التصميمية بكثير من الإبداع الحافل بالحداثة، تلك الحداثة التي تسعى بمفرداتها المنتخبة، إلى التعبير عن خصوصية المكان وثقافته البنائية. وهنا، كما في بقية المباني المصممة من قبل مكتب هشام منير، يغدو الانشاء، الانشاء المبدع والجريء والأنيق، عاملاً إضافياً في إكساب عمارة المبنى خصوصيتها المتفردة والمميزة.

لا تنشد هذه الدراسة، تعقب جميع أعمال “مكتب هشام منير ومشاركوه”، وتناولها تصميماً وراء تصميم، لجهة إنجاز مجموعة توثيقية “للأعمال الكاملة” للمكتب. ليس هذا ما تبتغيه، رغم أهمية وضرورة هذا النوع من الإبحات وآنيتها، في توثيق تنويعات المنجز المعماري الحداثي العراقي. فمثل هذا النوع من الدراسات، الذي يفتقر، مع الأسف، الخطاب لوجودها، يعتبر أمراً ضرورياً ولازماً لاجتراح أعمال بحثية رصينة تتناول عمارة الحداثة في العراق وتقيمّ انجازاتها.

فنحن، (ومع الأسف مرة ثانية، وثالثة!)، ما انفكينا لا نعرف، الكثير عن إبداعات هذا المنجز الهام :لا نعرف، ولا نكترث بمعرفة، مواقع وأسماء كثير من المباني الرائعة التي شكلت متناً إبداعياً مرموقاً أثرى بأمثلته “البراديمية” Paradigm نسيج فضاءات مدننا العديدة. كما أننا، لا نعرف، ولا نكترث، بمعرفة أسماء مصممي تلك الروائع المعمارية، ومقارباتهم التصميمية، بل وهذا، هو الأهم (والتراجيدي، أيضاً، في الموضوع!)، لانعرف، ولا نكترث، بمصائر كثر من أؤلئك المصممين البارعين ومآلات مسار حياتهم وظروفها، هم الذين أغنوا بيئتنا المبنية، بشواهد معمارية، باتت نماذجها “أيقونة” بصرية للكثير من مدننا، ناهيك إلى تحولها في كثير من الأحيان، إلى مرجعية تصميمة هامة ومؤثرة. بيد أني، سوف لن أستطرد في الحديث كثيراً عن جوانب هذه الأشكالية المهنية الموجعة، مدركاً أن مكانها، ليس هنا بالطبع. لكن التغاضي عن تأثيراتها وتجاهلها كثيراً، وإقصائها من الخطاب، سيفضي، من دون ريب، (إن لم يكن قد أفضى!) إلى نتائج كارثية، ستطول النشاط المهني التطبيقي والنظري المحليّن على حدٍ سواء. تتطلع هذه الدراسة، إذاً، إلى تناول مختارات محددة من منتج مكتب هشام منير، للتدليل على غناء ذلك “الريبرتوار” الغزير وتنوعه؛ عن ذلك المنتج الحداثي والهام مهنياً على المستوين المحلي والاقليمي. إنها “انطولوجيا” مقننة، تلزمها طبيعة هذه الدراسة ومناسبتها، التي أُريد لها أن تكون مكثفة، ومحددة.

في سنين السبعينات، اهتم مكتب هشام منير ومشاركوه في إعداد تصاميم لمجمعاتComplexes أبنية متنوعة الوظائف، غير مقتصرة على مبنٍ منفرد، وعلى وظيفية أحادية. بالطبع لم تكن هذه التجربة التصميمية غريبة عن نشاط المكتب. إذ أنه ساهم بالتعاون مع مكاتب استشارية عالمية، في العمل على مثل هذه الممارسة من قبل. لنتذكر تعاونه مع مكتب “تاك” في العمل على مجمع جامعة بغداد في الستينات، وكذلك تعاونه مع مكتب “وايتنغ اسوشيتيس انترناشينال” في المركز الطبي ببغداد وغير ذلك.

