تلك الرحلة الاستكشافية … “المعمارية”(2-2)

9

وكما أشير، فإن أعضاء البعثة المتبقين، وقد وجدوا أنفسهم صرعى مرض الملاريا، قرروا مغادرة اليمن، والتوجه إلى مدينة بومباي بالهند على متن باخرة إنكليزية. وأثناء تلك الرحلة البحرية توفي بتاريخ 29 أغسطس 1763، جورج ويلهيم باورينفيند G. W. Baurenfeind، “الرسام المحبوب وصاحب الضمير الحي وحسن المظهر”، كما تصفه أدبيات البعثة. وقد سبق وأن رسم باورينفيند بأسلوبه المميز (هل أقول الرائع؟!)، كثير من مشاهد المدن التي مروا فيها. وتنم لوحاته التخطيطية لمدينة “جدة” الساحلية (1763)، ولمدينة “رشيد” في دلتا النيل بمصر (1761)، وكذلك لوحته المليئة بالشخوص والمشاهد المعمارية التي دعاها “تدريبات العرب الحربية في اليمن” (1763)، ينم كل ذلك على مهارة فنية حقيقية، ومقدرة عالية على اجتراح تكوينات معبرة للوحاته المرسومة.

وبعد مرض، توفي أيضاً، وأثناء الرحلة البحرية ذاتها إلى بومباي (1763) “لارس بيرغرن” L. Berggren ، العضو “شبه المنسي” في الرحلة، والجندي السابق في سلاح الفرسان السويدي. وسرعان ما توفي بعيد الوصول إلى مدينة بومباي “كريستيان كرامر” C. C. Kramer، طبيب البعثة والذي كانت لديه العديد من المهمات الطبية والعلمية الملقاة على عاتقه، تاركين “كارستن نيبور” لوحده، متحملاً أعباء البعثة وإيصال نتائجها ومقتنياتها إلى الدانمرك. “من صحبتنا الكبيرة ذات العدد الوفير، لم يبق إلا أنا على قيد الحياة -يكتب نيبور وهو في بومباي في سنة 1764-… وأملي ضعيف جداً في أنني سأرى أوروبا ثانيةً على الإطلاق. ومع ذلك أعتبر أنه من المهم جداً في الوقت الحالي، أن تتحسن صحتي ثانية، لأني إن مت أنا الآخر في النهاية، فليس من الأكيد أن تصل أوراقي على الإطلاق إلى أوروبا”(*).

بيد أنه أنجز مهمته على أحسن وجه، رغم كل ما صادفه من رعب وأهوال ومشاق كثيرة، مبحراً مرةً أخرى في اتجاه الغرب، نحو مسقط في عمان، ومنها إلى إيران ثم إلى البصرة. وعبر الفرات وصل إلى بغداد، بعد أن مرّ في النجف “مشهد علي”، والحلة زائراً آثار بابل القديمة. وكذلك كربلاء التي وصلها في 27 ديسمبر 1765.

وأثناء وجوده في كربلاء التي رأها، “تقع في غابة من النخيل، وهي أكبر، وعدد سكانها أكثر من عدد سكان مدينة مشهد علي، إلا أن بيوتها لم تكن مبنية بناءً متيناً لكي تبقى دائمة، بل أنها بنيت مثل بيوت البصرة والحلة وأغلبها من الطين واللبن غير المحروق..” (رحلة نيبور، ترجمة د. عدنان جواد الطعمة)؛ أثناء ذلك الوجود، والإقامة السريعة، رسم كارستن نيبور بانوراما المشهد الحسيني، كما رآه في ذلك اليوم من ديسمبر 1765.

ويعد ذلك التخطيط، إضافة إلى جمالياته الفنية، وثيقة هامة، بل وأهم وثيقة مرسومة يعود تاريخها، إلى مثل ذلك الزمن القديم. ولولا دأب كارستن نيبور وهمته، فإننا، ربما، قد نجهل تصورات المشهد الحسيني بشكلٍ دقيق، إبان تلك الفترة؛ كما هو جهلنا بمعرفة الكثير عن تصورات مآثرنا المعمارية الأخرى. والأسباب، طبعاً، كثيرة ومتنوعة، لكن “ثقافة” الخوف من “الآخر” المختلف، ورسوخ عادة التصورات المسبقة عنه وعن مآربه، يبقى من أهمها.

