الخيارات الكونية لعمارة بغداد

75

لا تبدو التوجهات المعمارية لمدينة بغداد واضحة ومدروسة لأسباب اهمها ان محافظة بغداد و امانتها ووزارتي البلديات والسياحة و الآثار واي جهات مفترضة اخرى.. مازال كل هذه المؤسسات المعنية لم تحسم قراراتها بشأن من الذي يمكن الحفاظ عليه في بغداد ومن من الابنية و المعالم يمكن تغييرها او ازالتها؟ واين يمكن تشييد الابنية الجديدة و اللافتة والجاذبة؟ وكيف سيكون شكل بغداد المعماري في العام 2017؟.

بدايةً، على كل الجهات المعنية بعمارة بغداد ان تكون على قناعة بالعمل وليس بالرأي او الاحساس ان بغداد ليست مدينة منسية في العالم ولا هي عاصمة هامشية على مستوى العلاقات بين الدول ولن تكون مدينةً معزولة باي حال من الاحوال لسبب بسيط لأنها مدينة متأصلة ومهمة في حركة التاريخ القديم و الحديث للبشرية جمعاء، كما ان الاحداث السياسية الجسام التي مرت على بغداد وكانت سبباً في تصدع او تأخر او اهمال عمارتها، يمكن لهذه الاحداث و المحطات التاريخية الفاصلة ان تمثل انطلاقةً غير عادية و قاعدةً ابداعية على المستوى المعماري شريطة توفر معطيين الاول، اعطاء دور اكبر للمعماريين العراقيين في وزارة التخطيط و امانة مجلس الوزراء لتحديد ملامح وتفاصيل كل ما يشيد فوق الارض من مشاريع وابنية، فالاعتقاد العام السائد ان العمارة هي ابنية سكنية و مجمعات تجارية هو اعتقاد خطأ حتماً، فالعمارة هي الجامعات و المدارس و المساجد و الوزارات و المصانع و المرافق الخاصة بالزراعة و مقار منظمات المجتمع المدني و الرياضة و الفنون و المسارح و الانفاق وشركات القطاع الخاص وكل بناء في المجتمع. و الثاني، تأسيس مراكز ابحاث علمية معمارية وهذا مهم وحيوي لابتكار ما هو جديد وعبقري على مستوى النظرية المعمارية العراقية لأن الاعتقاد القائم ان العمارة البغدادية او العراقية هي عبارة عن تراث فحسب وان المطلوب هو احياء هذا التراث و استنساخه وهذا يمثل اعتقاداً خاطئاً آخر والصحيح ان العمارة العراقية يجب ان تتطور و ان تكون خلاقة لانتاج اشكال معمارية جديدة في العالم ككل وهذا ليس حلماً بدليل ان كبار المعماريين العراقيين الذين غادروا العراق الى الخارج يتحصلون على جوائز عالمية في مضمار العمارة الكونية اي عمارة المدن العالمية الكبرى لأنهم يستلهمون فكرهم المعماري من عراقيتهم و بغداديتهم.

المشكلة ليست في غياب الستراتيجيات المعمارية في امانة بغداد ومحافظتها و الوزارات المعنية فحسب بل ان المصيبة هو ان ما موجود يكرس العمارة الهامشية في بغداد الخالية من اي تصميم و ذوق معماري او ما يعزز الممارسة العشوائية للعمارة على طريقة ما يسمى بالعشوائيات اي تشييد ابنية متضاربة و متقاطعة مع بعضها ما يشوه المشهد الحضري للعاصمة بغداد و كلاهما معضلة يجب تداركهما و معالجتهما بمعنى ان الستراتيجيات المعمارية مغيبة لوضع خصوصية لافتة لبغداد تستحقها، كما ان التفكير بنقل بغداد الى ان تكون احد اهم العواصم المعمارية في العالم مغيب تماماً وغير وارد والكثير ربما يعتبره مستحيلاً.

