عمارة ما بعد الحداثة؛ القطيعة …والوصال

148

نعترف أن عنوان مقالنا يشي بمفارقة لغوية؛ مفارقة تعكس بوضوح تناقض حالة “عمارة ما بعد الحداثة” –Post Modernisim Architecture وظاهرتها الموهمة للصحة. ولئن أدرك البعض تلك الظاهرة بكونها قطيعة مهنية (ومعرفية أيضاً) لما كان مألوفاً وشائعاً قبلها، فإن الوصال مع ذلك “الكان” يبدو للآخرين شأناً مقبولاً وسائغاً، وهو ما يجعل المصطلح إياه مثقلاً بالتناقض ومتسم على مفارقات جمة. بمعنى آخر، تتعايش في ظاهرة القطيعة والوصال معاً، إنها حقاً لمفارقة، لكنها مفارقة واقعية..أيضاً.

لكن ما “عمارة ما بعد الحداثة” أصلاً؛ ولماذا كل هذا التناقض الذي تحمله بين طياتها؟ يتعين الإقرار بأن ثمة صعوبة في تحديد مفهوم عمارة ما بعد الحداثة، ومرد هذه الصعوبة، يتأتى أساساً من غياب تخوم واضحة تؤطر هذه الفعالية، على عكس الخصائص المحددة للطرز المعمارية السابقة..والمألوفة، فمفهومها ليس فقط لا يماثل المفاهيم التكوينية المؤسسة لتلك الطرز الأخرى، بل إنه يختلف عنها في أسلوب إفصاح جوهره المعماري، في طريقة الكشف عن كنهه وماهيته، صحيح أنه محدد بمصطلحه؛ ولكن حدود هذا المصطلح ملتبسة وغامضة ومتداخلة وغير واضحة، ما يجعل منه ليكون بمثابة “منظومة” مفاهيمية، أكثر بكثير من مفهوم تصميمي معين ومحدد وملموس.

يرجع ظهور مصطلح “عمارة ما بعد الحداثة” إلى الناقد الأمريكي “تشارلس جينكز” Ch. Jenks في كتابه (لغة عمارة ما بعد الحداثة)؛ الذي بات منذ صدوره سنة 1977، من كلاسيكيات مراجع العمارة إياها، وأريد بنحت هذا المصطلح إظهار وتوضيح النزعات المعمارية التي نبعت في الستينيات وما بعدها ، بالضد من سطوة عمارة الحداثة و”عقلانيتها”، تلك العقلانية التي سعت دوماً وراء استبعاد توظيف الأشكال التاريخية القديمة، والداعية إلى استنكار استخدام العناصر التزيينية غير المبررة وظيفياً في المنتج المعماري الحداثي.

ولئن اتصفت مسارات التطورات المعمارية السابقة على نمو انسيابي وتدريجي، فإن التحولات التي آلت إليها المقاربات المعمارية المعاصرة انطوت على “طفرات” أسلوبية حادة.

ويشبه أحد النقاد المعماريين الإحداث التي شغلت العمارة المعاصرة وأساليب تحولاتها والتي إفضت إلى بزوغ مفاهيمها الجديدة، كمثل شخص راكب سيارة، تجوب به في طرق مختلفة من أرض مستوية إلى مناطق متموجة، وأخرى جبلية، لكن السيارة تظل في الأحوال كافة، صالحة لإنجاز مهام السير في تلك الطرقات، إلى أن يعترضها نهر –يقتضي عبوره تغيير وسيلة الركوب والانتقال من السيارة إلى وسيلة عبور أخرى إلى ما يشبه الزورق، أو السفينة لتحقيق مهام العبور، فالأساليب والحركات المعمارية المعاصرة هي الآن بمثابة زورق، لا علاقة له بتاتاً بما كان مألوفاً ومستخدماً في السابق.

