… ولكن ماهي العمارة المعاصرة؟

148

عند طرح سؤال من قبيل: ماهي العمارة؟؛ سنسمع من كثر إجابات مقنعة وصائبة عن هذا التساؤل. لكن طرح تساؤلا آخرا مضمونه: .. ماهي العمارة المعاصرة؟. سنتوقع ردوداَ مبهمة وغامضة، وأحيانا غير صحيحة. ليس لأن “المجيبين” عن هذا التساؤل غير مهنيين، فمعظم المهنيين، هم أيضاً حيارى أمامه. وهذه الحيرة المشوبة بالارتباك، سببها غربة و”غرائبية” نتاج العمارة المعاصرة. ما جعل كثراَ من الناس يقلعوا عن مواكبة ما تنتجه “الورشة المعمارية” وينقطعوا عنها.

فهي عند رأي كثر، (كثر من المهنيين وطبعاً غير المهنيين)، منتج مليء بالمتغيرات المتسارعة والدراماتيكية، وحافل في “انقلابات” أسلوبية متضادة في الذوق والفهم والطرح!. غير أن الحصول على إجابات ملتبسة وأحياناً مواربة، وفي الكثير من الحالات غير مقنعة، لا يعني عدم شرعية السؤال، بل وربما بسبب هذا كله، يكتسي هذا السؤال حصافته وآنيته … وشرعيته أيضاً. وهو ما سعى وراء الاجابة عنه، على سبيل المثال، الصحفي الفرنسي “جيل دو بور” Gilles De Bure، في كتابه الشيق “حديث عن العمارة المعاصرة” Talk about Contemporary Architecture، الصادرة ترجمته الإنكليزية حديثاً (2010) من دار نشر “فلاماريون”، بعد أن صدر عن نفس الدار طبعته الفرنسية سنة 2009.

يعجبني، شخصياً، حديث الصحفيين عن العمارة. وهذا الإعجاب مرده إلى أسباب كثيرة؛ منها مقدرتهم الشجاعة (هل أقول الجسورة؟) في التعاطي مع موضوعة العمارة، بمقاربات مهنية متنوعة. كما أنهم، ولكونهم بعيدين عن المهنة، فبوسعهم أن ينظروا الى العمارة من خارجها، عكس معظم المهنيين الذين يجدوا صعوبة كبيرة في التخلي عن أمكنتهم “داخل” العمارة؛ مستمتعين بمواقعهم فيها، محاطين أنفسهم بـ “غار” مميزاتها، وما تسبغه عليهم من صفات. معلوم أن الدراسة الموضوعية لأية ظاهرة، كما تعلمنا المناهج النقدية، يتعين أن ترى بشمولية وبإدراك واسع، والأهم، أن ينظر لها (للظاهرة) من الخارج ، وليس من الداخل.

بيد أني أكن للصحفيين اعتباراً مضافاً، لكفاءتهم في إيصال أفكارهم ورؤاهم إلى الآخرين بسهولة ويسر يثيران الدهشة. كان صديقي “جلال الماشطة”، يردد دوماً مقولة لصحفي روسي، عن وجه الاختلاف بين “العالِـم” و”الصحفي”. ففي حين الأول “.. لا يعرف كل شيء، لكنه يعرف أمراً محدداً بعمق.!” فإن الثاني/ الصحفي، “يعرف كل شئ، لكنه لا يعرف أمراً محدداً بعمق!”.

وبالطبع، فإن هذا التصنيف، لا ينطبق على الصحفي “جيل دو بور” مؤلف الكتاب إياه. فهو بالاضافة إلى معرفته “أسرار” مهنته الصحفية ( وربما أسرار مهن آخرى!)، فإنه يعرف العمارة ..بعمق. وهو ما أهله ليكون أحد المحررين في أشهر المجلات المعمارية العالمية: “العمارة المعاصرة” (Architecture d’aujourdhi (AA ذات التأثيرالمهني الكبير، ومجلة “الفنون الجميلة” وكذلك “مجلة الفنون” وفي غير ذلك من المجلات الفنية الفرنسية المرموقة.

ويتعين عليّ الاشارة، والشيء بالشيء يذكر، بأن ثمة هوى خاصاً يجد مكاناً له في العلاقة بين العمارة والصحافة. وهذا الهوى المفعم بالشغف، هو الذي يجعل من الصحفيين، أحياناً، معماريين مشهوريين. لنتذكر أن “ريم كولهاس” (1944) Rem Koolhaas، كان بالأساس صحفياً، قبل أن “يتحول” إلى العمارة، وليضحى، بعدئذٍ، واحداً من نجوم عمارة مابعد الحداثة، (وهو بالمناسبة أستاذ “زهاء حديد” أيام دراستها في A.A)؛ كما أن “لو كوربوزيه” ذاته، عرف العالم المهني مشروعه التخطيطي – المعماري التجديدي، من خلال مجلته “اسبيري نوفو” (الروح الجديدة)، التى أسسها في نهاية العقد الثاني من القرن العشرين.

