رايت والمحلية الديموقراطية- الجزء الأول

4

قليلون هم المعماريون الذين حاولوا أن يعالجوا فكرة المحلية في انتاجهم, خصوصاً بالابتداء من فكرٍ معين واستناداً إلى فلسفةٍ واضحة. ويعتبر المعماري الأمريكي فرانك لويد رايت أو كما دعي رائد العمارة العضوية ليكون بمثابة أحد أهم الأمثلة التطبيقية التي تجسد إشكالية المحلية و العالمية في العمارة, فقد حارب رايت مبدأ الأخذ بالقوالب الكلاسيكية في البلاد الغربية. وهناك من يرى أن هذا الإشكال لم يكن له أي وجود في البلاد الشرقية وفي بلادنا على الخصوص, إذ كانت عمارتنا العربية – برأيهم – عمارةً عضوية, ولكنها انحرفت عن ذلك الطريق السوي منذ أن ترك أهل الشرق الأوسط عمارتهم العضوية الأصلية واتبعوا طراز الغرب, واقتبسوا قوالبه الكلاسيكية العقيمة, ومن بعدها القوالب الحديثة البعيدة عنهم. وبرأي هؤلاء أن ذلك لم يكن منذ عهدٍ بعيد, و هكذا انطبق عليهم ما قاله رايت من أن هذا الذهاب في النقل عن أي متضمنات من عمل الأستاذ الخاص إنما هو إهانة لكل من التلميذ المقلد ( الشرق المتفرنج ) والأستاذ نفسه. وقد قال رايت نفسه عند زيارته لجامع السلطان حسن: “كيف يجوز لقوم لديهم مثل هذه الروائع الفنية أن يتركوها ليستبدلوا بها سوءات العمارة الغربية التي يحاول الغربيون أنفسهم التخلص منها!”

أما إلى أي حد سنسير في تقليد عمارة الغرب؟ فيقول رايت إن الأمر يتوقف على الوجدان الخلاق هذا الوجدان الذي يكمن في الفنان كما تكمن فيه إنسانيته.

اعتمدت فلسفة رايت على الفلسفة العضوية كما سماها, وقد وجدها بعدما طبقها, عند اليابانيين, فحصل على ” التأكيد ” منهم _ كما يقول _ واستفاد من مبادئهم وفلسفاتهم, فجاءت فلسفته “انطباعية” تعتمد على الطبيعة وتجد فيها مصدر إلهامها وهذا ما فسره عند تعليقه على معنى العضوية:”المعنى الذي يتبادر إلى الذهن من هذه العبارة هو عادةً الطبيعة في ظاهرها وفي مظهرها السافر ……… الطبيعة التي يمكن الوصول إليها بيد أنه ليس ثمة مورد أخصب ولا أكثر إيحاء ولا أكبر عوناً من الناحية الجمالية للمعماري من الفهم العميق للقانون الطبيعي في مظهره الفطري وكما أن الطبيعة لم تكن قط صحيحة بالنسبة للصورة الفنية فهي كذلك ليست صحيحة أبداً بالنسبة للمعماري. أي إنها ليست جاهزة ومع ذلك فلديها مدرسة عملية مختفية تحت أشكالها الأكثر وضوحاً يمكن فيها تنمية الشعور بالنسب. “

وهنا سيقدم هذا الإلهام من الطبيعة برأي رايت, سيقدم للمعماري شعوراً بالواقع يسمو عن الواقعية, وعاطفةً لا تدنو من الشاعرية, وثقةً كافيةً ليفصل بها بين الغريب والجميل. وهذا ما رآه رايت في أعظم تجلياته عند اليابانيين حيث يتابع قائلاً:

” إن الفن الياباني يعرف هذه المدرسة حق المعرفة أكثر ما يعرفها فن أي شعب آخر. ومن الاستعمالات الشائعة في لغتهم توجد كلمات كثيرة مثل لفظه ( ادابوري ) وهي إذا ترجمت إلى أقرب ما يمكن فهمه تعني التصفيف التشكيلي لفروع الأشجار وليس لدينا كلمة كهذه في اللغة الانجليزية إذ أننا لم نتمدن بعد بما فيه الكفاية حتى نفكر بمثل هذه التغييرات ولكن ليس على المعماري أن يفكر بمثل هذه العبارات فحسب بل ينبغي له أن يتعلم في هذه المدرسة أن ينحت لنفسه مفرداته ويزودها بطريقة مفهومة بكلمات مفيدة معبرة كتلك الكلمة .”