يعني الانتقال الى خيارات كونية للعمارة في بغداد ان التخصيصات الاقتصادية و السياسية ستكون هائلةً من اجل عمارة كونية لعاصمة العراق وهذا مجال مطروح وقد يكون مفيداً لعملية جذب الاستثمارات ودعم السياحة والاهم ان هذه الخيارات ضرورية لعملية التنمية و ومشروع النهضة اذا رغب قادة القرار بطرح مشروع نهضة جدي و فعال. على المستوى المعماري، فان ما ابدعه المعماريون العراقيون في دول عالمية كبرى اضف اليه الكفاءات المعمارية الموجودة حالياً داخل العراق يرجح نجاح عملية الانتقال ببغداد عاصمة معمارية كونية وفي زمن قياسي كما هو حال مدن مثل فيينا او البندقية في ايطاليا او باريس او لندن او اسطنبول و بالتأكيد بغداد ليست اقل من هذه المدن ولكن يبقى هناك شرط اساسي وهو ان هذه النقلة مرهونة بقرار ستراتيجي وطني.

المثير للقلق، ان مشروع بغداد عاصمة للثقافة العربية العام 2013 يواجه الكثير من التلكؤ و التعثر بدليل ان اعادة ترميم شارع الرشيد انتقل من ترميم الشارع بالكامل الى ترميم جزء من هذا الشارع التراثي المعماري اللافت والممتد من شارع المتنبي الى الميدان و السبب هو ضعف التخصيصات المالية، كما ان هناك تدخلات غير معمارية ومن اكثر من جهة ما يثير التساؤل التالي: اذا كان الانتقال ببغداد و شارع الرشيد بحجمه المعماري المحدود يواجه كل هذه العقبات لتكون بغداد عاصمةً للعرب، فهل يمكن ان تنجح عملية الانتقال ببغداد لتصبح احدى عواصم العالم المعماريات؟!!

في صميم الحقائق الموضوعية، ان في كل قطاع من قطاعات العمل في العراق توجد محاولات لطمس عمارة بغداد و العراق بل طمس اي مشروع نهضوي عراقي على اسس علمية والشواهد كثيرة من بناء المدارس الطينية ومدارس نصف الهيكل الى تشييد الابنية العشوائية و عديمة الجودة وانتهاءً بعمليات اعادة الترميم التي لا تستند الى المنهج العلمي المعماري وهذا معناه ان غاية ما يجري هو بقاء مدينة بغداد وبقاء العراق موضع انتقاد او سخرية من الآخرين.

من الناحية الستراتيجية، يمكن للخيارات و التوجهات لبناء مدينة معمارية بمواصفات و ابعاد واهداف كونية في بغداد ان يشكل التحدي الجامع لكل التحديات والحل الجامع لكل المشكلات لأن شروط ومستلزمات وكل تفاصيل هذه المدينة لها صلات عضوية بمشروع نهضة العراق ليكون بلداً مؤثراً سياسياً و اقتصادياً و ثقافياً في العالم.

بصورة دقيقة، يعني بدء الانتقال الفعلي ببغداد الى خيار العمارة الكونية ان المواقع السياحية الكبيرة ومن بينها المواقع الدينية المقدسة ستكون قادرة على استقبال اضعاف الاعداد الحالية و هذا يشكل تطوراً في السياحة و مواردها، كما ان بناء نماذج عراقية بمستوى عالمي من المدن السكنية سيحل معضلتين، البطالة لأن عمل هذه المدن يحتاج الى قوة عاملة واسعة، كما ان مشكلة السكن ستحل اضف الى ذلك حالة الاستقرار النفسي و الاجتماعي المرتبطة بنجاح قيام ثورة معمارية اسكانية. ومن ناحية اخرى اكثر ستراتيجية، فأن الانتقال ببغداد الى مدينة كونية معمارياً في مرحلة التصاميم والتطلعات والممارسة يمكن ان

يقنع آلاف رؤوس الاموال ان يتقدموا بخطوات ملموسة للأستثمار وهي طريقة افضل و انجع من المؤتمرات التي تعقد في دول اخرى من اجل تسويق الاستثمار داخل العراق، فالكثير من رؤوس الاموال الدولية مهووسة بالتصاميم المعمارية الكونية التي تشيد عليها المشاريع المختلفة وفي المدن المختلفة.