قد يبدو المثال السابق منطو على مبالغات واضحة، بيد أن مما لاشك فيه، بأن مجمل ما حصل في الممارسة المعمارية المعاصرة اتسم على متغيرات جذرية سببها التبديل الذي طرأ على مفهوم العمارة ذاتها. فبينما كان الهدف الأساس للنتاج المعماري على مدى قرون هو الاقتراب أكثر فأكثر من مركز العمارة، وإدراك القضايا الأساسية النابعة منها، بدأت العمارة المعاصرة، متأثرة بالتحولات الحاصلة في حقول المعرفة الأخرى، بتوسيع اهتماماتها عبر التعاطي من محاولة إدراك دواخلها، ومركزيتها، إلى محاولات فهم حدودها وتخومها.

يشار إلى كتاب “روبرت فنتوري” (1925) Robert Venturi “التعقيد والتناقض في العمارة” (1966) (Complexity and contradiction in Architecture)، كحدث مهم في مجرى التطورات التي شهدتها الممارسة المعمارية المعاصرة، إذ عد نص ذلك الكتاب كمؤشر واضح لميلاد مفاهيم معمارية نظرية جديدة، تخالف المناهج المعمارية السابقة وتعارض تطبيقاتها البنائية، فالكتاب المكتوب بلغة أكاديمية رصينة والمنطوي على تحليل نماذج معمارية كثيرة، مستقاة من تطبيقات الممارسة المعمارية الماضية أو من الممارسة الحديثة، هذا الكتاب يسخر من شيوع توظيفات مفاهيم معمارية بعينها في الخطاب التصميمي الحديث، وبالأخص استخدامات الثنائيات (أو بالأحرى المقابلات التقليدية)، والفرز الأحادي ونقاء الانتماء الأسلوبي؛ منادياً في كتابه إلى أهمية التعاطي مع أطروحة تصميمية جديدة اختزلها بحرفي “عطف” هما: “و” و “أو”، طارحاً فكرة تصميمية جديدة تعتمد على مبدأ تجميع الأشياء بدلاً من الاقتصار على فكرة التفاضل فيما بينهما؛ أي استثمار “و” الجديدة، بدلاً عن التمسك بموضوعة “أو” السابقة، إذ وضع فنتوري جواباً لتساؤل قائم “بأن يجب هذا (و) ذاك” من العمارة، عوضاً عن الأطروحة السابقة “إما هذه (أو) ذاك”، فالقضية بنظره ليست خيار ما بين أبيض وأسود، وإنما يكمن في محصلة إمكانات الجواب الذي يمكن أن يكون: أبيض (و) أسود، ورمادي أيضاً، وإذ طبق “روبرت فنتوري” أطروحاته على العمارة وصل إلى نتيجة أساسية بأن كل ما أنتج في العقود الماضية، وما تعودنا عليه، وما ألفناه، هو بسببب هذه الـ “أو” بدلاً من الـ “و”، وما أدى لأن تكون عمارتنا أحادية المعنى، نقية، ووظيفية بحتة، وبالتالي فإن معالجات وحلول تلك العمارة اتسمت على قدر كبير من الانقطاع والغربة والتنصل عن مشاكل الحياة وأساليبها المعقدة والمتناقضة، وعن طريق ممارسة توظيف “التعقيد والتناقض” في القرار التصميمي، ربما تحل إشكالية العمارة مقطوعة الصلة عن الواقع المعاش!

يكتب أحد النقاد المعماريين بأن “ظاهرة ما بعد الحداثة” والتي راجت اعتباراً من نهاية الستينات، والتي عبرت عن التنوع والتعقيد من خلال التهكم والسخرية والتبسيط والدعابة وكذلك من خلال علاقتها الإيجابية بالتاريخ والثقافة اليومية، إن تلك الظاهرة ما كان يمكن لها أن تحضر في الخطاب المعماري، من دون أطروحة “روبرت فنتوري” النظرية، ورسومه التخطيطية السريعة!