لكن ما تم في السبعينات، أو بالأحرى في سنين منتصفها، هو شروع المكتب وإقدامه على إعداد وإنجاز مثل تلك المجمعات التصميمية؛ مثل “المجمع الزراعي” (1975) في بغداد، و “مجمع شركة إعادة التأمين العراقية” (1976)، في بغداد أيضاً، و”مجمع الصباح الدولي” (1976) في الكويت، وغير ذلك من المجمعات. صحيح أن غالبية تصاميم تلك المجمعات، لم تنفذ بالكامل، (منها نفذ جزئياً، ومنها لم ينفذ بالمرة)؛ إلا أنها أبانت بشكل واضح قابلية المكتب ومقدرته المهنية للتعاطي مع الإشكالات التصميمية لتلك المجعات البنائية الضخمة ذات المواضيع الوظيفية المختلفة.

مثلت موضوعة “السكن” الوظيفية الأساسية لمجمع الصباح الدولي (1976) في العاصمة الكويتية. وهي موضوعة لم تكن شائعة في أعمال المكتب. لكن الحل التصميمي لها يثير الاهتمام، لجهة معالجة واجهاتها. ثمة كتلتان بارتفاع 14 طابق ممتدان تشكلان هيئة رقم (7) بالعربي، تطلان على شارعين مهمين. وبجوارهما ثمة برج يصل ارتفاعه إلى 20 طابق. وهاتان الكتلتان تحددان فضاءات خلفية، تم توظيفهما لوظائف ترفيهية وخدمية خاصة بساكني المجمع. وتصل المساحات البنائية الكلية للمشروع إلى حوالي 50500 متراً مربعاً.

لا يود معمار المجمع أن يكتفي بآلية تنطيق وظيفة احياز المبنى واجهاتياً. ولهذا فهو يتجنب عكس موضوعة المبنى السكنية في تكرار إيقاعي ربما يولد الملل. صحيح أن الوظيفية الأساسية للمجمع تفرض عليه “قرار” التكرار؛ لكنه مع هذا، ينزع إلى الأشكال النحتية والفنية لكتله، أملاً، في اجتراح شكل جديد لعمارة الأبنية السكنية. فهو يسعى، عند البرج العالي، إلى خلق كتل “ثانوية”، يضيفها إلى “جسد” الكتلة الأساس. وعند الكتلة الرئيسية الممتدة بجانبي الشارعين، ثمة توق واضح، لإضفاء الطابع الفني على معالجة واجهاتها. والأمر المؤسف، هو أن هذا المجمع لم يكتب له التنفيذ، مع أننا نعتقد بأن تحقيقه، كان يمكن أن يضيف الكثير إلى بيئة العاصمة الكويتية المبنية.

قد لا يكون مبنى “أمانة العاصمة” (1978)، المصمم من قبل مكتب هشام منير ومشاركوه، من خيرة تصاميم المكتب، لكنه، بالتأكيد، من أهمها. وهذه الأهمية يستمدها المبنى من كونه مقراً لإدراة شؤون العاصمة، ورمزاً معمارياً لها، ويستمدها أيضاً، من وسع فضاءاته المصممة وكتلته الضخمة التي يصل ارتفاعها إلى تسعة طوابق. ومعلوم، أن المبنى موقع في منطقة “العوينة” في الرصافة ببغداد، وهي ذات المنطقة التي أُختيرت في الخمسينات، لتكون موقعاً “للمركز المدني” للعاصمة العراقية. وفي موقع هذا المركز المفترض، (والذي أبدى فرنك لويد رايت، ملاحظاته في حينه، على تصميمه الحضري، هو الذي تم اقتراحه من قبل معماريين عالميين ومحليين، أذكر منهم “فخري الفخري”)، صمم آلفار آلتو، المعمار الفنلندي والعالمي المشهور، متحفه البغدادي: متحف الفنون الجميلة (1957-58). والذي لم يتم تنفيذه وقتذاك، بسبب التغييرات الدراماتيكية التي طرأت على الوضع في العراق أثناء أحداث تموز 1958. بيد أن الأمر الطريف في الأمر، هو أن هذا التصميم البغدادي قد تم تنفيذه، وبتنقيحات قليلة،، في إحدى المدن الدانمركية سنة 1964. لكن هذه قصة آخرى.