رأى رايت في أمريكا والمجتمع الأمريكي ما يميزه عن غيره, وهو ما اسماه بـ”الديموقراطية”, ورأى أن أمريكا قد قامت على فكرة الديموقراطية والحرية, أو هذا ما حلم بوجوده هو غيره من الامريكيين وهو ما سمي بـ” الحلم الأمريكي”. وذلك يعود من وجهة نظري الشخصية إلى افتقار أمريكا إلى الحضارة والتاريخ مما دفع بمعماريها إلى الاعتماد على “الأحلام” للخروج بعمارةٍ خاصةٍ بها. ويمكن التنويه في البداية أن مما سيلي من اعتماد رايت على ما يسمى بـ “الديموقراطية الأمريكية” أو “الحرية”, ولا بد من التنويه أن هذا يعبر عن رؤيته الخاصة ولا ينم بالضرورة عن اعتناقٍ منا لتلك الرؤية.

وقد شغلت رايت فكرة أن يكون لأمريكا _موطنه _ عمارة تميزها وتخصها وحدها, وبنفس الوقت تخرج عن القوالب المفترضة والطرز المعروفة التي لا تمت لها ولثقافتها بصلة. فبحسب تعبيره, كان يأمل أنه بينما يكون “المثقفون” في بلاده لا يزالون راضين بقصورهم الصغيرة أو كما سماها “كعكات الزفاف”, فإنه يفضل الشيء القليل الذي يملكه.

فهو يميل على الأقل إلى الجانب المميز وعندما تختبر محنة الزمان تطور بلاده من الوجهة المعمارية, سيكون قد أسهم بنصيبٍ في هذا التطور مهماً قلت حصيلته النهائية, وسوف ينظر إليه بوصفه محافظاً حقيقياً:

“وعلى أمل أن تعيش أمريكا في يومٍ ما حياتها الخاصة بها في مبانٍ تخصها بطريقتها الخاصة. أي أن نجعل أفضل ما نملك من أجل ما هو كائنٌ بصدق, أو ما قد يصير, حاولت في هذا العمل أن أرسي علاقةً متوافقة بين مجموعة المساقط والواجهات لهذه المباني معتبراً أحدها كحلّ والآخر كتعبير عن ظروف مشكلة يكون الكل مخططاً لها, وسعيت إلى وضع تكاملٍ عضوي لأبدأ به في تكوين الأسس من أجل إنتاج تعبيرٍ معماري, له أهميته, ولأجعل “الكل ” متماسكاً بقدر ما في استطاعتي. وترجع كيفية النمط الذي يتخذه المبنى إلى القابلية الفنية التي عولج بها الاصطلاح كحل, والى التعبير الفني عن مسألة بعينها داخل هذه الحدود. أما النماذج فيرجع أمرها إلى الذوق الشخصي إلى حدٍ بعيد, وقد تكون لها علاقة كبيرة أو صغيرة بالعمارة الأمريكية التي نصبو إليها.”

وقد وجد رايت ضالته لتحقيق حلمه في بناء عمارة أمريكية خاصة, في مبدأ الديموقراطية الذي وجد أنه أساس الفكر والثقافة الأمريكيين:

“ولم يكن أخطر سؤال يخالجني منذ بداية ممارستي هو “أي نمط ؟” وإنما سؤال “ما هو النمط ؟”, ففي اعتقادي أن القيمة الرئيسية للأعمال الموضحة هنا إنما تقع في حقيقة أنه إذا عولج أي نموذج معين في مواجهة ظروف يومنا الحاضر مستقلاً ومتشبعاً بخاصية الأسلوب, لكان ثمة احتمالٌ محدود لوجود عمارةٍ نبيلة صادقة حالما يطلبها الأمريكيون بإخلاص من معماريي الجيل الصاعد. ولا أعتقد أنه سيكون لنا قط مرة أخرى نموذجٌ موحد, كذلك الذي ميز ما سمي “بالطرز العظيمة “. إذ أن الظروف قد تغيرت, فالديمقراطية هي مثلنا الأعلى وهي أسمى تعبير ممكن عن الفرد بوصفه وحدة لا تنفصل عن الكل المتوافق. ويرتفع متوسط الذكاء الإنساني باطراد, وكلما نمى الوثوق في الوحدة الفردية أصبحت لدينا عمارة تمتاز بتنوعاتٍ من الوحدة, هي أغنى في التوحد من أي مما سبق ظهوره. ولكن يجب أن تنبثق القوالب من ظروفنا المتغيرة وينبغي أن تكون قوالب صادقة, وإلا فإن خير ما يسع التقاليد تقديمه, إنما هو مذبحة فاشلة يعوزها المعنى الحيوي أو القيمة الروحية الصادقة.”