ومعلوم أن الاوساط المهنية العالمية علمت بمشاريع “الكونستروكتيفيزم” الروسي، ليس عن طريق المشاريع المنفذة، وانما عبر مقالات مجلتهم “العمارة المعاصرة” (C.A.). وهل ممكن أن نتناسى، هنا، ذكر اسم الصحفي والكاتب ” سيغفريد غيديون” (1888-1968)، وكتاباته الصحفية التي أثرت تأثيراً عميقاً ونافذاً في مجمل منجز عمارة الحداثة؟ وكذلك الكاتب والصحفي (قبل انتقاله الى مهنة العمارة) “جارلس جينكز” (1939) Chares Jencks، والذي بفضله ودأبه، وبفضل كتاباته تم الترويج لعمارة ما بعد الحداثة، مؤسساً وخالقاً مصطلحها وموضحا مفاهيمها التنظيرية.

لكن الإسهاب في هذا الموضوع، سيولد حكاية آخرى بالطبع. إذاً، دعونا نرجع إلى موضوعنا الرئيس، إلى كتاب “جيل دو بور”، ومعنى العمارة المعاصرة.

يجيب المؤلف الفرنسي في كتابه ذي 256 صفحة من القطع المتوسط، باختزال شديد، عن ذلك السؤال المحير والغامض، لكنه، أيضاً، المهم معرفياً. وهو يلجأ إلى عرض مختلف الأفكار بطريقة مميزة وشيقة ومفهومة،, وخصوصاً مفهومة. ذلك لأنه مطلع بأن كتابه سيقرأ من قبل كثر، مختصيين وغير مختصيين. يقسم “جول دو بور” كتابه الى عشرة فصول يتبعها بملاحق. وقد تعطي عناوين تلك الفصول للقارئ، تصوراً واضحاً عن القضايا التى يثيرها المؤلف، وعن أسلوب مقاربته في عرض تلك القضايا و”تفكيكها”.

وسأذكر هنا تلك العناوين. في عنوان الفصل الأول نقرأ مايلي: < - هل قلت العمارة المعاصرة؟>، وفي الثاني ، وفي الثالث: ، وفي الرابع: < - الجماعي ام الشخصي؟>، وفي الخامس: < - هل قلت: ثقافة؟>، وفي السادس: < - العام / الخاص>، وفي السابع: < - حلم الآلات>، وفي الثامن: < - إلى الأمام وصاعداً>، وفي التاسع: < - الرواد>، وأخيراً عنوان الفصل العاشر: < - 30 معمار، وأعمالهم المهمة>. هذا عدا العناوين الفرعية العديدة التي يتضمنها كل فصل من فصول الكتاب.

لا يألو المؤلف جهداً في تقصي وتثبيت صور نماذج العمارة المعاصرة في كتابه، لايضاح ما يريد أن يوصله الى المتلقي. فالنص التصويري لديه، لايقل أهمية وضرورة عن النص الكتابي، وهما كلاهما مميزان. ثمة اختصار ووضوح عاليين تنم عليه لغة الكتاب. فالمؤلف ضليع في اجتراح أسلوب شيق وحتى مثير في توظيفه لمفردات من خارج المتداول المعماري، وجعلها تتسق مع افكاره الموضحة للأحداث المعمارية التى يتعاطى معها، مستخدماً عبارات متناقضة بكثرة، وأحياناً موهمة بالتناقض تدلل على معناها المفارق. وكل ذلك حاضر في الكتاب، ابتغاءً إلى تيسير وصول الأفكار المتعلقة بشأن أمر معرفي معقد، لطالما اعتبر نخوبياً، أو في الأقل منتجاً غير مألوف وغير شائع لدى القارئ.

في الفصل الخاص بالرواد، يشير المؤلف إلى الاحداث التى سبقت ظهور العمارة المعاصرة، والتى يتجنب تسميتها في “عمارة ما بعد الحداثة”. فالمصطلح الأخير، لديه، يعتبره محض حالة تمظهر من تمظهرات العمارة المعاصرة. وهو في هذا الفصل يؤشر أحداثاً يسبغ عليها صفات خاصة، تدلل على أهميتها وما ترمز إليه من معانٍ. وجميع تلك الأحداث مختارة من نماذج الممارسة المعمارية التى سبقت ظهور “مركز بومبيدو” (1977) في باريس، والذي يعتبره المؤلف مفصلاً مهما في “تحول” العمارة من حديثة إلى عمارة معاصرة.