ينبني المخطط التكويني لمبنى “أمانة العاصمة” على وجود نواة مركزية، هي فناء وسطي، تحيط بها فراغات المبنى من جهاته الأربع. وقد استطاع معمار المبنى بخبرته التصميمية الواسعة، وتمكنه المهني الاحترافي، أن يوزع فراغات المبنى بصيغة عقلانية، تتماشى مع طبيعة الوظائف التي يؤديها. ولكوّن المبنى يقف طليقاً في موقع مكشوف وفسيح، ولكوّن الوظيفة الاشغالية للمبنى متشابهة نوعاً ما، وهي الفعالية الإدارية، فإن المصمم ارتأى أن يكون قراره التصميمي معتمداً أساساً على تماثل المعالجات الواجهية لمبناه بشكلٍ عام، مع بعض التغييرات الطفيفة التي تحتمها خصوصية كل واجهة من الواجهات المصممة. لكن هذا القرار، لا يعني البتة إهمال المصمم ولامبالاته لكيفية تنطيق تلك الواجهات. بل بالعكس، إذ أنه يولي اهتماماَ كبيراً لاجتراح لغة تصميمية، يطمح أن تكون معبرة، تراعي من جهة، الخصوصية الرمزية التي تشكلها عمارة المبنى، ومن ناحية أخرى، تظهر سعيه الدؤوب باتجاه أن يكون مبناه حاضراً حضوراً بليغاً في الموقع، جنباً إلى جنب المباني المجاورة له، والتي قد تجاوره مستقبلاً. وهو إذ وقع تحت تأثير هذين العاملين، فقد تبدى له مشروعية توظيف بعض المفردات البنائية التقليدية في صياغة واجهات المبنى. والحال، إن نتائج مقاربته تلك، أثارت نوعاً من الالتباس، انعكس تأثيراته على الناتج النهائي لمعالجة الواجهات.

فالمعمار الذي ما فتئ يحرص على عدم نسيان قناعاته التكوينية (رغم أن الزمن قد تجاوزها بشكلٍ وبآخر)، يسعى وراء “خلق” “توليفة” تصميمية، بمقدورها، وفقاً لرؤاه، أن تجمع الحديث والقديم . فواجهات مبنى “أمانة العاصمة” تبدو وكأنها “تهتف” (إن لم تكن “تصرخ!”) بتمجيد “الثلاثية”: التقسيمات الثلاثية إياها. هي التي لا يود، كما يبدو، معمار مبنى الأمانة، أن يتنازل عنها، أو يتغاضى عن استخداماتها. إنها بالنسبة إليه “لازمة تصميمية” مقتنع بجدواها، ومؤمن بمصداقية تأثيراتها.

لكن هذه التقسيمات الواضحة والصارخة، تُقطع فجأة بحضور عقد أجرى، ذي قوس مدبب، يمتد بطوله العالي على سطح الواجهة الأمامية/الغربية، ليصل تخوم “تاج” المبنى وقسمه العلوي. وواضح أن المعمار ينشد بوجود هذا العقد التذكير بخصوصية ثقافة المكان، مع إمكانية الحصول على إحساس بحضور “الرسمانية” Monumentality لمبناه.