والسؤال، هنا مابرح قائماً، ماذا لو أن نيبور، بذريعة شيوع أجواء الرعب المحيطة به ومن حوله، أثناء زيارته إلى كربلاء، عزف عن مهمة رسم الحضرة الحسينية، بالصيغة المرسومة، التي وصلتنا منه، ترى، من سيكون الخاسر الأكبر في هذه الحالة؟ والجواب، هنا، واضح. لكننا، نحمد الله، بأن انتشار تلك الأجواء العدائية، تجاه الآخر المختلف والغريب، ونفوذها القوي في الخطاب، أيامئذٍ (وهل تبدل، حقاً، شيئاً جوهرياً في تلك الإشكالية راهناً؟!)، لم يفت في عضد نيبور، ولن تنل من عزيمته، مجترحاً لنا وثيقة شديدة الأهمية عن المكان، مفعمة بالحس الجمالي.

أصغوا ، رجاءً إلى ما كتب وقتذاك مفسراً الحالة التي وجد نفسه فيها “..رأيت من الخطر أن أرسم هذا الجامع، لأنه أكثر خطورة من . ولم أسمح لنفسي الظهور أمام المدخل في النهار. ولكني ذهبت في المساء بصحبة مرافقي في السفر وارتديت عمامة تركية ودخلت داخل الحضرة بمناسبة إحدى الزيارات والأعياد الكبيرة، حيث كانت الأمكنة مضاءة بضمنها الصحن. وعند عودتي إلى سكني رسمت اللوح XLII الذي سيوضح للقارئ على الأقل نوعية بناء هذا الحرم..” (المصدر السابق).

تشي مفردات اللوحة، التي نحن بصددها: لوحة الحضرة الحسينية، باختزالية عالية لمكوناتها، مصحوبة بهاجس إظهار تنويعات مفرداتها. وتكوين اللوحة المرسومة، يعتمد أساساً على مؤالفة فطنة لهذين العنصرين: الاختزالية والتنوع. نحن أمام لوحة، ينظر إلى مكوناتها من الأعلى، بعين الطائر. وهو أسلوب فني أثير، درج كارستن نيبور على استخدامه في غالبية اللوحات التي أنجزها. وهذه المكونات، يجتهد نيبور، أن تكون مرئية أيضاً عبر منظور بسيط لكنه شديد الحضور، ليذكرنا بأن الرسام “يخطط” لوحته، أكثر بكثير من أن يعطي انطباع بأنه “يرسمها”.

ثمة “اختزالية” عالية، إذاً، يسبغها نيبور على العناصر المعمارية، التي يشكل تجميعها المنظوري، “معمار” اللوحة المرسومة- الصحن الفسيح، المحاط بإيوانات من جهاته الثلاث. وفي الوسط الضريح ذو القبة العالية التي تحف بها أربع منائر قصيرة نوعاً ما، وثمة ثلاثة سرادق تسند بواسطة أعمدة تظلل ثلاثة أبواب تقود إلى داخل الضريح. وفي الجانب الأيمن لصق جدار السور الخارجي، تنهض مأذنة أسطوانية شاهقة، بحوض واحد، تنتهي بقبة صغيرة. وهي “مأذنة العبد” التي تحدث عنها المهتمون بعمارة الضريح، والتي أنشأت من قبل أمين الدين مرجان وإلى بغداد في 1366، لكنها أزيلت في فترة متأخرة. (د.رؤوف الأنصاري، عمارة كربلاء، دمشق 2006).

لا يرى نيبور ثمة حاجة كبيرة لرسم شخوص في لوحاته، ربما لأن ذلك بمنأى عن اهتماماته، أو قد يكون (وهو الأقرب) غير مقتدر على ذلك. لكن لوحة المشهد الحسيني الخالية من الناس والمكتظة لوحدها بالعناصر المعمارية، توحي بأن باعث ذلك الغياب، يبدو وكأنه أمراً متقصداً، لجهة تأكيد تقشف المكان، المكان الذي يؤسس لمكانته، المكانة الدالة على الفجيعة التي جرت على أديمها تلك الحادثة المروعة والأليمة، هي التي يتحدث عنها نيبور باهتمام عالٍ، وبتعاطف جم، عندما يكتب “..يجب أن اعترف بأني لم أسمع رثاءً أكثر من رثاء الشيعة في هذا الجامع. فالناس يبكون ويصرخون فكأن الحسين أبوهم المتوفي اليوم. وهذا الحزن لم يكن للرياء، مثل رثاء بعض النسوة اللواتي يبكين على الميت من أجل النقود، بل حزنهم حقيقي نابع من القلب، بحيث أن عيون الزوار الخارجين من أو الداخلين إلى الجامع كلها كانت وارمة..”( المصدر السابق).