بيد أنه يقول إنه بفضل الحرية الجديدة أصبح لدى أمريكا الآن شيء ما يخالف هذا الأمر –التمسك بالطرز القديمة _ ويتيح لها مشاهدة بزوغ فجر جديد مشيراً إلى المحاولات البسيطة المخلصة في أن يكون لأمريكا طابعها الخاص ( وهو إنما يقصد تحرره من الأساليب القديمة ) , ولا يقصد بهذا عمارة ناطحات السحاب التي يرى فيها أبشع استغلال للفضاء. بتراكم طبقاتها فوق بعضها فيه لكي تعود بأقصى فائدة مادية على أصحابها, ويعني انتهاز أمريكا لفرصتها المتاحة المختبئة في أماكن بعيدة عن الطريق المعهود أو الموجود في الحياة الصناعية كالبيوت والورش , والتي لا يمتلكها الأغنياء ولا تستثمر فيها الثروات الضخمة على نطاق واسع .

أن كل ما خصت به العمارة في أمريكا الحديثة من اهتمام, إنما هو إسراف في تجميل المباني من الخارج لكي تبدو كما لو كانت عمارةٌ حقيقية, ولكن على الرغم مما ينفق عليها فقد فشلت أمريكا في إنتاج مبنىً واحد منشأ على أساس من الفكر الصحيح يتناسب مع العصر الحديث . وكل ما استطاعت تقديمه هو تخلفٌ عقيم ينتمي إلى تفكير عهد الإقطاع. ويرى أن مستقبل العمارة في أمريكا يقع على عاتق.. الذين ” يتمتعون بفهم الحرية التي تأسست عليها أمريكا “.

ويقول :”إن الحرية روح هذه الحياة الجديدة التي يطيب لنا أن نسميها بالحياة الأمريكية إن هذه الحرية هي المثل الأعلى لأمريكا والوصول إليها هو إذن تجربة داخلية , لأنه لا وجود لحرية تأتي ” من الخارج ” إذ أنها تنمو من الباطن وهي تعبير آخر للنظام المتكامل للعقل في منزلته السامية ويستحيل وجود الحرية حيث توجد الفوضى سواء أكانت في الباطن أم في الظاهر وعلى ذلك فلا ينعم أحد بالحرية الكاملة رغم تطلع الجميع إليها ولكن بقدر ما يتحقق من الحرية تكون عاقبتها هي الناتج الجانبي المسمى ” بالسعادة ” والذي يعني على ما أظن الحياة البريئة.

وهكذا اقترح إخراج المثل الأعلى الأمريكي للحرية من عالم الوعي الإنساني إلى ذلك التعبير المعين عن هذا الوعي والذي يسمى بالعمارة. فبرأيه لا يستطيع أي محل لمزخرف ( حتى ولو سمي بالمرسم ) يبيع شيئاً جاهز الصنع من مخزن العالم ” للطرز ” أن يفعل أكثر من أن ينمق أو يشوش…… هذه العاطفة الجوهرية أو أن يكسوها اصطناعياً للمناسبات الاجتماعية المصطنعة. إنه من المستحيل أن يفعل أكثر من هذا ذلك لأن “العمارة كالحرية لا يمكن ارتداؤها” بل يجب أن تنتج من الداخل.

كما يرى رايت أنه لا يمكن للمدارس المعمارية التي لا تزال تطبع في ذهنها ثقافة اليونان أو الرومان أن تنتج عمارةً حقيقية حتى لو تجردت من نمطها القديم . و يجد ان لجوء الناس إلى ذلك مرده الكسل , فقد أصبح المعمري و كأنه يمتلك ” مصنعاً للمخططات الجاهزة “.

و يطالب رايت بنبذ العمارة الأكاديمية أو الكلاسيكية التي كانت سارية في ذاك الوقت , منادياً بعمارةٍ جديدة حرة تليق بأمريكا الحرة وتتفق في ذات الوقت مع مقتضيات حياتها الحديثة . ويقول إنه من الواضح ألا يمكن للمعماري المقلد ولا للعمارة الاقتدائية أن يكون أو تكون حرة , ومن الجلي أيضاً أنه يتعين تطوير العمارة الحرة من الباطن وأن تكون أمراً تكاملياً أو كما نقول الآن في العمارة “مسألة عضوية”. ولهذا السبب فقط إذا لم يكن ثمة غيره من أسباب لا يمكن للعمارة الحديثة أن تكون ( نمطاً سارياً ) ولا يمكن أن تعود طرازاً وإلا بدأت دورة ثانية من العقم والشيخوخة لا تقل مدتها عن ثلاثين عاماً.