وأمام كل صورة منتقاة، من سجل العمارة خلال عشرين سنة الأخيرة، لحين ظهور المبنى الباريسي الشهير، يضع المؤلف “مفردة” لغوية توضح خصوصية الحدث المعماري المنتقى، وأهميته في التحولات الأسلوبية. ويبدأ من “رونشان” (1955) لو كوربوزيه، ويدعو نموذجها بـ “المقدس”، ثم ” المفارقة” إلى متحف غوغنهايم (1959) لفرنك لويد رايت، و”عدم التماثل” إلى ” فليرمونيا برلين” (1963) لهانس شارون، و”اللون” لدارة في نيو مكسيكو (1968) للويس باراخان؛ و”الغنائية” إلى سدني أوبرا هوس (1971) ليورن اوتزن، و”الخفة” لملعب ميونخ الاولمبي (1972) لـ فري اوتو، و”الصمت” إلى مجمع البرلمان في دكا (1974) لـ لويس كان، و”الهرطقة” لمبنى في هيوستن (1975) لمجوعة وغيرها من الاختيارات التي يوضح المؤلف في كلمات مختزلة طبيعة المبنى ومسوغاً عبرها، نوعية خياراته.

لكن الفصل الأخير، والمتضمن أعمال ثلاثين معماراً، يراهم المؤلف مهميين وأساسيين في خلق مفهوم “العمارة المعاصرة” وإدامته في الخطاب؛ يمكن أن يكون “معجماً” معلوماتياً، عن ما يجرى الآن في “الورشة المعمارية” المعاصرة. بعض أسماء أولئك المعماريين ومنجزهم التصميمي معروفة لدى كثر من المتابعين. لكن أسماء البعض الآخر، ستفاجأ القراء بالأهمية الكبيرة التي يضفيها مؤلف الكتاب على منجزهم التصميمي، واختيارهم ضمن مجموعة الثلاثين.

وعدا زهاء حديد، فإن منطقتنا خلو من حضور تلك الاسماء، التى توزعت جغرافيا ما بين أوربا (اوربا الغربية تحديدا) وأمريكا الشمالية وقسم من بلدان أمريكا اللاتينية واليابان. في تلك القائمة، لم أتعرف شخصياً، على خمسة أو ستة من المعماريين المذكوريين؛ رغم أني أعتبر نفسي، بحكم المهنة، من المتابعيين للشأن المعماري. وهو اعتراف يومئ ليس إلى صوابية خيارات القائمة التى شكلها المؤلف، بقدر ما يشير إلى النقص المعرفي، تجاه غزارة المعلومات وكثرتها عن العمارة المعاصرة، التى تجعل المرء أحياناً، عاجزاً عن استيعابها او متابعتها.

وتبقى مهمة اصطفاء معايير التقييم المعتمدة من قبل المؤلف، موضوعا قابلاً للنقاش والاجتهاد، لكن الثابت في تلك المعايير، هي خاصيتها المتغيرة بتغير الازمنة، وتبدل الذائقة الجمالية. والمؤلف نفسه يشير إلى ذلك؛ عندما يتحدث عن موضوعة “القبول/ الرفض” في العمارة. مذكراً بأن أشهر المآثر المعمارية والهندسية، مثل بناء برج إيفل (1889) في باريس، وتشييد جسر البوابة الذهبية (1937) في سان فرانسسيكو، وما رافق تشييدهما من احتجاجات صارخة، كان الزمن كفيلاً بتغيير أذواق الناس، ليضحيا هذان المنشآءان من روائع عمارة المدينيتين، بعد أن كانتا محض مشاريع غير جديرة بالبناء.

ويستشهد المؤلف، في هذا الصدد، بمقولة مثيرة يسندها إلى “جون هيوستن” مخرج الأفلام الأمريكية من أن “وحدهم السياسيون والغانيات…والأبنية القبيحة، تحظى بالقبول، إذا استمر حضورهم على امتداد فترة زمنية بما فيها الكفاية!”. وهو قول، رغم مفارقته، لكنه قطعا يشي بالصواب. في الأقل فيما يخص “الأبنية القبيحة”. هذا أمر، أنا واثق منه. أما فيما يخص السياسيين والغانيات، فالعهدة على “جيل دو بور” في نقله مقولة المخرج الأمريكي!.

وفي العموم، فإن كتاب “حديث عن العمارة المعاصرة” جدير بالقراءة، خصوصاً لاؤلئك الذين يودون أن يضيفوا معلومات معرفية مميزة الى خزين ثقافتهم، وسيكون أمرا مناسباً ومفيداً، لو تمت ترجمة هذا الكتاب القـيّم والممتع إلى العربية.

د. خالد السلطاني مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون

إقرأ ايضًا