بالطبع إن فعالية تآلف القديم مع الجديد معمارياً، كانت دائماً تعد فعالية مطلوبة ومفيدة تصميمياً. بيد إن نجاح توظيفاتها، كان منوطاً، أيضا ودائماً، في أمر التأويل، وإعادة القراءة للمفردات التي يتمظهر ذلك القديم، أو هذا الجديد. وهو ما يتطلب بالضرورة اللجوء إلى الترميز، حتى تتم عملية التآلف المرجوة بصورة سلسة ومقنعة. عدا ذلك، تتبدى المؤالفة المرجوة عملاً مقحماً، لا يمكنه بأي حال من الأحوال، أن يثري الخطاب. لسبب بسيط، وهو إن استدعاء المفردة التصميمية بهيئتها التشكيلية المحددة، لا يدل على معيار الانتماء. سيظل ذلك يعتبر محض مَعارَضة “باستيشية”Pastiche . يتعين، في هذه الحالة، إسباغ تأثيرات “المخيلة” عليها لجهة اجتراح الإبداع. أي بمعنى آخر، حضور التأويل. في هذا الصدد، تبدو كلمات “أدونيس” محقة تماماً، عندما كتب مرة، من أن “الابداع الذي تتمثل فيه الهوية، حقاً، لا تحركه الذاكرة بقدر ما تحركه المخيلة. المخيلة هي التي تفتح باب الانتماء إلى المنجز الإبداعي، الإنساني فيما وراء القوميات والثقافات… وفي المخيلة، قبل هذا كله، يكمن جوهر الانتماء إلى الذات، في حركتها الخلاقة” (جريدة الحياة اللندنية: 13/ نيسان-2006). ما نشاهده في واجهات مبنى “أمانة العاصمة”، هو في الواقع، سوء عاقبة اكتفاء المصمم واقتناعه بقوة “الذاكرة”، على حساب استشفاف “المخيلة”، إذا استعرنا كلمات المعجم “الأدونيسي” في وصف تلك الحالة.

ومع هذا، فإن عمارة مبنى “أمانة العاصمة” ما برحت محتفظة برصانة هيئتها، وبصدقية قراراتها التصميمية، المتكئة على بلاغة التكوين، وحسن التفاصيل. ومع أن المبنى لم يشهد صيانة عامة (بالمعنى المتعارف عليه لهذه الكلمة)، طيلة عقود من السنين؛ فإنه لازال محتفظاً برهافة عناصر شكله، ومتانة كتلته ونظافتها، مبرهناً في الوقت ذاته، على صوابية اختيار مواده الإنشائية، وحسن اصطفاء مناطق عمل تلك المواد. وهو الآن، يبدو، بموقعه الفسيح، ضمن مشهد الفضاءات المفتوحةLandscape ، ذي المقاييس المتفردة، كنموذج تصميمي مكتمل، لما يمكن أن تكون عليه العمارة، مضافاً لها جهد تنسيق الفضاءات المفتوحة. وهو نموذج، ماانفك، يحتفظ بريادته وأهميته العالية ضمن مفردات التصميم الحضري للعاصمة العراقية. جدير بالاشارة، أن مكتب هشام منير، سبق وأن قدم في السبعينات، تصميماً حضرياً جديداً “للمركز المدني” في العوينة، وعلى أساسه تم تثبيت موقع مبنى أمانة العاصمة إياه.

في مبنى “عمارة منير”، المطلّ على شارعي الإمام الأعظم، وطه، بالوزيرية، والمصمم في الثمانينات، بدا وكأن مكتب هشام منير، يطرح مفهوماً خاصاً لثيمة النقاش المهني الذي دار على نطاق واسع وقتذاك، حول مفهوم “الهوية” المعمارية، ودور “التراث” فيها. ومع تواضع مقاسات كتلة المبنى (ثلاثة طوابق مكتبية علوية، مع طابق أرضي مخصص للعرض التجاري)، فإن المعمار استطاع أن يثير انتباه كثر من المهنيين بقراءته قراءة خاصة لتلك الثيمة المثيرة للجدل. مقترحاً علينا حلاً تصميمياً لافتاً، يعتمد على قرارات إجرائية مقننة، ومواد إنشائية معروفة وشائعة. إذ تتحول خصائص الطابوق، المادة الأكثر شيوعاً في الممارسة البنائية المحلية، وكذلك الخرسانة، المعروفة جيداً في تلك الممارسة، (وهما المادتان الأساسيتان المستخدمتان في المبنى)، تتحولان في يد المعمار إلى أداة قادرة على اجتراح جماليات المبنى المعبرة، وشكله الحداثي المميز.

