العمارة العراقية من 1980 إلى ما بعد 2003 ‏

178

‏‏للتغير السياسي الجذري الذي ‏حصل في نيسان العام 2003 ‏استحقاقات على مستوى العمارة ‏العراقية كما كان لهذا التغيير ‏استحقاقاته في ميادين اخرى في ‏الحياة الثقافية و العملية للمجتمع ‏العراقي.‏

يؤشر هذا الموضوع الى ان ‏العمارة العراقية واجهت العديد ‏من المشكلات على المستوى ‏العلمي والعملي في الفترة الممتدة ‏من 1980 و لغاية العام 2003 ‏وفي صدارة هذه المشكلات ان ‏مسيرة الفكر و النظريات ‏المعمارية في العراق توقفت او ‏تصدعت تماماً مبتعدة عن ‏مساراتها ومتطلباتها العلمية ‏المحضة و بالتالي اضطرت ‏الممارسة المعمارية تحت رزمة ‏من التدخلات السياسية و ‏الضغوط الاقتصادية الى التوجه ‏الى اختيارات لا تعبر بأي حال من ‏الاحوال عن عراقة و ابداع ‏المعماريين العراقيين والحضارة ‏العراقية عبر التاريخ.‏

بالتأكيد، سمح تدخل السلطة ‏السياسية التي تؤمن بحكم الفرد ‏الواحد بظهور نمط معماري جامد ‏وهو عسكرة العمارة وشخصنتها ‏ثم تطور الحال الى بروز عمارة ‏الصنم التي خصصت معالمها و ‏علاقاتها الشكلية لتمجيد حكم ‏هذا الفرد وتعظيمه، فكانت الكثير ‏من التصاميم المعمارية تجير ‏بايقونة حرفي (ص) و (ح) اي ‏صدام حسين ويكون الهدف ‏الرئيسي لهذه التصاميم فكراً و ‏تنفيذاً مكرساً و مسخراً لتوثيق ‏فترة حكمه، كما ان اكثر من ‏تسعين في المئة من الابنية ‏المشيدة في الفترة نفسها كانت ‏تعبر عن قسوة وشراسة ‏وجبروت هذا الحكم الشمولي، ‏فمثلاً جامع ام المعارك الذي سمي ‏بعد التغيير بجامع ام القرى، ‏صمم على فكرة الحرب التي ‏خاضها النظام الدكتاتوري السابق ‏مع المجتمع الدولي في العام ‏‏1991، كما ان المنارات ‏الموجودة فيه مثلت شكل فوهة ‏الرشاش الروسي الذي كان ‏يستخدمه المشاة في الجيش اما ‏موقف السيارات في المسجد فقد ‏رسم على شكل مخزن الرشاش ‏في حين ان هذا الجامع ضم انفاقاً ‏و ممرات تحت الارض وكأن ‏المبنى عبارة عن مركز امني ‏للأعتقال وليس معلماً للعبادة ‏ولذلك لو قدر لمصمم معماري ان ‏يختار شكلاً لهذا الجامع من دون ‏تدخل سياسي ومن دون الاذعان ‏لفكرة القوة ، فحتماً هذا ‏المعماري العراقي لن يختار شكل ‏رشاش الكلاشنكوف الروسي ‏ليكون الفضاء الخارجي لجامع ام ‏القرى. اما وزارة النفط العراقية ‏الواقعة باتجاه شارع فلسطين ‏ببغداد فقد كان لونها بلون البدلة ‏العسكرية في حين ان تصاميمها ‏المعمارية الداخلية تتلاءم مع ‏وزارة للأمن الوطني بسبب ‏متاهاتها و تعقيداتها و ظلامية ‏ممراتها.‏

كما ان وزارة التعليم العالي و ‏البحث العلمي الواقعة بالقرب من ‏الباب الشرقي يمكن مقاربتها ‏بمبنى يصلح لعمل جهاز ‏المخابرات العامة بسبب مكاتبها ‏الصغيرة و المحكمة امنياً ما يؤكد ‏ان العملية المعمارية العراقية ‏كانت خاضعةً لمتطلبات و معايير ‏غير علمية و غير ابداعية، ‏ترتب عليها اجبار المصمم ‏المعماري العراقي على التعبير ‏عن فكر السلطة لا فكره العلمي ‏المستوحى من فكر المدارس ‏المعمارية الرصينة سواء ‏الموجودة في العراق او تلك ‏المنتشرة في العالم.‏