لا تختلف كثيراً أشكال العناصر التصميمية للمشهد، عن ماهو لازال مألوفاً ومعروفاً: الإيوانات ذات العقود المدبببة لصق الجدار، إيقاع تسلسلها الذي يقطع بواسطة إيوان أعلى، وبعقد أعلى؛ والمآذن، بأشكالها وارتفاعاتها المتنوعة، والراية الخفاقة، التي ترى في أعلى القبة، كناية عن رمزية الحدث المضمخ بالشهادة، وطبعاً الصحن المكشوف وفضاءه المترامي الفسيح، هل قلت “الصحن المكشوف”؟

أه ياصديقي كارستن، يا نيبور، ؛ أتدري ماذا فعلوا بهذه المفردة التكوينية الهامة مؤخراً؟، لقد سقفوها بالكامل، بتوصية “شعبوية”، فاقدة لمهنيتها بالمرة، وبموافقة غير حكيمة من أفراد بعيدين عن العمارة وشؤونها، بحيث تحول ذلك الفناء الجليل- بلغة أستاذنا المعمار د.محمد مكية- إلى محض “خان!”. لكن هذه ..قصة آخرى!

في بغداد، التي مكث فيها حوالي ثلاثة أشهر (من بداية يناير وحتى بداية مارس 1766)، يظهر كارستن نيبور مقدرته الفنية الفائقة في رسم مخطط المدينة وضواحيها. هو الذي درج على قدر كبير من الدقة في رسم مخططات عديدة لمدن مختلفة مر بها وحيداً أو مع بقية أعضاء الرحلة الاستكشافية. وتعد خارطته التي رسمها لعاصمة العباسيين السابقة، واحدة من أقدم الخرائط التي وصلتنا، وهي لهذا تتمتع بأهمية وثائقية كبيرة، مثلما هي تكشف عن أحوال المدينة، الواقعة على ضفتي نهر دجلة، وأساليب عيش سكانها وعملهم إبان تلك الفترة التاريخية.

في هذا المخطط الذي يبدو متقناً ومطابقاً لوقائعه التاريخية، على ما كانت عليه بغداد في الثلث الأخير من القرن الثامن عشر، نتعرف فيه على حدود وشكل سور بغداد وبواباتها الرئيسية: باب المعظم، والوسطاني والطلسم، وكلواذا في منظقة الباب الشرقي. ونشاهد القلعة في أقصى الشمال الغربي بجانب النهر، المتاخمة إلى منطقة السراي، والقريبة إلى مدرسة المستنصرية (1224) ، الواقعة بمحاذاة النهر، الذي يربط ضفتيه بالقرب منها (من المدرسة) جسر عائم. كما نرى في المخطط إياه، منطقة الكرخ، القليلة المساحة والبناء، نسبة إلى الرصافة الواسعة والمكتظة. وتظهر الخريطة خلو المدينة من الساحات أو الفضاءات المكشوفة الواسعة، عدا النهر الذي يمثل “ميدان” المدينة الرئيس، الذي تصب فيه أزقة المدينة الضيقة والمتعرجة.

غادر كارستن نيبور بغداد متوجهاً إلى الموصل، ومن ثم إلى حلب، ومنها إلى قبرص ليصل في الأخير إلى القدس. وفيها، في أغسطس/ آب 1766، أنجز رسمة مشهد المدينة البانورامي. وأزعم إن هذه الرسمة للمدينة المقدسة هي من أجمل الصور المعروضة في المعرض، إن لجهة تكوينها أم لناحية تنفيذها. صحيح أن تكوين الرسمة وأسلوب تنطيق كتلها البنائية، سبق وأن شاهدنا مثيلا لهما في رسمات لمدن مختلفة مرّ بها الرحالة المستكشف من قبل، (لنتذكر “تعز” في اليمن، أو مدينة “شيراز” في فارس)، إلا أن ثمة نضوجاً تكوينياً مغموس بإحساس مرهف، تفرضه خصوصية المكان، والمعايشة والتأمل في الوعي الديني والفلسفي، يبدو واضحاً هنا، ومختلفاً عن هناك.

ينبني التكوين العام للرسمة على تقسيم ثلاثي لسطحها. ويتعمد الرسام أن تكون أجزاء تلك التقسيمات غير متماثلة، لا في أهمية مفرداتها الفنية، ولا في مقدار الحيز الذي تشغله فيها. ثمة خطان أفقيان يمتدان على امتداد عرض اللوحة المرسومة، يحددان تلك التقسيمات. ففي حين يشغل الجزء الوسطي الفسيح منها، صورة منظورية لمدينة القدس المسورة، بسور يلفها من جميع جهاتها الأربع. احتل الوادي الجزء الأسفل الضيق، الذي تنهض فوقه المدينة المقدسة بسورها الممتد أفقياً ذي البوابات العديدة. أما الجزء الأعلى من تلك التقسيمات فهو خاص بأفق المدينة البعيد، الذي تظهر فيه قمم الجبال المحيطة، المغطاة مع سفوحها، بأشجار الزيتون.