ثمة بساطة متناهية، تحفل بها معالجات المبنى التصميمية، تتأسس من فعل إعادة قراءة الموروث البنائي المحلي، ومن فعالية تأويل مفرداته. وهذه البساطة تتأتى، أيضاً، من تأثير السطوح الآجرية الصلدة الملساء، “المحفور” بها فراغات العقود الإيقاعية، وأشكال أقواسها المميزة. ويتعزز الشعور بحضورها، حضور تلك البساطة، جراء حذاقة العمل الإنشائي الاحترافي، والتعمد في إبقاء القطع الإنشائية الخرسانية عارية. وبالتالي، فنحن أزاء بساطة آسرة، إنها البساطة التي تشي بالوضوح، الوضوح الدال على الصفاء، الصفاء الموحي بالجلال، هو الذي يسم هيئة المبنى بجمالية محببة، تتقبلها ذائقتنا، ويتمتع بها بصرنا. والمبنى، أخيراً، أحد المباني التي تبين قدرة معماري المكتب على إعادة ابتكار المشهد المديني لحواضرنا، وإثرائه بنماذج تصميمية بارزة.

لا يمكن الكلام عن عمارة ، من دون الحديث عن “هشام منير” ذاته: المنظم الرائد، والمعمار، والمعلم والمثقف. هو الذي ما فتئ، مثلما كان في السابق، مهموماً بقضايا العمارة، (العمارة العراقية على وجه الخصوص)، إنجازاً وتعليماً وانتشاراً. لقد كان حريصاً على اجتراح انفتاح أنموذجي على كل ما هو جديد وحداثي وطليعي في الشأن المعماري. ولعل حراكه المعرفي الجاد المتمثل في تقصي وبناء علاقات مهنية متكافئة مع خيرة دور الاستشارة العالمية، وأكثرها تميزاً في المشهد، أثمر بنقل تقاليد وخبرة تلك الدور، ونجاحاتها التصميمية إلى الممارسة المهنية المحلية. طامحاً في الحصول على قدر أمثل من الانتاج والابداع المعماريين، للمشهد المحلي، كما الإقليمي.

لكن سعيه هذا المفيد والضروري مهنياً وحضارياً، وقناعته بأن هوية “الذات” المعمارية، لا يمكن لها أن تتجدد بدون شبكة علاقات تربطها مع “ذوات” معمارية آخرى، لم يكن شأناً، دائماً، مفهوماً أو مرحباً به، في ذلك المجتمع المغلق، الذي قدر له أن يعمل فيه. الأمر الذي عرضه للشبهات وحتى الشكوك. وأفضى، أخيراً، إلى اعتقاله، ظلماً، أيام النظام الشمولي البائد. لكن ما أرساه هشام منير (مع زملائه المعماريين الآخرين) في هذا الشأن، وما تمخض عنه من نجاحات ملموسة ومرموقة، شهدتها الممارسة المعمارية المحلية في السنين الماضية، يدلل على مصداقية تلك الاطروحة، التي نشد هشام إلى إرسائها. ذلك لأن نتائج غيابها المتعمد والقسري، الآن، كما في عقود ماضية، كان كارثياً ومفجعاً على مسار العمارة العراقية ومآلاتها.