بدقة، يمكن وصف الفترة الزمنية ‏هذه، بالحقبة السوداء في مسيرة ‏العمارة العراقية لأن المصمم ‏المعماري العراقي اخذ الى وجهة ‏غير وجهته الحقيقية لأنه باني ‏حضارات وليس مخلد ‏دكتاتوريات.‏

ان الطبيعة الانسانية العميقة ‏للمصمم المعماري تحتم عليه ‏عندما يفكر في وضع تصاميم اي ‏تصاميم سواء كانت لمدن او ‏مجمعات سكنية او تجارية او ‏صناعية او سياحية ان يستحضر ‏كل التجليات التي لها صلة بعراق ‏عمره آلاف السنين وكان مهد ‏الحضارات الانسانية في سومر و ‏اكد وآشور و بابل لأن ذلك عامآ ‏مهم للأبداع و الرقي بالرسائل ‏التي تحكيها الابنية المعمارية ‏فالأساس في كل العملية الابداعية ‏المعمارية هو انتاج مشهد ‏حضري مؤثر في العالم لا في ‏العراق وحده، بين الانسانية ‏جمعاء لا بين العراقيين وحدهم.‏

من ناحية ثانية، كانت عمليات ‏المركز القومي للأستشارات ‏الهندسية الواقع في بداية شارع ‏الرشيد من جهة شارع ابي ‏نؤاس، رغم قلتها تخضع بالكامل ‏لرقابة السلطة الامنية في الفترة ‏الزمنية نفسها وبالتالي كرس هذا ‏المركز مجهوده لتصميم مشاريع ‏معمارية محددة و بنظرة سياسية ‏متشددة، كما ان العاملين في هذا ‏المركز بعد العام 1991 تحولوا ‏من مبدعين ومفكرين الى مجرد ‏موظفين اداريين في وقت كان ‏مطلوباً فيه علمياً من المركز ‏القومي للهندسة ابتكار نظريات ‏معمارية و تصاميم معمارية ‏بنوعية عالمية تتضمن رسائل ‏من الحضارة العراقية العريقة الى ‏حضارات العالم لكن هذا التطور ‏لم يحدث على الاطلاق.‏

وفي تفاصيل تبدو اكثر مرارةً، ‏كانت التصاميم المعمارية ‏المؤرشفة في وزارة الاسكان ‏الواقعة في منطقة العلاوي قد ‏اكلها الغبار التي تعود ربما لكبار ‏المعماريين العراقيين الذين توفوا ‏او اولئك الذين لازالوا على قيد ‏الحياة وكان الرهان ان تكون هذه ‏التصاميم التي تعود لفترات ذهبية ‏من مسيرة العمارة العراقية، ‏نواةً لنهضة معمارية على صعيد ‏بناء المجمعات السكنية التي ‏يحتاجها المجتمع العراقي و التي ‏تؤكد بعض الدراسات ان بناء هذه ‏المجمعات هو التحدي الاكبر ‏للحركة المعمارية في ظل ‏احصائيات تشير الى الحاجة الى ‏ستة ملايين وحدة سكنية في ‏الوقت الراهن.‏

من واقع سلبيات هذه الفترة ‏الزمنية الممتدة من 1980 الى ‏‏2003 ، ان العديد من رموز ‏العمارة العراقية غادروا العراق ‏الى الخارج في الولايات المتحدة ‏و كندا و اوروبا ما سمح ‏باندماج هؤلاء بالنظريات ‏المعمارية الغربية التي اخذتهم ‏بعيداً عن تجلياتهم حيث كان ‏هؤلاء يمثلون الرهان العلمي ‏الرصين لقيام فكر معماري و ‏نظرية معمارية خاصة بالعراق ‏غير ان المجتمعات الاخرى هي ‏من نجحت في الاستفادة من ‏عبقرية هؤلاء.‏

المشكلة الراهنة، ان ارهاصات ‏هذه الفترة الزمنية على المستوى ‏المعماري لازال لها تأثير على ‏الممارسة المعمارية حتى بعد ‏العام 2003 ولذلك تبدو اهمية ‏هذا العنوان والموضوع بان على ‏اساتذة العمارة والعاملين فيها ‏وطلابها ان يذهبوا الى اجواء من ‏التأمل والمراجعة لكي يستعيدوا ‏الالتزام بالمنهج العلمي بمعزل ‏عن مؤثرات تلك الحقبة الزمنية ‏لضمان الانتقال بالعمارة العراقية ‏فكراً وممارسةً الى مستويات و ‏اشكال و تصاميم تليق بمجمل ‏التغيرات التي رافقت حياة ‏المجتمع العراقي في السنوات ‏الثماني الماضية.‏