ينحصر جهد الرسام في القسم الوسطي أساساً، القسم المتخم، من جهة، “بالمكعبات” الهندسية الدالة على البيئة المبنية للمدينة، ومن جهة أخرى، بالحضور المؤثر للفضاء الواسع لمنطقة “الحرم الشريف”، في الجهة اليسرى من الرسمة، وفيه ينهض مبنى “قبة الصخرة” المهيب، الذي تعود فترة بنائه إلى العهد الأموي، وإلى عام 691 تحديداً. وإذ يؤكد كارستن نيبور حضور التضاد الذي ابتدعه بين جزئي هذا القسم، فإنه يسعى وراء إيلاء اهتمام أوسع لقيمة المبنى الأخير مميزاً شكله ذي الهندسية المنتظمة، بمنحه أكبر قدر من التفاصيل، التي ترى بوضوح على خلفية “ضجيج” المكعبات البنائية. وبغية التدليل على حضور عمارة مبنى “قبة الصخرة” تشكيلياً في الرسمة، فإن نيبور يبالغ في تأكيداته على خلو موقع الحرم من أي وجود لأبنية مهمة أخرى؛ بضمنها مبنى المسجد الأقصى (الذي نخمن توقيعه، مرسوماً بتواضع، في الجهة اليسرى من منطقة الحرم).

لا يغفل كارستن نيبور الإشارة إلى خصوصية الطابع الإسلامي السائد في المدينة المقدسة وقتذاك. فتظهر المآذن بأشكالها الفرتكالية العالية، وهي تبرز، بغزارة، من على سطوح “المكعبات” البنائية, لكنه يلحظ ويرسم بجانب ذلك أيضاً، بعض البنايات المقببة، التي نحدس أنها مبنية على الطراز البيزنطي، كناية، كما يبدو، للتدليل على أنها مباني كنائس، تتواجد أيضاً، هي الأخرى، في فضاءات المدينة المقدسة. وفي العموم، فإن رسمة القدس، المنجزة من قبل كارستن نيبور، ما برحت، تحتفظ بقيمتها التاريخية والمعمارية، كوثيقة شديدة الأهمية، جنباً إلى جنب الوثائق المرسومة الآخرى، التي عادة ما كان يرسمها الأوربيون، أثناء حجّهم إلى الأماكن الدينية في المدينة المقدسة.

عندما غادر كارستن نيبور مدينة القدس، كانت رحلته الطويلة والشاقة والمكلفة، …لكنها الهامة جداً للعلم وللمعرفة، قد شارفت على نهاياتها. فعبر إسطنبول، التي وصلها آتياً من القدس، سيمر لاحقاً في مدن أوروبية عديدة ليصل في الأخير إلى الدانمرك. وفي 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1767، وصل إلى مدينة نيبورغ Nøborg، وبعدها بثلاثة أيام، دخل كارستن نيبور كوبنهاغن ممتطياً حصانه. وقدم لاحقاً تقريره عن الرحلة إلى الملك. بيد أن التغييرات التي طرأت، حينذاك، على المشهد السياسي الدانمركي، بعد وفاة الملك فريدريك الخامس، وتولي ابنه كريستيان السابع، أفضت إلى عدم اكتراث تماماً، بالرحلة ونتائجها وأهدافها، ولم يحظ، بالتالي خير وصول كارستن نيبور إلى العاصمة بأي اهتمام.

وحينما نشرت صحيفة “كوبنهاغن تيذنا” الصادرة يوم 18 نوفمبر 1767، الخبر القصير جداً عن وصول كارستن نيبور بالكلمات المقتضبة التالية “عاد الكابتن نيبور من البعثة إلى الخراج”!(*)؛ لم يدر في خلد محررها، بأن الواقعة التي اختزلها بكلمات سبع، ستفتح صفحة جديدة وناصعة، فيما سيعرف بعلم “الانثروبولوجي”، وستكون تلك الرحلة ونتائجها من أهم المصادر عن أحوال وأساليب عيش سكان منطقة واسعة ومدنها، لم تكن معروفة جيداً لدى كثر من العلماء أو المهتمين الأجانب، بل وحتى من قبل قطاع واسع من الساكنين المحلين انفسهم؛ سيما فيما يخص تخطيط تلك المدن، وتوثيق عمارتها.