وقد وجد رايت أن ممارسة العمارة قد انحدرت بصفةٍ دائمة إلى صورة من صور ” النشاط الفني ” فقط بدلاً من فن , كما قد هوى فن المعمار من عليائه وما زال يهوي بانتظام منذ أن جمع رجال فلورنسا شتاتاً من فن اليونان وروما حاولوا عبثاً أن يسترجعوا وقاره الذي صنع عصر النهضة لقد انحط من “آلهة الآثار القديمة” السماوية والعصور الوسطى إلى “بقرة اليوم الراهن الحلوب”:

“إذاّ أهذا هو الفن في الديمقراطية الشاعرية التي تبدو أنها مجرد صورة أخرى من النفاق عينه إن من يتشدق بمثل هذه ” الديمقراطية ” كأساس لمحاولة الفنان هو أناني مفرط في الحمق . إن القاعدة البشرية التي وضعها البشر شيء و ” الديمقراطية ” الزائفة …. والشاعرية المنافقة التي تمارس سياسياً هنا ……..والتي يوعظ بها هنا…….. وهي عادةً رداء الحمل الذي يرتديه الذئب……. أو الحلم الأناني لمن نصبوا أنفسهم ملائكة حارسين لهو شيء مخالف تماماً.”

و للخروج من هذا المأزق وهذا الزيف, يقترح رايت أولاً ينبغي دراسة طبيعة المواد التي ينتخبها المعماري لاستخدامها والأدوات التي يجب أن يستعملها معها, ويبحث من أجل العثور على الصفات المميزة في كلاهما والتي تتلاءم مع غرضه وثانياً أن يراعي المثل العليا للطبيعة العضوية كنبراس يهتدي به بحيث يوحد هذه الصفات لخدمة ذلك الغرض, وأن يكون لصياغة الشيء الذي يقوم بعمله تكاملٌ, أو أن يكون “صالحاً بالنسبة لموطنه “بغض النظر عن الأفكار السابقة عن الطراز, فالطراز ناتجٌ جانبي للإجراء ويأتي من الشخص أو من العقل أثناء الإجراء , فطراز الشيء إذن سوف يكون الشخص نفسه وهو خاصٌ به, أما قوالبه فيجب تركها و شأنها فأن يتبنى المرء “طرازاً” فهو بمثابة وضع العربة أمام الحصان فلا يخرج عن حدود الطرز أي إنه لن يصل إلى الطراز.

وقد رأى رايت أن المعماريين اليوم لم يتركوا إلا هذا الشيء الوحيد الذي يشتركون فيه …. شيء يبيعونه وهو على وجه الدقة… أنفسهم فمن الطبيعي لا يبقى في النهاية شي يباع إلا أنفسهم بصفة خاصة حيث إن العمارة ليست في خواطرهم. ورأى الحل في الرجوع إلى ما عنته الديمقراطية لأسلافه والذي لا بد أنها لا تزال تعنيه لهم, وإذا ما استنهضت بديهية الحقيقة المجردة لهذه الفلسفة القديمة الحديثة فلسفة ” من الباطن نحو الظاهر “إذا ما استنهضت في مجتمعهم كما استنهضت الآن في عمارتهم , فلسوف تضمن الانتفاعات الصادقة للإيواء البشري وللمحيط المتآلف الموقر اجتماعاً وسياسياً وسرعان ما تدخل في السياسة.

وفي نفس الوقت في مواصلة الأمل في أن ” الروح الهزلية ” التي تفوق فيها شعبهم برأيه ستدوم كفاية بحيث تغني الحياة بينهم , و ستدوم كفاية بالنسبة لحضارتهم بحيث تقدمهم إلى العالم بوصفهم ثقافة وليس مجرد باعتبارهم حضارة مذهلة , إن التفرقة الأساسية بين العجيب والجميل التي تتضمنها الثقافة حقيقة إنما هي كل الفرق بين المجتمع الذي لديه نفس خلاقة وبين المجتمع المجرد منها . و هنا نلاحظ أن رايت قد بحث في المجتمع الأمريكي عن صفةً تمكنه من اعتلاء سلم الثقافة وصولاً إلى الحضارة و منها إلى العمارة الحقيقية, ووجد في ” الحلم الأمريكي بالحرية ” شيئاً يجمع به كل تلك القصاصات التي تتألف منها أمريكا, أملاً باستخراج فنٍ وعمارة يعبر عنها. و هي مهمةٌ صعبةٌ جداً لا يمكن الجزم إذا تمكن رايت من تحقيقها ضمن إطار ” الفكرة الديموقراطية ” التي اختارها, إلا إذا تم التعرف على الفلسفة العضوية التي استلهمها من رحلته الساحرة إلى اليابان.

إقرأ ايضًا