وعلى صعيد مكافحة الفساد، فأن المشاريع الكونية منها المشاريع المعمارية الكونية تشكل بيئة خصبة لتقويض اسباب و حيل الفساد المالي و الاداري لأن هذا النوع من الاعمال يكون التركيز فيها على القيمة العظيمة التي ستجنيها الامة العراقية ويكون استخدام الاموال المرصود لها كاملاً وفعالاً ودقيقاً، اما المشاريع المحلية الضيقة و المشاريع الهامشية التي غالباً ما تتسم بالفشل مثل حفريات الشوارع واعادة تبليطها اكثر من مرة و اقامة النوافير بأعداد مبالغ بها ومشاريع اخرى فاشلة ومعروفة لا وقت لعدها، فهي تمثل مشاريع محلية محدودة الابداع لكنها تستنزف اموالا كبيرة وفرص التحايل تكون رحبة للفاسدين.

لكي يكون كل هذا الطرح وكل هذا الحلم واقعيا وقابلا للتحقق، تشير الاحصائيات في مملكة المغرب الى تزايد معدلات هجرة الاوروبيين الى المدن المغربية، الدار البيضاء و مراكش و طنجة والرباط .. وهذه المدن تتميز بعمارتها العربية الاندلسية وجزء كبير من الاوروبيين هم رجال اعمال ولديهم اموال كبيرة للاستثمار.

على المستوى العملي، يضم العراق آلاف المعماريين المبدعين و مئات المعماريين الكونيين الذين يعملون في اوروبا و كندا والولايات المتحدة واستراليا و دول الخليج العربي وهذا معناه ان عملية الابداع لتكون بغداد عاصمة معمارية كونية متاحة، كما تشير احصائيات وزارة النفط العراقية الى ان مبيعات النفط قد تصل بحلول العام 2017 الى اكثر من 150 الى 200 مليار دولار سنوياً، كما تؤكد بيانات مناخية عالمية ان العراق في غضون العشرة اعوام المقبلة سيتعرض الى موجة كبيرة من الامطار بسبب التغيرات المناخية على الارض وهذا معناه ان قطاع الزراعة امامه فرصة ضاربة للازدهار.. تبقى المعضلة المطروحة في عقول العراقيين ووجدانهم على حد سواء ملخصة بالسؤال التالي: هل الادارة على اختلاف مستوياتها ستقبل ببغداد احدى العواصم المعمارية الكونية؟

علماً، ان الادارة تمثل قادة القرار، الحكومة و البرلمان و الوزير و المدير العام و مدراء المؤسسات المعنية و مدير المشروع وبعض الموظفين المتنفذين، فقد ثبت ان الادارة بأنواعها هي المسؤولة عن تعثر اي مشروع تنموي او نهضوي في الدول النامية التي تملك موارد مالية نفطية اما في الدول التي لا تملك موارد نفطية وشهدت نهضة مثل سويسرا فقد عرفت تطوراً لافتاً في عمارتها و اقتصادها لأن الادارة بكل مستوياتها كانت فعالة ومبدعة وقد شقت طريقها الى التطور رغم شحة الموارد الطبيعية فيها، كما ان دول الخليج العربي الغنية بالنفط استوردت قيادات عالمية وعربية في الادارة لتكون كما هي عليه اليوم من ازدهار في القطاعات الاقتصادية المتعددة ومنها قطاع الاعمار و البناء.

وفي ارقى ما يتمناه كل عراقي، ان تكون في بغداد قيادة وادارة تستوعب هذه الافكار والاهداف الكونية وتدعم تطلعات وابداعات ومهارات المعماريين العراقيين وان تكون هذه القيادة قادرة على استخدام هذا التدفق في اموال النفط وعائدات القطاعات الاخرى.. وبعدها سيتم طرح السؤال التالي اي كونية ستحصل عليها بغداد؟.

إقرأ ايضًا