والحقيقة، فإن نتائج البعثة، وما جمعته من معلومات علمية وفنية متنوعة، تتجاوز أهميتها بكونها خاصة بالعمارة أو الفن، لترتقي إلى حدث ثقافي ومعرفي، بالمعنى الإنساني الشامل لذلك الحدث. ولهذا، لم تفت الأجواء السلبية المخيمة وقتذاك، تجاه البعثة وما رافقها من أحداث واكتشافات، من عضد كارستين نيبور، فنشر، بمبادرة شخصية منه، كتاب بعنوان “وصف جزيرة العرب” في عام 1772، كما قام لاحقاً في أعداد كتاب “وصف البعثة إلى جزيرة العرب والدول المجاورة” في ثلاثة أجزاء في عامي 1774و 1778، باللغة الألمانية، والجزء الأخير من هذا المؤلف نشر بعد وفاته في عام 1837.

لكن الشهرة الحقيقة التي نالتها البعثة الاستكشافية التي قام بها كارستن نيبور ورفاقه الشجعان مع أحداثها المؤثرة، غير العادية، وانتشارها في أوساط شعبية واسعة، جاء عن مصدر غير متوقع، لم تكن النتائج العلمية المرموقة وغير المسبوقة طرفاً فيها. إذ قام كاتب دانمركي اسمه “توركيلد هانسن” (1927-1989) Thorkild Hansen، بعد نيف وقرنين على بدء تلك الرحلة “العجيبة”، وتحديداً في عام 1962، بنشر رواية تحت مسمى “العربية السعيدة”، جاعلاً من كارستن نيبور الشخصية الرئيسية فيها. ومن هذه الرواية، التي صنفت بالرواية التاريخية، وترجمت إلى لغات عديدة (بضمنها العربية)، عرفت فئات كثيرة من القراء، وقائع تلك الرحلة الاستكشافية القديمة، ومصائر أبطالها.

وأخيراً… كلمة عن المعرض، الذي ساهم في إعداده المركز الدانمركي للثقافة والإنماء، بالتعاون مع جمعيات ومؤسسات دانمركية عديدة. لقد أُختير لمكان المعرض، كما أشير سابقاً، فضاءات “المكتبة الملكية” بكوبنهاغن. بحيث روعى أن يتداخل مسار رواد المكتبة، مع معروضات المعرض، وهي فكرة، أراها، موفقة، عززت من حضور “ثيمة” المعرض لدى “زوار” كثر. تم توظيف اللغة الغرافيكية، أساساً، لعرض محتويات المعرض، هي التي علقت “بحامل” تكويني، مبني على تصميمات “بت موندريان” الهولندي، ذات الأشكال الهندسية المنتظمة، والمتقاطعة عبر خطوط متعامدة.

وأهجس في هذا، نوعا من ايماءة، يود منظمو المعرض تذكيرنا باهتمام وقرب كارستين نيبور، من بلاد الأراضي المنخفضة، وعمله مزارعاً فيها ردحاً من الزمن. كما أجد، أيضاً، ملائمة ذات رمزية، في اختيار فضاءات “الماسة السوداء” من المكتبة لعرض مجمل محتويات المعرض، التي شكل ظهور عمارتها ذات يوم من عام 1999، بـ “فورمها” المؤثر وغير العادي، حدثاً هاماً في المشهد الثقافي المحلي, تلك العمارة ما بعد الحداثية، المصمة من قبل شباب معماريين دانمركيين، وقتذاك، كانوا، وفق كثر من النقاد، متأثرين بمقاربة “زهاء حديد” التصميمية، هي التي تعود بأصولها الى العراق- المنطقة التي زارها من قبل كارستن نيبور ومكث فيها شهور عديدة. وتشي هذه الايماءات المتعددة والمتنوعة، بأهمية الحوار مع الآخر، وفائدته وضروريته؛ ذلك الحوار الذي أقدم كارستين نيبور ورفاقه الشجعان على فتح صفحة جديدة فيه، تنطوي أهميتها في تفعيل اللقاءات الإنسانية الحميمية وترسيخها في الخطاب، الخطاب الطامح إلى عدم الاكتفاء بمعرفة الآخر، فقط، وإنما التطلع إلى فهمه واحترامه والتعلم منه.

… والرحلة، في هذا المعنى، ستظل، إذاً، مستمرة؛ طالما كانت هناك جماعات بشرية تبتغي التفاعل فيما بينها، وتحرص على الاغتناء بقيم معرفية مضافة… وجديدة.

د. خالد السلطاني مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون [email protected]

(*) الاقتباسات مستلة من نصوص معرض “المكتبة الملكية” بكوبنهاغن. عدا تلك المشار إلى مصدرها.

إقرأ ايضًا