لم تكن تلك الطروحات وليدة تداعي أفكار منعزلة عن ما كان يجري في المشهد الثقافي العالمي إبان عقدي الستينيات والسبعينيات، فالملاحظ تنافي الإحساس بالنفور وعدم الرضا، ضد دوغماتية الأفكار المعمارية السابقة وتوجهاتها، ورأى كثر من النقاد بأن على العمارة مواكبة إيقاع المتغيرات التي تشهدها الثقافة المعاصرة، وإلا ستبقى أسيرة الأفكار القديمة والانقطاع التام عن الواقع والحياة.

لقد انعكس التنوع الحاصل في المجالات الثقافية على الناتج المعماري وعلى اهتمام المعماريين، وهيمنت التعددية pluralism في الأعمال المعمارية، واستوعب الخطاب المعماري المعاصر اتجاهات مختلفة الواحدة عن الأخرى.

ورأى بعض النقاد بأن التعددية ما هي إلا تعبير عن تنوع الأحداث المؤثرة في العمارة وما حولها، أو هي حرية جديدة تنطوي على ممارسة ديمقراطية، تسمح لكل معمار أن يعمل ويصمم كما يروق له، وهو أمر لم يكن بمقدور العمار أن يفعله سابقاً، إنه يعيش في عالم حر ولهذا فهو تعددي! وفي الأخير فإن التعددية تعني التنوع، والاختلاف، والوفرة، والثراء.

من الملاحظ، إن التغيير الحاصل في الممارسة المعمارية كان نتيجة أسباب، غالباً ما تكون ضمن نطاق اهتمامات العمارة وانشغالاتها، لكن المتغيرات السريعة التي طرأت على حقول المعرفة المتنوعة الأخرى، وفي الأونة الأخيرة، أمست باعثاً للتحولات السريعة في الطروحات المعمارية ذاتها، ويعني هذا بأن المتغيرات المعمارية الحالية لم تكن بواعثها من داخل العمارة، أو من نطاقها المهني، وإنما بدواعي مواضيع بيعيدة جداً عن اهتمامات العمارة ومجالها، ومن تلك المواضيع مثلاً: -التطورات العلمية الحاصلة في مجال الكومبيوتر وأنظمة البرمجيات، والاستفادة من أحدث تقنيات محاكاة الكومبيوتر computer simulation للقوى الفيزياوية والبيئية التي بإمكانها التأثير على مبنى معين؛ وكذلك –الإفادة من العلوم الجديدة كعلم الكونيات الحديث cosmology، وما يسمى بعلوم التعقيد science of complexity، الأمر الذي نتج عنها اهتمام خاص بالحركة الموجية والتي أثرت بدورها على نشوء طروحات معمارية معاصرة كعمارة الأمواج واللويات waves and twists؛ فضلاً على –توظيف إنجازات المعلوماتية وتأثيرات العولمة؛ فسرعة الاتصال ونقل المعلومات بين أنحاء العالم، يجعل الأخير يبدو وكأنه عالماً متماثلاً.

بيد أن مثل هذا الشعور ينمي إحساساً بالاختلاف في الوقت ذاته، ويزيد من الشعور في تكريس خصوصية الأفراد، فبقدر حصول تجانس في البيئة الحضرية وطوبغرافيتها، فإن مثل هذا التجانس يخلق وعياً حاداً بخصوصية كل إقليم عن طريق زيادة الوعي بالاختلاف، وثمة مواضيع متنوعة أخرى، ساهمت جميعها في أن تكون محل اهتمام العمارة المعاصرة.

تم إدخال جميع تلك المفاهيم الجديدة المتنوعة والمتعددة تحت خيمة تسمية واحدة هي “عمارة ما بعد الحداثة” ويبدو أن تحديد هذا المصطلح وتوظيفه في أدبيات النقد المعماري، ساهم على ما ذذيبدو في إضفاء الطابع الرسمي لحضور تلك الحركات في المشهد المعماري المعاصر والتي بدأت باكراً منذ منتصف الستينيات، وازداد نشاطها وتأثيراتها رويداً رويداً لتشمل معظم تجليات الخطات المعماري المعاصر.

بتوقيع المعمار والأكاديمي الدكتور خالد السلطاني

إقرأ ايضًا