دون ادنى شك، نال العراقيون ‏الكثير من حرياتهم بسبب سيادة ‏التعددية و هذا عامل ضروري ‏للمصمم و المفكر المعماري لكي ‏يجتهد في وضع قواعد واسس ‏تطور العمارة في العراق في ‏غضون العشرة اعوام المقبلة، ‏كما ان هذه الحرية و هذه ‏التعددية تمثل فرصة علمية جدية ‏لكي يفرض المعماري العراقي ‏تصوره بشأن مشاريع العمران ‏المختلفة التي يمكن للدولة و ‏القطاع الخاص ان ينفذها بمعنى ‏ان هذه التعددية ستضع المصمم ‏و المفكر المعماري امام ‏مسؤوليته في تحديد المشهد ‏الحضري لبغداد وبقية المدن ‏العراقية.‏

المهم ان لا تترك العمارة في ‏العراق لتدخلات غير المعماريين ‏والاساس ان لا يتخلى المعماري ‏عن دوره الاصيل و العضوي في ‏عملية العمران و الا ستتكرر ‏تجربة 23 عاماً ( من1980 و ‏لغاية 2003) ، تجربة اتسمت ‏بأن المعماري العراقي كان يصمم ‏و فكره المعماري مصادر و ‏الاسوأ كانت افكار التصاميم ‏تفرض عليه من قبل اطراف غير ‏معمارية و هو عليه ان ينفذ ‏التصميم وينفذ تطبيقه على ‏الارض. ‏ في العام 2012 ، يجب ان يؤمن ‏المصمم و المفكر المعماري ‏العراقي أن بأستطاعته ان يكون ‏عامل سلام بين العراقيين و ان ‏يشيع في نفوسهم الطمأنينة و ‏التفاؤل ويحثهم على العمل، ‏فالمحاكاة بين الانسان و بين ‏الابنية التي يعيش فيها و يتجول ‏حولها لا تقف عند حدود من ‏التأثير المعنوي والاجتماعي و ‏الاخلاقي و العاطفي.‏

وفي اشارة مهمة للغاية، اذا كانت ‏الدولة بين العام 1980 و ‏‏2003 اختارت شخصنة العمارة ‏لصالح فكر وهوية الفرد الحاكم ‏والتي افضت الى طمس الابداع ‏المعماري من جهة و تراجع او ‏توقف الحركة المعمارية وعدم ‏ظهور ابنية جديدة ولافتة بسبب ‏صعوبة الظروف الاقتصادية و ‏الاجتماعية في هذه الفترة من ‏جهة ثانية، فأن الدولة بعد العام ‏‏2003 قد تجاهلت اهمية الفكر ‏المعماري بالكامل واختارت ‏مؤسساتها ووزارتها التوجه الى ‏مقاولين كبار اوصغار لكي ‏يختاروا ما يشاؤون من تصاميم ‏ولكي يفرضوا ما يريدون على ‏المجتمع العراقي ثم وصل الامر ‏الى ان المقاول يأتي بتصاميم ‏جاهزة مستوردة او انه يشتري ‏تصاميم جاهزة من شركات اخرى ‏وبالتالي كان الثمن من جديد ‏الاضرار بإبداعية العمارة ‏العراقية و عراقتها و هويتها، ‏كما ان الفساد المالي الذي مارسه ‏هؤلاء المقاولون اثر سلباً على ‏نوعية وجودة تنفيذ التصاميم ‏المعمارية الجيدة رغم شحتها.‏

بمعنى آخر، اذا كانت العمارة ‏العراقية واجهت خطر الحاكم ‏الفرد من 1980 و لغاية ‏‏2003، فأن مستقبل عمارة بلاد ‏وادي الرافدين مهددة بمزيد من ‏الاختراق و الاستلاب ولكن هذه ‏المرة من قبل المقاول واختياراته ‏العشوائية و الارتجالية و الذاتية ‏ومن قبل تطلعاته في الفساد التي ‏لا تقف عند حدود وبتجاهل تام ‏من الدولة العراقية ولذلك على ‏هذه الدولة بعد العام 2003 ان ‏تبادر على الفور في تأسيس هيئة ‏عليا للعمارة في العراق تتمتع ‏بديناميكية فعالة وتقتصر مهمتها ‏على دراسة جميع التصاميم ‏المعمارية والتصديق عليها و ‏مراقبة تنفيذها ايا كانت وعلى كل ‏المستويات بحيث لا يشيد مبنى ‏في حي و مدينة وشارع من دون ‏موافقة هذه الهيئة.‏

• معمارية واكاديمية

إقرأ ايضًا