لا تتأسس أهمية هشام منير، بكونه معماراً أو منظماً رائداً للعملية الانتاجية المعمارية فحسب، وإنما تتأسس أيضاً، بكونه “معلماً” قديراً للعمارة. هو الذي ساهم مع زملائه العراقيين الآخريين في تأسيس أول مدرسة معمارية عراقية عام 1959. وانخرط في العملية التدريسية أستاذاً لها (وأحياناً رئيساً لإدارتها)، منذ نشوئها وحتى الثمانينات. وعلى امتداد تلك الفترة، أهل هشام أجيالاً من المعماريين العراقين، هم الآن عماد النهضة المعمارية للبلد، ولكثير من بلدان الشرق الاوسط، وحتى بلدان عديدة في هذا العالم الفسيح، حيث يتواجد تلاميذ هشام منير. إنهم، ماانفكوا يتذكرون، بامتنان، جهده الدؤوب في ترسيخ معارفهم المعمارية الجديدة وقتذاك، عبر أسلوب تعليمه المميز، المتسم دوماً (كما أعرفه، شخصياً، من مزاملتي له كاستاذً في القسم لسنين) بالإيجاز، والوضوح، وسهولة إيصال المعلومة المعمارية، ورصانتها، ومصداقيتها العالية، وجدتها، وبالطبع فائدتها للمتلقي: وهم أساسا،ً طلبة القسم المعماري في كلية الهندسة بجامعة بغداد.

وكمثقف مهم، ارتبط اسم هشام منير في ترسيخ إحدى تنويعات المنجز الثقافي العراقي، وهي عمارة الحداثة؛ التي شكلت نماذجها المصممة، (وتشكل الآن) خيرة شواهد البيئة المبنية المحلية. كما أن انجازه الإبداعي، عّد دوماً، بمثابة إضافة فنية شديدة التميز. لكن هذا المثقف المرموق، متعدد الاهتمامات، لم يحظ برعاية واهتمام بلده؛ هو المقيم، الآن، بعيداً عنه. بل أن الموجع في الأمر، إن “ثمانينيته” مرت قبل عام، من دون أن يتذكرها أحد في وطنه، أو يحتفي بها. والأنكى في كل ذلك، أن الطبقة المسؤولة عن الثقافة الآن، لا تقدر، أو في أحسن الأحوال، لا تحسن تقدير قيمة ما أنجزه هشام منير وآخرون معمارياً.

ثمة جحود غير مبرر، وعدم مبالاة غير مفهومة بالمرة، يبديها عراق اليوم، مثلما، أيضاً، أبداها عراق العقود الماضية، تجاه أبنائه المبدعين، هم الذين رفعوا من شأن بلدهم عالياً، وأرسوا نهضته الحداثية بكل تجليات أجناسها الإبداعية المتنوعة. وهو ما يضيف وجعاً آخراً إلى آوجاع تلك النخبة الإبداعية غير المحظوظة، جراء هذا العقوق اللامسوغ، الذي يظهره ذلك “الوطن”، الذي لا يكف عن إنتاج حكاياته المؤلمة والتراجيدية، والتي يبدو أنها لا تريد أن… تنتهي.

وإذ نحتفي بك اليوم، أيها المعمار المجد، نحن كثر من زملائك وطلابك، فإننا وددنا أن نعبر عن امتناننا لك، وأن نذكرّ الجميع، وننوه للجميع، بأن منجزك المعماري الهام، مابرح يمثل قيمة عالية للجميع، وخصوصاً للمعماريين، لمهنيته الرصينة، ولحداثته الممّيزة، المثري للخطاب وللمشهد على حدٍ سواء!..

عمراَ مديدا لك: أيها المعمار!

د. خالد السلطاني مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون

الصور: 1- قصر السلام، بغداد ، 1964. 2- بلدية بوسطن، ماسوشيتس، امريكا، ووزارة التجارة، ساحة الخلاني، بغداد. 3- وزارة الداخلية، بغداد، 1974. 4- المجمع الزراعي، بغداد، 1975. 5- مجمع الصباح الدولي، الكويت، 1976. 6- مبنى امانة العاصمة، العوينة، بغداد، 1978. 7- عمارة منير، شارع طه، الوزيرية ، بغداد.

إقرأ ايضًا